منذ أكثر من عامين، وتحديدًا منذ بيان (فيينا 1)، فـ (فيينا 2)، فالقرار 2254، توضّح الخط التراجعي في جميع المجالات، بدءًا من تحوّلات دولية واضحة مفادها رفض أي حسم عسكري، وتشكيك في قدرة المعارضة على تشكيل البديل، بل الخوف من طبيعتها الإسلاموية، واحتمالات تفريخ تنظيمات إرهابية (كما أعلن كثير منهم صراحة)، في حين كان الحل السياسي جامدًا، يواجه صلافة ورفض النظام السوري المدعوم بذلك، بقوة، من روسيا، وبفيتوات جاهزة عند اللزوم، وقوفًا عند معارك حلب ونهاياتها ونتائجها، وصولًا إلى ما يسمى “مناطق خفض التصعيد” ومآلاتها، فسوتشي وأهدافه ومخرجاته.
بالأصل، ولعوامل كثيرة متداخلة، آثرت المعارضة العمل السياسي الخارجي، وبقايا الرهان على المجتمع الدولي وما يقدّم، وعلى الرغم من تجربة السنوات المريرة التي كانت تثبت بشكل صارخ أن ذلك الرهان خلّبي، ولا وجود له عند الدول صاحبة القرار، فإن المعارضة ظلّت متمسكة به، وكأنها لا تملك غيره من سبيل، وهذا صحيح بواقع الحال، حيث إن الخيارات الأخرى (الطبيعية) تستلزم تغييرًا جوهريًا في البنية والتنظيم والتوجه والخطاب.
لم تكن المعارضة التقليدية، وتلك الجديدة المتنوعة الخبرات والمرجعيات، في مستوى قيادة حالة سورية شديدة التعقيد، بالغة مستويات التدخل المباشر، وتعاني أزماتها الداخلية البنيوية وغيرها، فاستسهلت الرهان على الآخر الخارجي، في حين أبعدتها العَسكرة من أي فاعلية على الأرض، حين استأثرت الفصائل بالقرار العسكري والسياسي أيضًا، وهمّشت الهيئات القائمة، ولم تنجح بدورها في توحيد فصائلها وعملها؛ فتراكب وضع جديد يتسم بالانفصام بين قوى الثورة، ووجود أكثر من رأس، وبرنامج، ومرجعية، وقد برز الفعل الخارجي ساحقًا لدى معظم الفصائل العسكرية، ووقف مانعًا ضد أي عمل توحيدي، أو إتباع العسكري للسياسي، في حين كانت المسافة بين المعارضة وحواضنها الطبيعية تبتعد وتزداد فجوة، وأدّى ذلك إلى انتزاع الأوراق المهمة التي كان يمكن أن تكون قاعدة استنادها في المفاوضات وفرض حقوق من تمثل.
الآن، وقد اتضحت سياقات المسارات المطلوبة، حيث التركيز على “اللجنة الدستورية” وفق مخرجات سوتشي، وبروحية المشروع الروسي الذي يبدو أنه يملك الضوء الأخضر من الولايات المتحدة الأميركية، وممارسة الضغط الشديد، ومتعدد الجهات على المعارضة، للانخراط في هذا السياق الغامض المضمون، والمستقبل.
وحيث تتضح أسسه القائمة على مصالحة عامة مع النظام، ضمن عنوان يمكن أن يكون “حوار السوريين مع بعضهم”، بواقع ضعف المعارضة وفقدان معظم أوراقها، وانزياح الثوابت التي اعتبرتها الخط الأحمر الذي لا يمكن الاقتراب منه؛ فإن السؤال المُحرج يطرح نفسه بقوة: إلى أين تذهب المعارضة؟ وماذا بيدها لتفعل وتضغط غير تسوّل مساندة من الآخرين، وانتظار ما تسفر عنه الوقائع؟
لسنوات طويلة اعتبرت المعارضة، وخاصة الائتلاف، والهيئة العليا للمفاوضات، فالهيئة السورية للمفاوضات، أن أساس القبول بالحل السياسي هو الالتزام ببيان (جنيف 1)، ومحوره تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات كاملة، وبدء العملية الانتقالية، شرط عدم وجود الأسد وكبار رموز النظام فيها، وقد تمسّكت بهذا الشرط في مؤتمر (الرياض 2) رغم الضغوط، ورغم أن المُخرجات وما يعرف بدخول المنصات تقوّض مضمون هذا الشرط.
الآن، يبدو أن المرحلة الانتقالية برمّتها قد حُذفت، أو أنها متناثرة عبر ما يعرف بـ “البيئة الآمنة”، و”إجراءات الثقة” التي تضمن إجراء انتخابات نزيهة، نسبيًا، والتركيز على الدستور مدخلًا للانتخابات، ولكافة الإجراءات اللاحقة، أي أن الشروط التي وضعتها المعارضة قد أزيحت، أو هي خارج ما يجري لتشكيل اللجنة الدستورية.
هيئة المفاوضات السورية وجّهت رسالة للأمم المتحدة مكوّنة من 12 نقطة، تركز فيها على شروط وثوابت الحل السياسي، ورؤيتها، والإلحاح على العملية الانتقالية، وعلى الموقف من رأس النظام وكبار رموزه، واعتبرت تلك الشروط، أو البنود شرطًا للمشاركة في اللجنة الدستورية، لكن واقع الحال يقول غير ذلك تمامًا، فبنود الرسالة لم يأت الردّ عليها لا من الأمم المتحدة، ولا من الجهات الدولية المعنية. على العكس فالمواقف المعلنة مخالفة لما ورد في الرسالة لدى تلك الجهات، وبالتالي تبدو الرسالة مجرد تبرير لإعلان الموافقة على الانخراط في تشكيل اللجنة الدستورية، بالمواصفات المطروحة التي تشرف عليها “الدول الضامنة الثلاث” لسوتشي ومخرجاته.
هذه اللوحة الواضحة تضع المعارضة أمام تحديات صعبة، تهدد بالانقسام والشرذمة، وسط أجواء الإحباط وتناثر التهم الثقيلة التي تصل إلى حدّ الخيانة بأن المعارضة فرّطت بالثوابت، وأنها سائرة نحو المصالحة مع النظام بأثمان بخسة يغلب فيها الجانب الشخصي، ومصالح بعض الواجهات والأسماء، في حين تبدو الخيارات البديلة غير ناضجة، ولم يجر الإعداد لها، وسط أجواء شعبية تتسم بالانكفاء، والإحباط، وضعف الثقة بكافة تلاوين وهيئات المعارضة، وهو الأمر الذي يثقل تلك الخيارات بمزيد الصعوبات.
يُعلمنا تاريخ الثورات أن الشعوب المؤمنة بقضيتها لا يمكن أن تستسلم طويلًا للأمر الواقع الذي يُفرض عليها، وهي تمتلك دومًا قدرة استنباط البدائل، مهما كانت مكلفة وطويلة، هنا يجب التأكيد على أننا نعيش واقعًا احتلاليًا مركبًا، وأن الوضع السوري شديد التعقيد، ولن يجد حلوله الطبيعية في زمن قصير، ناهيك عن أن الحلول التي تفرض وتكون تعسفية ومجحفة لن تعيش طويلًا.
هذه الوقائع تفتح الطريق لخيارات أخرى، جوهرها وأساسها العودة إلى الشعب وفعالياته، عبر عمليات إعادة النظر في سياسات المرحلة السابقة، وتجاوز الأخطاء، والعمل وفق برنامج عملي يحدد الاستراتيجية والتكتيك، ويعي الفرق بين المرحلي والمستقبلي.
هذا الخيار الرئيس سيواجه صعوبات كثيرة، ذاتية بالأساس، وأخرى ناجمة عن سطوة وقوة الدور الخارجي، لكن لا خيار آخر لمن يريد التمسك بالمبادئ وجوهر الثورة وغاياتها.
Social Links: