ماجد مرشد
العجائبية (الخارق للواقع) في التراث العربي
مدخل:
من نافل القول، إن العجائبية (الخارق للواقع) تعتمد بشكلٍ رئيسٍ على المخيال الجمعي، وشعرية السرد والوصف، وأسطرة (من الأسطورة) بعض المفاهيم والدلالات التي لا يجرؤ الكاتب على التصريح بها، لسببٍ أو لآخر.
وكان قصب السبق للحكاية الشعبية، والملحمة الشعرية، في التوغّل عميقاً منذ زمنٍ بعيد، باستحضار شخصيات؛ الغولة وبساط الريح ومكنسة الساحرة، والمصباح والفانوس السحريين، وكهف الجنّ والآلهة والمسوخ…. وفي تناول السردية السحرية للعجائبي أو الخارق للواقع، في فضاءاتٍ توائم طبيعته المرعبة والمعجزة. حتى أصبحت الحكاية الخالية من حدثٍ خارقٍ للواقع أو شخصيةٍ خارقةٍ أو وصفٍ خارقٍ أو مشاهداتٍ عجائبيةٍ…. لا طعم لها ولا جذب فيها. ولعل (ملحمة جلجامش) وحكايات (ألف ليلة وليلة) وقصص (كليلة ودمنة) وأدب الرحلات المكانية والزمانية والرسائل (رسالة الغفران) وفن المقامات…. خير نماذج قديمة، حملت أشكالاً مختلفةً من العجائبي، استمدّت منها القصص والروايات، عربياً وعالمياً، واتّكأت على حواملها، ونهلت من معينها الكثير.
وظيفته:
منذ بداياته الأولى، توسّل الفنّ الحكائي، المبالغة وإضافة الأشياء العجيبة والغريبة والمدهشة، بهدف الإمتاع والمؤانسة، وإن حمل بين طياته الحكمة والموعظة والمحبة والسلام، بهدف تطهير نفوس الناس. كما أنه »كثيراً ما يأتي كغطاء لتجاوز الضوابط الاجتماعية، والتخلّص من الحواجز والممنوعات والمحرمات الاجتماعية، المفروضة على الإنسان داخل بيئته الاجتماعية…. فكثيراً ما تأتي الآراء الممنوعة والمضطهدة متوارية في تلافيف هذه النصوص السردية المحتفلة بالعجائبي، ذلك أن المفكرين كثيراً ما اتخذوا العجائبي ذريعةً لطرق المواضيع التي تحجرها عليهم الرقابة الذاتية والرقابة المقنّنة، فتقاليد المجتمعات وقيمها تغذي آراء المفكرين وتحدّد سلوكهم، وتحملهم، إن شعورياً وإن لا شعورياً، على تسليط رقابة ذاتية على أقلامهم«(1). ولا ننسى أيضاً أن المفكرين توسّلوا العجائبية للتعبير عن الآراء السياسية المناهضة أو الناقدة للسلطة، للتواري خلف دلالاتها غير المباشرة، بما يؤخذ عليهم تصريحاً، ولعل أنموذجها الأبرز (كليلة ودمنة).
وقد حدّد “تودوروف” ثلاث وظائف للعجائبي في الأدب: »1- يخلق أثراً خاصاً في النفس، لا تستطيع الأنماط الأدبية الأخرى أن تولّده؛ خوفاً، وهولاً، وحبّ استطلاع. 2- يحتفظ بالتوتّر السردي من خلال تنظيمٍ منضغطٍ للحبكة بصورة خاصة. 3- يطرح نفسه كتحصيل حاصل، إذ يسمح بوصف عالم عجائبيّ، وهذا العالم ليس له مع ذلك حقيقة خارج اللغة، فالوصف والموصوف ليسا من طبيعتين متباينتين«(2). وسُمّيت هذه الوظائف نقدياً: 1- الوظيفة التداولية. 2- الوظيفة التركيبية. 3- الوظيفة الدلالية.
تراثيّات:
يكفي أن نستدعي من الذاكرة والتاريخ »الملحمة وأهمّ شكلين تراثيين؛ وهما الرحلة والمقامة وكذلك أروع الليالي العربية (ألف ليلة وليلة مثلاً)، لنكشف بذلك النقاب عن تراثٍ قصصيّ حافل بالمغامرات والعجائب، ذي فضاء خرافيّ أو سحريّ استطاع داخل عباءته العجائبية أن يؤسس لنفسه فضاءً غريباً، له جاذبيته وحجمه وفنّيته«(3). سنحاول هنا إلقاء الضوء على هذه الأنواع الأربعة من تراثنا باقتضاب، على أمل التوسع في بحوثٍ ومقالاتٍ أخرى.
الملحمة:
لعل الأثر العربي الأقدم الذي وصل إلى إيدينا، هو ملحمة “جلجامش” البابلية، التي حملت بين طياتها الكثير من السحر والعجائب. فهذا زوج “عشتاروت” الأول يُمسخ على هيئة أسدٍ، والثاني على هيئة فرسٍ، والثالث على هيئة ذئبٍ. و”جلجامش” يسعى للحصول على عشبة الخلود ليحطّم الحدود ويشارك الآلهة الخلود، عابراً بحار الموت وظلمات العوالم السحرية، للوصول إلى نهاية العالم، حيث تلتقي أجواز السماء بالعالم الأرضيّ عند بوابةٍ تشرق منها الشمس وتغرب كل يوم، ويسهر على حراستها عقرب وزوجته، باحثاً عن جدّه الأكبر.(4).
الرحلة:
وفي أدب الرحلات، تمتدّ الأمور وتتطاول وتتنوّع، لتختلف أنواع السرد، من وصفٍ مباشر لمشاهدات الرحالة، إلى متخيّلٍ ينسجه من خياله عن الأماكن والمخلوقات السحرية، ثمّ محبوكٍ عقليّ خارق للواقع. ويختلف الأشخاص: من جوّالين باحثين عن الغريب والفريد من أجل التسلية والمتعة، إلى رجال دين ووعّاظ يرتادون عوالم الغيب وكنهها من أجل توضيح الثواب والعقاب ووعظ الناس وهدايتهم، ثمّ القاصين البارعين في حبك الحكايات العجائبية للتأثير والوعظ والإدهاش والجذب.
ولا يخلو أدب الرحلة من الغريب العجيب مطلقاً، بل هو غنيّ بحضور العجائبي في الأماكن المختلفة، ونلمس هذا بوضوح تام في مؤلفات صنفها الأقدمون، مثل: الشيخ “شمس الدين أبي عبد الله محمد أبي طالب الأنصاريّ الصوفيّ” في كتابه (نخبة الدهر في عجائب البرّ والبحر)، الذي يصوّر فيه عجائب عن مخلوقات فريدة من نوعها، وعن الأرض والبحر والعيون والآبار والينابيع العجيبة، وعن الحيوانات النادرة الأشكال. وكذلك كتاب “أبي حامد المازني الأندلسي الغرناطي”، (تحفة الألباب ونخبة الإعجاب)، الذي صنّفه في أقسام أربعة: عجائب الدنيا وساكناتها من الأنس والجان، عجائب البلدان ومآثرها، عجائب البحار والجزر، عجائب الأضرحة والقبور. والكتاب حكاية عن رحلة قام بها الكاتب إلى عدّة بلدانٍ سجّل مشاهداته وتخيّلاته عنها.
أما رحلة (ابن فضلان) التي نالت شهرة كبيرة في عصرها والعصور التالية حتى عصرنا الراهن، والتي كانت من مدينة السلام حتى بلاد الترك والصقالبة، فكانت »نمطاً أدبياً بعيداً عن النمط الجغرافي، لاستخدامه الحوار بشكلٍ مكثّف لا يدانيه فيه رحّالة آخر…. ولاحتوائها على كمّ هائلٍ من العجائب والغرائب التي انقسمت إلى قسمين: ما كان عجيباً بالنسبة إليه وإلى شعبه، وما هو عجيب في كل مكانٍ وزمانٍ«(5).
ولعل “المحاسبي”، في كتابه (التوهّم)، كان الأكثر تخييلاً في رحلته الخيالية المذهلة في عالم ما بعد الموت، التي تنطلق من اللحظة الراهنة (زمن الكتابة)، إلى ما سيكون في نهايات الزمان؛ فيصوّر »لحظة النزع عندما يتراءى ملك الموت مقرّاً العزم على خطبٍ عظيمٍ ويشرع في انتزاع الروح من الجسد«(6)، ليأتي بعدها عذاب القبر بما يحمله من رهبةٍ وترويعٍ ووصفٍ مخيفٍ للملائكة.
ويشابهه كثيراً “المعري” في “رسالة الغفران”،(7) وإن اعتمد أسلوب السخرية من كل شيء، جاعلاً من “ابن القارح” بطلاً لرحلةٍ خياليةٍ أدبيةٍ عجيبةٍ، يحاور فيها الأدباء والشعراء واللغويين في العالم الآخر، وقد وزّعهم بين الجنّة والنار؛ والهدف هو تأسيس الحيرة والتعجب انطلاقاً من التلاعب بالزمن وخرق الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل، مما يضاعف الدهشة والانبهار.
المقامة:
وقد حفلت المقامة بالعجائبي، ابتداءً من مُنشئ فن المقامة، “الهمداني”: (أبي الفضل بديع الزمان الهمداني، توفي 398هـ)، وهي: »شطحةٌ من شطحات الخيال، بل هي دوّامةٌ من الواقع اليومي في أسلوبٍ مسجّع ومصنوع، تدور حول بطلٍ أو أديبٍ شحّاذ، يحدّث عنه وينشر طويّته راويةً جوّالةً يتزيّا بزي البطل أحياناً«(8). فقد أبهر “الهمداني” السامعين بألفاظه الأنيقة وأساليبه الساحرة، كما تمكن من إثارة الحيرة والعجب بابتكاره لبطله “أبي الفتح الأسكندري”، المغامر الذي يتقمّص شخصية الفكاهي الفصيح تارةً والتقيّ الواعظ تارةً أخرى، داخل موضوعاتٍ متعددةٍ وعصورٍ متباعدةٍ متفاوتةٍ، بمخيّلةٍ واسعةٍ وحيلةٍ شديدةٍ. وتتالت بعده المقامات وتنوعت، وحافظ أغلبها على العجائبية والإدهاش، إلى جانب السجع والخواص الأخرى.
ليالي (ألف ليلة وليلة)(9):
قدرة “شهرزاد” على الحكي الذي يجمع الواقعي بالخيالي، جعلها تتقن بمهارة مزج الغامض بالمستحيل، وأن تغلّف قصصها العجائبية بطابع مقبول واقعياً، أقنع “شهريار” وأوهمه بأن المرويّ من العجائب والغرائب مجاورٌ فعلاً للواقع، وتتصاعد وتزداد حدّة العجائبي مع تتالي السرد الحكائي، حتى تحصل على الجذب والإدهاش الكافيين، لجعل “شهريار” يتمسّك بمتابعة الحكاية ليلةً بعد ليلة، ما تطلّب منها زيادة الخوارق والعجائبي والغريب تباعاً، وصولاً إلى التأثير على “شهريار”، وتصحيح مجرى حياته، وإنقاذ العذارى من الموت. كما أنساه العجائبي الحافلة به الحكايات، الخيانة الزوجية التي كانت سبباً في المأساة.
وإن كنا لسنا بصدد تقييم مكانة “ألف ليلة وليلة”، التي تبوّأت على مرّ العصور المتعاقبة أسمى المراتب الإنسانية والأدبية، إلا أننا نضعها في مقدمة الفن العجائبي (الخارق للواقع)، الذي نهلت منه القصة والرواية العجائبيتين في العالم العربي والغربي على حدّ سواء، وما تزالا. ولعل »مادتها الحكائية بمختلف أبعادها الدينية والواقعية والأسطورية، وبخاصةٍ العجائبية منها، وبالأسلوب الذي قُدّمت به، تُبرز لنا صورة واضحة عن سحر الشرق وروعة الحلم وسعة الخيال«. (10).
خلاصة:
نخلص من هذا التلخيص الموجز، لمظاهر الخارق للواقع أو العجائبي في تراثنا العربي، إلى مقاربة معرفية للعجائبي كمفهومٍ، بحدوده وأشكاله ووظائفه، وتجلّيه في الموروث السردي العربي، وإن لم يسمح لنا المكان والزمان للغوص أكثر، فلعلنا ننوي متابعة البحث والغوص خلف نفائس العجائبي ومخاطره في أدبنا العربي عموماً، ابتغاء إعطائه حقّه كمفهوم، وإعطاء أدبنا حقّه ومكانته كجزءٍ مهمّ من التراث الإنسانيّ.
مراجع وإحالات:
1- العجائبي في المخيال السردي في ألف ليلة وليلة، رسالة لنيل شهادة الماجستير في الأدب العربي القديم، في جامعة الحاج لخضر- باتنة، إعداد الطالبة سميرة بن جامع، بإشراف الدكتور صالح لمباركية، للسنة الجامعية 2009- 2010، ص21-22.
2- تزفيتان تدوروف: موضوعات العجائبي (مدخل نظري)، ترجمة: الصديق بو علام، في مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية، العدد 1، فاس المغرب، خريف 1987، ص137.
3- العجائبي في المخيال السردي في ألف ليلة وليلة، مرجع سابق رقم (1)، ص25.
4- فراس السوّاح، حركة المسافر وطاقة الخيال (دراسة في المدهش والعجيب والغريب)، مجلة المقتطف، العدد 12، 1974. ص53.
5- ناصر عبد الرزاق الموافي، أدب الرحلات عند العرب1،الرحلة في الأدب العربي (حتى نهاية القرن الرابع الهجري)، دار النشر للجامعات المصرية، الطبعة الأولى، مصر، 1415هـ/1995م، ص250.
6- فراس السواح، المرجع نفسه، ص60.
7- أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، دار صادر، (د. ط)، بيروت، د. ت. ن).
8- مقامات أبي الفضل بديع الزمان الهمداني، قدّم لها: الشيخ محمد عبده، دار المشرق (المطبعة الكاثوليكية)، الطبعة السادسة، لبنان، (د. ت. ن)، صفحة الغلاف.
9- ألف ليلة وليلة، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية، 1429هـ/2008م.
10- العجائبي في المخيال السردي في ألف ليلة وليلة، مرجع سابق رقم (1)، ص76.
ماجد مرشد
Social Links: