ياء الملكية – ليلاس دخل الله

ياء الملكية – ليلاس دخل الله

ياء الملكية
ليلاس دخل الله
في حضرة الماضي، تجلسُ على الأريكةِ تتأملُ قطعاً من النقود، غائبة ملامح الحياة عنها، في حضن الصمت، حيث منتصف الليل .. لا شيء سوى أنين السماء..؟ همسُ خطوات ناعمة ، دخل ما بين تكات الساعة.
‘ أميرة ‘…ما الذي يوقظك للآن يا ابنتي؟ التفتت ..
تراه يقف منحني الظهر، وجهه شاحب والشيب يتلبس شعره .. إنه والدها الذي لم يتجاوز الأربعين من عمره، منذ شهور … كان مُعترماً، ذو نظرةٍ تشطرُ القلب هيبةً ..
زادها حالُ أبيها، الرجلُ الملتوي هماً ..
اختطف وعيها من جديد فلم تعقل كلماته ..
اقترب منها أكثر ثم جلس بقربها، يلاطفها، ويداعب شعرها، فيتمتم بعد رحلةٍ مضاها بعينيه في عينيها.
قد كان يليق بك الجنون والصوت الصاخب والكلام الصائب والقلب الحنون ..
أكرمينا بضحكتك البريئة .. بأحاديثك الجريئة .. وثرثرتك المثيرة، أين كل تلك الألحان ..؟
ما بالك يا حلوتي أنت..؟
قالت أتراني ما زلت جميلة يا أبي..
بل وأنك الأجمل يا حبيبتي …
ألا تري أن النقود مغرمة بك..؟
ويتنهد بضحكةٍ مبحوحة، أتعجبكُ النقود يا أميرتي ؟
قالت أشتاق للنقود يا أبي..
أصغى إليها متعجباً .. وبنظرات ممتلئة بالاستفهام ..؟
أتذكر الورقة النقدية المجعدة المتعرقة في جيبك .. اشتقت لها..؟
إن الشراب يولع بي النار يا أبي كأنه الوقود في الأكواب .. وإن الطعام لا يزيدني إلا جوعاً ..
أكتب علينا لقمة مغمسة بالدم أو بالدمع..؟
أشتاق لثيابي يا أبي، للبسمة أرتديها صباحاً تستر آلامي، والكبرياء أعترم به بصوت يجلجلُ أملاً
أحنُ لحجرتنا الصغيرة وللشجارات الكثيرة ..
هذا البيت ليس لنا، وليس منا، ولسنا فيه..
والمال ليس من حرنا ولا من ملح جبينك..؟
إنني يا أبي أتعطشُ … لياء الملكية ..
أدركتُ لذةَ الحلويات التي كُنت تجلبها لنا نهاية الأسبوع ، وثمن الأشياء التي كنتُ أشتريها من تحصيل ما كنت تُعطيني من نقود.
أدركتُ أن الوطن فعلاً هو الأم التي كيفما كانت ستبقى الأمان و الاطمئنان لأطفالها.
أتعطشُ لرائحةٍ عالقة بي ، أكاد أعصرُ نفسي خوفاً أن تخرج مني، و أبحثُ عنها ولا أجدها.
أشعرُ بخوف لم أعرفه قط.
وكأن الخوفَ يلتهمني كما تلتهمُ النار بلدي.

غارق الأب في نقاء ما تسرده الأميرة.
الآهات الملطخة بالدمع والدم تتصارعُ في عينيه والتنهيدة التي تخنقُ الكلمات بداخله، فتموت شهيدة الكبرياء، غارق في وحل ما يعيشه الجيل اليوم، وما سيعيشه غداً.. يغيب هو عن نفسه .. يعاتب هجرته .. ثم يجمعُ نفسهُ أو ما تبقى منها ويقول للأميرة:
والله ما مال قلبي للفراق، وإنها لقاهرة الأشواق ..
أُجبرتُ أن أرحل، و لم اختر، إنهم حيوانات مُفترسة يغتصبون نساءنا، يقتلون أطفالنا، ينتهكون حرماتنا خشيت عليكم أن تموتوا على أيدي مندسة ..
أن أُقتل أنا وتتسلى بكم العقارب الملونة .. أن يُأخذ ولدي مني بذريعة المقاومة، ويضيع جثمانه ما بين الفتنة والمؤامرة، إن الوطن غالي جداً يا بُنيتي، لكن كان علينا أن نأخذ موقف.
فالهجرة رفض لجرائم النظام والهجرة رفضٌ أيضاً للمساومة حينما تتكالب الأمم علينا.
رفضاً للبقاء تحت رحمةِ استبداد النظام، ونفاق الدول، بل وإجرامهم بحق الإنسانية قبل أي شيء.
كُنت قد دافعتُ عن شَرفي بكل قوتي وما مَلكت، ولكن بعد ستة أعوام من الثورة، وبعدَ أن تحولت ل تجارة سلاح و أرواح ومُفاوضات للبيع مرةً والشراء مرةً أُخرى لم أستطع البقاء.
قد وقعتُ ما بين اختيارين أحلاهما مُراً.
يا أميرة، يا طفلتي الأميرة.
اسمعي يا بنتي هُناك مَن يحبُ الوطن فيبكي عليه أو يزرعُ بهِ وردة.
التجربة تصنعُ الشخصية كما تزيد النار صلابة الحديد، استثمري حُبك بالفعل، وعَطشك لإثبات الذات بالعمل.
اللقاء مرةً أُخرى قادمٌ لا مُحال، فكما لا يوجد حياة دون موت، لا يوجد فراق دون لقاء.
لا تُفكري متى اللقاء، بل حَضري نفسك له، فسوريا ظمأى لأيادٍ تُعمرها بالحب والسلام..

  • Social Links:

Leave a Reply