محمد بلال
في لحظة تداعٍ صباحية للأفكار وقبل تمام الاستيقاظ، إشتطّ تفكيري لأيام قديمة خَلَت، قد تصل إلى ستة عقود مضت، وتداعت الأفكار تتدافع، فتذكرت قرانا الجميلة الهادئة التي كانت تغذيها الأنهار أو الينابيع لتجعل منها جناناً وارفة، حيث كانت تلك الأنهار والينابيع تعدّ شريان الحياة لهذه القرى البسيطة ولأهلها، فمنها العمل، ومنها الكفاية الغذائية، ومنها جمال الغوطة الساحر.
هناك كان الفلاح يعمل وعائلته في الزراعة وتربية الحيوان، فالأرض تعطي محصولها والحيوانات إنتاجها، ويتمّ التبادل القليل بين سكان القرية والقرى المجاورة، وبين القرية المدينة مما يؤمن الكفاية الغذائية وراحة البال بهدوء الحياة ورتابتها.
وتقسّم السّنة إلى مواسم عمل، ومواسم راحة، فالكل مطالب بالعمل في مواسمه كالزراعة والحصاد وجني باقي المحاصيل، فهي فترة عمل وجدّ، والكل بعدها يستمتع بفترة الراحة التي تخلو من الإلتزامات الجديّة، ويتفرغ المجتمع الزراعي حينها لإكمال باقي النشاطات الإجتماعية وأهمها كانت مواسم الأعراس التي تبرز فيها نشاطات الشباب في مسابقات الخيول، والمبارزة، والتباري بالقوى البدنية كرفع الأثقال التي كانت تسمى (الصَلْبَه) وسرعة جزّ صوف الأغنام، والقدرة على غَزْلِه وحياكة مايحتاجونه منه، وهذه النشاطات وغيرها هي التي كانت تمنح الترتيب الاجتماعي للشباب فيما بينهم، فضلاً عما اكتسبوه من انتسابهم لعائلاتهم التي كان يُصنف ترتيبها حسب عدد شبابها وقوتهم وشجاعتهم، وهكذا تتالى الأيام والفصول والسنين برتابة تكاد تكون شبه برنامج عمل شهري وفصلي وسنوي.
وقليلاً ما تشهد تلك القرى مايكسر تلك الرتابة ويضطر سكانها لتغير سلوكاتهم الروتينية، وكل هذه الرتابة نتجت عن ثبات قوانين الطبيعة، والريّ والزراعة والحصاد، وجني المحاصيل جزء منها، وهي التي نتجت بدورها عن وجود تلك الأنهار والينابيع، ولكنها كانت تربط الناس، كل الناس بدورتها التي تغنيهم عن التفكير بطرق جديدة لكسب الرزق، أو الخروج إلى المدن والعمل فيها والتعرف على أنماط تفكير وطرائق حياة مختلفة.
كما أنها تغنيهم أيضاً عن إرسال أبنائهم إلى تلك المدارس التي بنتها وزارة المعارف حديثاً، والمجازفة بخسارة جهدهم ومساعداتهم وتعريضهم لمستقبل مجهول، بل إنهم كانوا يخافون ذلك المجهول، الذي يكسر المألوف ويُخرج الأبناء عن سيطرة الآباء، وكان يُكتفى بما يقدمه شيخ الكتّاب من تعليم القراءة وشيء من قراءة القرآن الكريم.
عندها خطر ببالي أن تلك الأنهار والينابيع رغم عطائها المتدفق كانت سبباً في عزلة الناس وتقوقعهم واعتصامهم في قراهم خلف المحاريث القديمة، والرعي وبدائية التفكير الأدوات.
فالناس يذكرون تلك الأيام بالإطراء والمديح ويصفونها بأيام الخير والبركة، لكنني وجدت أني أختلف معهم بالاستنتاج، لأن تلك الأنهار والينابيع بما تحمله من خير، كانت عامل فصل بين الناس والعلم والإنفتاح وكانت مسؤولة عن الوقوف في وجه تطور البشر الذي هو سرّ تطور الحياة، بينما كانت بعض شرائح المجتمع، (بوحي منها أو بدفع من غيرها) ترى في الخروج عن الموروث المألوف والإنفتاح على المجهول، حياة لا بدّ من خوض غمارها، لكسر القواعد الإجتماعية ولسلب الآخر خصوصياته والتسلط عليه.
لقد حوّل الإنسان بجهله تلك الأنهار والينابيع من ينابيع عطاءٍ إلى بِركٍ آسنة تستهلك دورة حياة الأفراد والمجتمعات دون كثير فائدة، بدل أن تكون شريان حياة ونماءٍ لها.
وتأكدت أن التفكير خارج ساحة المدركات، دائماً كان أمراً إيجابياً علمياً وعملياً، وهو الذي يمنح الحياة استمرايتها وتجددها .
Social Links: