جذر منصور الأتاسي الذي هناك! – علي العائد

جذر منصور الأتاسي الذي هناك! – علي العائد

جذر منصور الأتاسي الذي هناك!

علي العائد

ليس في الموت ما يفاجئ. لكننا منذورون للندم مع كل موت، مع السؤال: كيف تركنا من نحبهم ونحترمهم بعيدين عنا قبل أن نفارقهم ويفارقونا؟

جذورنا التي هناك هي قبور من سبقونا. أما هنا، فلا جذور لنا، أو نحن من بدأ بغرس فسيلة من أرواحنا هنا، نخشى أن تتجذر فننسى جذورنا التي هناك.

من حمص، إلى إسطنبول، فارق منصور الأتاسي جذر أجداده الأول، وأرغم الدكتاتور بتلات عائلة الأتاسي وأغصانها على زرع قامة من سنديان في ضواحي إسطنبول، وسط تراب لا يشبه تراب حمص، كما يخبرنا الحنين الأول إلى العدية.

جذورنا قبورنا! هكذا اعتقدت أقوام عديدة، قديمة وحديثة.

ليس على مثال الخلود والبعث الفرعوني، أو الفناء الهندوسي، بل لأن الأجداد والآباء في استقرار حياتهم في مكانهم الأول يمنحون الأبناء والأحفاد استقراراً أكثر ثباتاً، فهل السوري ثابت مستقر في أماكن نزوحه وللجوئه؟

هنالك أمثلة عصية على الفهم في الزمن القصير على ما سنعانيه جميعاً، ومنهم عائلة صديقنا منصور الأتاسي، الذي لم يلجأـ أو يهاجر، إلى تركيا كي يغرس جسده فيها، فهل نترك جذورنا الغضة في مغترباتنا، ونعود إلى جذورنا الأقدم، في حمص، مثلاً، أم نتمسك بمكاننا الجديد ونتعهد الجذر كي يكبر.

حنيننا، وحنيني، إلى منصور، الذي عرفته متأخراً أنه كان سوريٌ كثيرٌ. بل إن سوريته فائضة عن الاحتمال، لدرجة أن منتقديه وصفوه بالحالم، وسط حالة التردي السوري، اجتماعياً، وسياسياً، وإنسانياً. أراد تحت ضحكته العميقة أن تتسع خيمة تغريبة سورييه لمجتمع اللاجئين العائدين إلى بلادهم، ليس في غيتو، وإنما في حركة منظمة يتعاضد فيها أفراد، أو أحزاب، ليقولوا كلمات قليلة وسط فعل كثير. وهو ما لم يكن ممكناً مع استطالة الأيام والشهور والسنوات على الثورة التي أنتجت حرباً عابرة للمعتقدات في بلد تفسخت فسيفسائه إلى جثث فاحت رائحتها. مع ذلك، اعتقد منصور أن جمع السوريين ممكن، وظل حتى أواخر أيامه في محاولات جمع أكبر عدد ممكن من السوريين، يستمع إليهم ويحدثهم، من دون أن يفقد الأمل.

هل كان يفكر منصور في تلك السنوات بشيء آخر سوى العودة، وبلسان الحال: “أنا عائد لأعيش في وطني”؟ نعم، بالتأكيد، لكن خيانات الجسد كانت فوق طاقة جسده على الاحتمال، كما ستكون خيانتنا للأمل الذي رباه منصور خيانة مضاعفة إن ربينا جذراً في مغترباتنا بديلاً من جذرنا الأول. والفرق هنا أننا لم نختر أن نتغرب. فمن اختار حالة الغربة الدائمة، بإرادته، يكون قد هجر جذوره الأولى ليؤسس جذراً في مكان ما، وحتى لو دهمه الحنين بين فترة وأخرى، فسيكون ذلك من باب الترف وحرية الاختيار، التي لا نلومه فيها.

فائض القول في حالتنا، نحن السوريين، ومنصور منا، مما يلزم حقاً، فليس في كل اختصار بلاغة، بل البلاغة في النظر إلى كل حالة مما نرى كأنها فريدة، وأن نستفيض في تفاصيل التفاصيل.

من التفاصيل، على مائدة عشاء في بيت منصور العامر بالأصدقاء، شعرت أنني من حمص، وأنا أمد يدي إلى شريحة بنفسجية مقلية من الباذنجان الحمصي الشهير. حنين أبو مطيع في مائدته وصلنا نحن ضيوفه السوريين، من دون أن يقول كلمة، لأننا مثله كنا نحنُّ إلى شيء ما في سوريا، وهماً، أو حقيقة.

وكما توهم الفلسطينيون في أول عهدهم بعيداً عن بياراتهم: “وين ريحة برتكان البلاد من هالبرتكان”، كان باذنجان حمص مختلفاً تلك الليلة، لكنه ذكرنا بباذنجان البلاد الحمصية، ولو أن ترابه هنا في تركيا مختلف عن تراب حمص.

الآن، سنخشى، إلى حين، أن يتناقص حنيننا، ويتوقف عن الاستبداد بنا، كما حدث مع الفلسطيني الذي بدأ يحن، بعد ثلاثة أجيال بعيداً عن فلسطين، إلى المخيم. ومع أن حنينه إلى البلاد، وتمسكه بحقه السياسي، وحقه في العودة، لم يفتر، فإن جذره، هنا في المخيم، يتنازع الحنين مع جذره، الذي هناك، في فلسطين.

  • Social Links:

Leave a Reply