أسد القصار
… ثلاثة محاولات للسفر تهريباً إلى اليونان عبر البحر،، لم أنجح في واحدة منها، ولا حتى بأن أبلل قدماي بالمياه البعيدة لبحر إيجة .
كنت كغيري من السوريين، وحيداً ولكن.. ضمن مجموعة، قوام تلك المجموعة ٥٠ شخصاً.. تكونت بحكم وحدة الهدف والضرورة، في مدينة ازمير التركية، ازمير،،، مقصد كل من أراد العبور بحرا إلى شاطئ القارة العجوز.
مرة يوصلنا المهربين إلى غابة، يأخذون نقودنا، ويتركوننا بعدها هناك، مما اضطرنا للمشي ليوم ونصف حتى وجدنا قرية صغيرة، عدنا منها إلى أزمير محملين بالتعب والخيبة.
المرة الثانية.. كانت بعد ثلاثة أيام من سابقتها… في حينها قبض خفر الحدود على مجموعتنا ونحن ننتظر إشارة المهرب للاتجاه إلى البلم، في بيتٍ خربٍ يبعد عن الشاطئ نصف كيلو متر وقاموا بارجعانا إلى أزمير وحبسنا لمدة يومين، بعدها.. أطلقونا إلى مصائرنا المجهولة.
المرة الثالثة.. وصلنا إلى الشاطئ، المكان آمن، القارب أمام انظارنا لا يبعد عني سوى بضعة امتار، سبقنا اليه أحدنا ( لا يضحي المهربون بانفسهم في رحلة قد يكون الموت غايتها النهائية، لذلك يقوم بسياقة البلم واحد من مجموعة المسافرين) ، ربع ساعة، نصف ساعة، ساعة! .. والبلم واقف في مكانه لا يتحرك.. عاد صاحبنا وصاح بنا : المحرك منزوع.. فقال المهرب : عودوا إلى السيارات، ستقلكم إلى أزمير.. انتظروا مكالمة مني لاخبركم بها عن موعد الرحلة القادمة.. قال تلك الجملة ببساطة مطلقة وكأن الأمر نزهةٌ.
في ساحة بصمنة وفي مقهى ومطعم هو أقرب إلى المبولة من كونه مطعما ومقهى.. اسمه السندباد على ما اذكر، جلست ولا يوجد حولي سوى تلك الوجوه الحائرة، ولا حديث حولي سوى حديث التهريب والوصول إلى اليونان، تأملت في تفاصيل المدينة من حولي بقرفٍ شديد وبت على يقينٍ انها مدينةٌ ملعونة عاهرة.. كلما حاولت الهرب منها اعادتني الاقدار إليها وكأنها ربطت عنقي بجنزير حديدي تجذبني منه كلما ابتعدت.
بعد يومين تلقيت مكالمة من المهرب، تفيد بأن انطلاقنا سيكون بعد ساعتين، التقى بمجموعتنا في زقاق ضيق خلف محطة القطارات وصعدت مجموعتنا بكاملها في سيارة فان مغلقة في رحلة إلى نقطة الانطلاق استغرقت ثلاث ساعات.. خمسون…. في سيارة واحدة.. رجال، عجائز، نساء، أطفال.. جميعا كنا فوق بعضنا وكأننا أكياس قمامة، نتنفس أنفاس بعضنا فلا أكسجين! ، تتلاصق أجسادنا، نقيئ على بعضنا البعض، يفقد البعض وعيه فيصبح ثقل جسده عبئا على الجميع.. حدث كل هذا ولم ينطق احد منا ببنت شفة! .. كم هو غريب أن تكون رحلةٌ هدفها النهائي الوصول إلى بقعة أرضٍ أنعم بها بالحرية والاحترام والعيش الإنساني، ذات بداية مهينة مذلة حقيرة بهذه الصورة.
وصلنا ليلا إلى نقطة الانطلاق، فتح السائق باب الفان الخلفي ليتيح لنا الخروج.. فتدحرجنا خارجها جميعا دفعةً واحدة متشوقين إلى تنفس الهواء، سائق البلم بانتظارنا داخل البلم، المحرك يعمل وسرعان ما قفزنا إلى البلم.. السائق واثنان منا في المؤخرة، قسم منا على يمين البلم والآخر على يساره، والباقي على أرضية البلم بين المجموعتين كان جلهم من الأطفال.. انطلق البلم وبدأ ابحارنا في جنح الليل.. حينها فقط أحسست بالراحة والسعادة واقتراب تحقيق الهدف المنشود الذي طال عناء انتظاره .. احساسٌ.. سرعان ما تبدد حين اختفت اليابسة تماما وأصبح البحر محيطا بنا وعلى مد النظر من كل الاتجاهات.. تملكني الرعب والخوف.. في حينها قلت لنفسي : ما انا إلا حمار احمق بين مجموعة من الحمير والحمقى!
، كيف قمنا باقناع أنفسنا بأن هذا البلم المطاطي التافه رديئ الصنع، الذي يصلح بالكاد لنزهة نهرية قصيرة في يوم مشمس، يقوم بها خمس أشخاص على أكثر التقدير، بأنه قادر على الابحار بخمسين انسان من الشاطئ التركي قاطعاً بحر إيجة إلى أحد الجزر اليونانية.. اننا ننتحر عمداً وبغباء وسذاجة مستفحلة! ولمَ كل هذا؟ هل تستحق أوربا خوض هذه المقامرة اللعينة؟! هل سأغرق؟ هل سأموت ميتة تافهةً دون حتى أن يكون لي جنازة و قبر يضم عظامي، يزوره ولدي بين الحين والحين؟ هل سأموت دون أن أرى دمشق؟ هل افلتتني الاقدار من الموت في المعتقل لتكون نهايتي عبثيةً على هذا النحو؟!
اخرجني من حديثي الهستيري مع ذاتي، مطرٌ منهمر، رياح شديدة، والموج الذي يضرب ظهري بقوة، وصلوات ودعوات وتوسلات من هم حولي، بكاء الأطفال.. وامرأة حلبية تولول :حنموت، حنموت، حنموت! .. الحالة في حينها كانت أقرب إلى حفلة هستيريا ورعب جماعية.. زادت الأمطار، واشتدت الرياح وارتفعت الأمواج اكثر واكثر.. وزاد الرعب والبكاء والصلوات ونواح المرأة الحلبية : حنموت!
من بعيد رأينا ضوء مارينة سفينة إنقاذ.. اقترب الفرج.. فعلا سفينة إنقاذ يونانية.. وبدأنا بالصياح.. رفع أحدنا طفله إلى الأعلى ليدل على وجود أطفال معنا في البلم! تفصل بيننا وبين القارب مائتا متر تقريبا.. توقف المحرك وبدأت المياه بالدخول الي البلم .. زاد صراخنا.. كانوا يسمعوننا ويروننا بوضوح لكنهم لا يحركون ساكناً! في تلك الاثناء شق عباب البحر من خلفنا قارب إنقاذ آخر يحمل علم تركيا توقف على مسافة مماثلة من الطرف الآخر وأيضا لم يقدم على فعل اي شيئ.. ناديناهم، صحنا بهم.. يونان، أتراك شياطين فلينقذنا اي منكم يا ابناء القحبة وليخرجنا مما نحن فيه.. بتنا كالمستجير من الرمضاء بالنار!! عتت موجةٌ على القارب فقلبته وقذفتنا جميعا خارج القارب، شاهدت بأم عيني عائلة من إدلب رجل وزوجته ورضيع وطفل في الخامسة يتكدسون فوق بعضهم، وحده الرجل من كان يلبس سترة نجاة يصارعون ويصرخون ويقولون يالله… يالله.!!، كان وقع حرف الهاء المخلوط بالاختناق بمياه البحر آخر ما نطقت به تلك المرأة قبل أن يغرقوا جميعا ..نحن نموت فعليا على مسمعهم واضواء كشافات خفر السواحل التركي وفريق الإنقاذ اليوناني .. بعد ساعة من الصراع للبقاء على سطح الماء، هدات الرياح وهدأ الموج.. و استطاع الاحياء ممن تبقوا من مجموعتنا وانا منهم السباحة و العودة إلى القارب بعد قلبه.. حركت الأمواج والرياح قاربنا ببطئ نحو اتجاه قارب خفر السواحل التركي، وبعد مدة من الوقت انصرف قارب الإنقاذ اليوناني وبدأ القارب التركي بالاقتراب حتى كاد يلاصق البلم.. رمى إلينا بحبل والتقطه انا، شدنا اليه وبدأ بالتقاطنا واحدا تلو الاخر واصعادنا إلى القارب.. تبين لنا في ما بعد.. ان البلم قد تعطل في المياه الإقليمية بين تركيا واليونان ، وأنها مياه ممنوع الابحار فيها من الطرفين.. وان كليهما كان ينتظر ان يميل البلم او تتجه أجسادنا بعد غرق البلم إلى مياهه الإقليمية ليقوم بالتقاطنا..
ابحرت سفينتنا إلى الشاطئ التركي.. وصلت مع من تبقى من مجموعتنا متعبا مبللا حزينا مقهورا مدمرا.. اجلسنا العساكر على رصيف الميناء ساعة أو بضع ساعة ثم اصطحبتنا حافلة الى مخفر الشرطة.. ادلينا باقوالنا واصطحبتنا ذات الحافلة الى كراج الباصات.. وقفلتُ مرة أخرى الي مدينة الإثم.. ازمير.
،،، يتبع
21/5/2020
ألمانيا – زاكسن
Social Links: