علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاريخية – 5- قوانين المادية التاريخية – علي أسعد وطفة

علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاريخية – 5- قوانين المادية التاريخية – علي أسعد وطفة

علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاريخية

علي أسعد وطفة

” إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم؛ إنهم لا يصنعونه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظل ظروف قائمة بالفعل، ظروف ورثوها ونقلوها من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الميتة تثقل مثل جبال الألب على أدمغة الأحياء ” [1]/ كارل ماركس “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت”

الحلق الخامسة
5- قوانين المادية التاريخية:

يرى ماركس أن قانونية الطبيعة تشمل القوانين الاجتماعية وتضمن لها نوعيتها، فالقوانين تحكم البشر والظواهر الاجتماعية بالضرورة وإن كانت أكثر تعقيداً منها في الطبيعية، وفي هذا الأمر يتساءل “آلان وودز” في مقالة له حول المادية التاريخية بقوله: ” لماذا يجب علينا أن نقبل بأن الكون بأكمله، ابتداءً من أصغر الجسيمات وصولاً إلى المجرات البعيدة تحدده القوانين، وأن السيرورات التي تحدد تطور جميع الأنواع محكومة بالقوانين، بينما تاريخنا، ولسبب مجهول، لا تحدده أي قوانين؟” [25] ثم يتابع هذا الأمر بقوله: “إن أولئك الذين ينكرون وجود أي قوانين تحكم التطور الاجتماعي يتعاملون مع التاريخ من وجهة نظر ذاتية وأخلاقية[26]. ويسترسل وودز بقوله: ” قبل ماركس وإنجلز، كان معظم الناس ينظرون إلى التاريخ على أنه سلسلة من الأحداث غير المرتبطة أو، إذا أردنا استخدام مصطلح فلسفي، مجرد “صدف”. لم يكن هناك أي تفسير عام، ولم تكن للتاريخ أي شرعية. ومن خلال إثباتهما لحقيقة أن كل التطور الذي تعرفه البشرية يعتمد في الأساس على تطور القوى المنتجة، تمكن ماركس وإنجلز من أن يقيما دراسة التاريخ على أساس علمي لأول مرة” [27]

يرى ماركس أن المجتمع جزء من الطبيعة والإنسانية صورة نوعية من صور الوجود الطبيعي، فالإنسان كائن يولد في الطبيعة ويغتذي منها ويتفاعل معها شأنه شأن أي كائن طبيعي يعيش فيها، ولا يمكن الفصل بين الإنسان والطبيعة على وجه الإطلاق، ومع ذلك فإن القوانين التي تحكم المجتمع تختلف نوعياً عن هذه التي تحكم الطبيعة وإن كانت لا تعاكسها ولا توجد في حالة تضاد معها. ويكمن الاختلاف بين قوانين الطبيعة وقوانين المجتمع أن قوانين الطبيعة تحكمها العلاقات القائمة بين قوى الطبيعة ذاتها دون تدخل قوى خارجية عنها، وعلى خلاف ذلك فإن القوانين الموضوعية في المجتمع تتشكل من خلال التأثير المتبادل بين الناس، وهذا يعني بحسب التصور الماركسي ” أن المجتمع هو شكل خاص، وبكلمة أدق، شكل اجتماعي لحركة المادة. ولهذا فالسؤال يتحول هنا إلى صيغة أخرى: أيمكننا شرح هذا الشكل من الحركة بمساعدة القوانين التي اكتشفتها الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا؟ [28]. وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال يرى الماركسيون ” أن الشكل الاجتماعي، ككل شكل معقد لحركة المادة، لا يمكن أن يُشرح أو يُفسر بقوانين الأشكال البسيطة لحركة المادة. ولهذا فان المحاولات لفهم التاريخ بواسطة القوانين التي اكتشفتها الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ضعيفة في أساسها وناقصة، فمع ظهور المجتمع الإنساني تظهر قوانين جديدة خاصة. إلّا أن هذا لا يمنع وجود بعض السمات العامة بين الظواهر الطبيعية والاجتماعية. ولذا لا يمكن نفي إمكانية تطبيق بعض الطرائق ـ مثلاً، نظرية الاحتمالات الرياضية – في دراسة الظواهر الاجتماعية في حالات معينة. لكن المهم في الأمر هو فهم عدم إمكانية نقل العمليات الاجتماعية التاريخية نقلاً آلياً الى عمليات الطاقة والبيولوجيا وغيرها، لأن هذا يقضي حتماً على تلك الفوارق النوعية المميزة التي تفصل الأولى عن الثانية ” [29].

وتأسيساً على ما تقدم يمكن القول: “إن المجتمع الإنساني جزء متمايز من الطبيعة، ولا يمكن بأي حال فصله عن بقية الطبيعة، وهو دائماً في حالة تفاعل معها، وهذا الجزء من الطبيعة الذي يتفاعل معه المجتمع بصفة دائمة ومباشرة ويتأثر بالمجتمع ويؤثر فيه في آنٍ واحد يسمى البيئة الجغرافية وتشمل الطقس، والتربة، والأنهار، والبحار، والنبات، والحيوان، وتضاريس الأرض، والمعادن. الخ والبيئة الجغرافية شرط ضروري لنشاط الإنسان الإنتاجي ودون التفاعل مع الطبيعة لا يمكن أن يكون هناك عمل ولا نشاط إنتاجي [30]. وفي هذا السياق أيضا يقول ماركس: ” إن الناس خلال العملية الإنتاجية لا يغيرون. من الطبيعة فحسب، بل يغيرون من بعضهم بعضاً” فهم يستطيعون الإنتاج فقط نظراً لتعاونهم بشكل معين واعتماد نشاط كل منهم على الآخر”. فلكي ينتج الناس لابد أن يدخلوا في علاقات محددة مع بعضهم بعضاً وعن طريق هذه العلاقات يمكن أن يؤدى نشاطهم إلى الإنتاج وتغير الطبيعة. ولكن لابد من توافر ظروف طبيعية لكي يستطيع الإنسان أن ينتج ولكي تنشأ حياة اجتماعية وهذه الظروف شرط ضروري للحياة الاجتماعية ولكنها ليست ظروفاً كافيةً لقيامها “[31].

وفي هذا المسار يمكن القول: إن المادية التاريخية تدرس القوانين العامة الشاملة للمجتمع التي تختلف جوهريا عن هذه القائمة في المجالات العلمية كما هو الحال في الفيزياء والكيمياء والفلك وغيرهما، ويؤسس على ذلك أن المادية التاريخية تدرس المجتمع بوصفه كلاً حياً متفاعلاً متكاملاً يخضع لسطوة قوانين موضعية وهي في هذا السياق – أي المادية التاريخية – تعالج قضايا المجتمع في إطار وحدتها وتكاملها وخضوعها لثمة قوانين موضوعية ينتجها الناس في إطار تفاعلهم الاجتماعي والاقتصادي.[32]

ومن أجل تشكيل هذا الوعي القانوني بالظواهر الاجتماعية يجب على الباحثين أن ينطلقوا من معطيات الماديتين الجلدية والديالكتيكية لفهم القوانين الديالكتيكية التي تحكم حركة التطور في الطبيعة والمجتمع، وإدراك منظومة المفاهيم والمقولات الأساسية في الديالكتيك الماركسي.

وهنا يجب النظر في معطيات القانون الأساسي الذي ينطلق منه هيغل في جوهر فلسفته الديالكتيكية ما يمكن أن نسميه قانون الديالكتيك الثلاثي الحاكم للعلاقة بين الأطروحة وطباقها أو بين الفكرة ونقيضها. فمن المعلوم أن لكل شيء في عالم المادة والأفكار ما يناقضه، وبالتالي فإن العلاقة بين الفكرة و نقيضها أو الشيء ونقيضه يلزم عته حركة جدلية متكررة في أربع خطوات مستمرة الحدوث، وهذا القانون جعله هيغل في الفكر وماركس في المادة قانوناً كلياً شاملاً يفسر كل حركات التطور في الطبيعية والإنسان والفكر وتتمثل الحركة الرباعية لقانون الجدل في الصيرورة الآتية: [33]

1- الأطروحة (Thèse): وتعني الفكرة أو القضية أو الشيء كما يكون في الأصل والجوهر ويرمز لها بالحرف:أ.

2- النقيض (Antithèse) تنشطر الفكرة أو الشيء إلى قسمين متناقضين ويرمز لهذه الوضعية: لا أ.

3- المركب Synthèse)): يحدث الاندماج بين الطرفين بين الفكرة ونقيضها أو الشيء ونقيضه في كيان واحد أو مركب واحد يجمع بينهما؛ أي: بين النقيضين بما هو أفضل منهما بطريقة ينطوي فيها الكل على حقيقة متطورة أكثر لا تُوجَد في أي منهما بصورة منفردة، وهذا المركب الجديد يُوفِّق بينهما ولا يتعارض مع أي منهما.

4- ينفلق هذا المُركَّب الجديد وينشطر إلى شطرين متناقضين كما هو الأمر في الحالة الأولى وتتوالى العملية نفسها على نحو جدلي دائري متصاعد. وهذا يعني كل فكرة جدية تنشطر إلى طرفين ثم يندمج طرفاها في فكرة جديدة، وعلى هذا المنوال يتطور الفكر والعالم من مرحلة دنيا إلى مرحلة عليا في مختلف أحقاب الصيرورة الزمنية والمكانية. ويمكن أن نضرب مثالاً على ذلك في انقسام الخلية الحية على نحو ما يجري في التشكل الجيني للإنسان، إذ يكون خلية واحدة تنشطر إلى قسمين متكاملين، وهكذا تحدث عملية الانقسام والتكامل بصورة مستمرة إلى المرحلة التي يتكون فيها جسد الطفل، فيكون الجنيني في الشهر التاسع من العمر قد نضج واكتملت أعضاؤه واتخذ صورة إنسانية. وهذا يعني أن كل مرحلة جديدة من مراحل التطور في الانقسام الخلوي للجنين تعد أفضل من سابقتها وأكثر نضجاً. وهذا هو الأمر الذي يحدث في عالم الفكر والمادة بحسب النظرية الديالكتيكية.

ويعود الخلاف بين جدليتي ماركس وإنجلز في أن “هيغل يقدم منهجه الجدلي بصورة مِثالية مُتطرِّفة إذ يرى أن الواقع مُجرَّد انعكاس للفكرة أو للروح، إذ جعل من الجدل خطوات صيرورة الروح؛ الذي ينتقل من الروح الذاتي أو الروح في ذاته، الذي يتمثَّل في الطبيعة؛ إلى نقيضه أي الروح الموضوعي أو الروح لذاته، الذي يتمثَّل في الإنسان بالقانون والأخلاق والسياسة؛ ثم يصِل إلى الروح المُطلَق الذي يتمثَّل في الدين والفن والفلسفة؛ الجدل بهذا هو الفكرة إذ تُنمِّي ذاتها، أما الطبيعة فهي انحطاط الفكرة” [34].

وعلى عكس هذه الرؤية المغرقة في المثالية يقدم ماركس وإنجلز صورة أخرى عن هذه الجدلية مجلجلة بالطابع المادي الخاص الذي يؤكد أن الفكرة مُجرَّد انعكاس واقعي في الوعي وهذا يعني أنهما قد حررا الجدل من مثاليته الهيغلية وألبساه ثوباً مادياً خالصاً، وذلك هو مفاد الفكرة التي تتواتر دائماً وهي أن ماركس أوقف الجدل الهيغيلي على قدميه. وعلى هذه الصورة يتجلى لجدل الماركسي المادي في صورة قوانين لتفسير الظواهر في الطبيعية والمجتمع والفكر البشري. ومن المفيد في هذا المقام المرور على القوانين الثلاثية للجدل الماركسي المستوحاة من الجدلية الهيغيلية،

  • Social Links:

Leave a Reply