هيفاء الحاج حسين
من ذاكرة الحب -1-
“بيوتنا مرايا أرواحنا”
…………………………..
لطالما عشقتُ في صغري، نماذج البيوت الأوروبّية بأسطحها القرميد، ومنظر مداخنها التي عرفت من الصّور أنها تنتهي بموقدٍ جداريٍّ يتوهّج فيه الحطب المشتعل.
لم يحدث أن سكنت إحداها، ولم أفهم ماذا يعني أن يكون السطح قرميداً، لكنّ اصطفاف الآجرّ الأحمر أو الأزرق بتدرّجاته كان يمثل لي جماليّةً تفوق الوصف، تبدو أمامها أسطحنا المكشوفة العارية، المحاطة بأشفٍّ تتفاوت ارتفاعاتها بين منزلٍ وآخر، في منتهى البؤس والتّواضع.
وعن كثب تعرّفت متأخّرةً إلى أسطح القرميد خلال مسيرة لجوئي، وصدمتني حقيقةٌ هائلة.
أقول هائلة بسبب الأثر الذي تركته في نفسي، لأنّها تجلّت كعازلٍ يقف بيني وبين الفضاء.
أيعقل ألا أستطيع كشف شوارع الحيّ من علٍ؟ أو امتداد البيوت؟ أو خسوف القمر؟ أو استقبال بواكير الشتاء؟ أو الاستلقاء على بساطٍ وتأمّل النّجوم في ليلةٍ صيفيةٍ قائظة؟
شعرت بالخيانة!
إمّا أن الصّورة المتخيلة خانتني، وإمّا أنّ تقييمي الجماليّ كان سطحيّاً فخذلني.
وفي لحظة تهويمٍ كثيفة، ومن شبّاك بيتي الصغير في استنبول حيث كنت أجاهد لأرى القمر المكتمل العابر فوقه، استعدت مشاهد سريعةً جداً، تزاحمت فيها الأصوات والضّحكات وعبقت بروائح الورد وأبخرة الطعام، تتخايل فيها الوجوه بأسارير منبسطةٍ أو مسكونةٍ بالدّهشة.
اكتشفت أنّ المشهد يستمدّ جماليّته من وظيفته أيضاً، فسطح القرميد جيّدٌ لدرء تسرّب المطر وذوبان الثّلوج، تنطّط العصافير وبناء الأعشاش تحت الحجارة التي تصل بين الجدران الخارجية وأشفّ القرميد المخفيّة الناتئة لكنّه لا يصلح أن يكون مرصداً لالتقاط مراحل دورة القمر الشّهريّة، أو لكشف الأحياء المجاورة والشّوارع، أو لاصطياد ظواهر الكسوف والخسوف وزوال نجمة الصّبح وانبثاق نجم المساء.
سطح القرميد سطحٌ يفتقد لقيمة الرّائحة فهو لا يسمح لأحواض الورد بالتوزّع بين جنباته، ولا للثّياب المغسولة العطرة بالزهوّ على الحبال المتأرجحة على أعمدته، ولا لإقامة حفل شواءٍ في هوائه الطّلق.
إنّ هذا السطح المسكين لا يعرف رائحة المربّيات تجفّفها الشّمس في صوانيها، ولا سَكَراتَ العنب تنتشر في الهواء قبل تحويله إلى نبيذٍ أو عرق.
تنقلت خلال حياتي في بيوتٍ كثيرة، وحملت لكلٍ سطحٍ منها ذاكرةً حميمة.
ويبقى السّطح الأوّل هو موطن الدّهشة والفرح بلا منازع، لأنّه سطح الطّفولة، والأوقات الرائعة التي قضيتها مع أترابي بين جنباته، ما بين اللعب وممارسة الهوايات المختلفة، وترقّب الضّوء المنبعث من شارع البلديّة لمدفع رمضان في البدء، يعلن عن أوقات الإفطار و السّحور و الإمساك، ثمّ من الجبل بعد أن تمّ نقله لاحقاً.
رشقُ المارّة بحبات الحمّص والاختباء، مراقبتنا نحن البنات للصّبيان العابرين، وتمييز الأجمل من بينهم.
أحاديث الجنّ والخرافات والقصص المرعبة، ثمّ التّقهقر على الأدراج في لحظة إثارةٍ عابثة.
طفت في ذاكرتي سهرات السّمر الصّيفيّة الّتي كانت طقساً لكلّ الناس على الأسطح يباركها القمر كما لو كان شبكة نت تتواصل عبرها مشاعر الألفة، حيث يرمي بضوئه الفضي على البيوت محفّزاً القلوب، كلّ القلوب لقضاء وقتٍ كالنّقاهة تحت ملاءته الشفيفة.
من شفّ السّطح شهدت مظاهرةً لا أتذكّر سببها، وشهدت جنازةً مهيبة لطبيب البلدة المحبوب، وشهدت حزن الناس في الجنازة الرّمزيّة لجمال عبد الناصر، وكان أوّل تماسٍّ مباشرٍ لي مع مفهوم الموت.
كم مرّة شهدت عراضة، وكم مرّة نهبت مسمعي أبواق قاطرة سياراتٍ تعلن عن عروسٍ ماضيةٍ إلى شهر عسلها في منتجعٍ ما واستماتتنا نحن الصّغار لالتقاط ملمحٍ من زينتها وبياض ثوبها الخياليّ!
لكم ترقّبت نجم المساء ونجمة الصبح، ومايزت بين الأبراج، وأذهلتني تجلّيات القمر النّامي، وتبدّلات الشمس خلال دورة الفصول ما بين شحوبٍ وسطوعٍ صارخ.
كم اغتسلت بالمطر، ولطالما عشقتْ أطرافي ألم التجمّد في الثّلج!
كم ضوّعتني رائحة الصّابون المنعشة، المنبعثة من حبال الغسيل، تتدلّى منها ثيابنا الملوّنة الحلوة، والملاءات البيضاء النّاصعة!
كم هيّجت جوعي رائحة الشّواء، يثيرها والدي وهو يحرّك الهواء حول النار من يوم عطلة، فتمتزج بروائح مماثلةٍ أخرى قادمةٍ من الأسطح المجاورة المزدحمة بالعائلات!
من سطح بيت أهلي ترقّبت كلّ جديدٍ تعرضه المكتبة المقابلة على زجاجها، عدد مجلّة تان تان الأخير، كتاب لغزٍ لم أره سابقاً، علبةً هندسيّةً مختلفة، ورصدت أحياناً موعد إغلاقها، فأرى صاحبها وهو رجلٌ مثقّف، نبيلٌ وعطوفٌ معنا نحن زبائنه الصّغار، أنيق المظهر والرّوح، يسحب ستارة الغلق ويحكمها بقفلٍ في حلقةٍ على الأرض ثمّ يمضي متّخذاً إلى بيته طريق الكروم الصّاعدة في مشيةٍ لطيفة تخال من رقّتها أنّه سحابةٌ تطفو.
ذاكرة السّطح المبهرة تلك لا يمكن لها إلا أن تتعثّر بمقتل هذا الرّجل ظلماً في السّجن تحت التّعذيب، على خلفيّة تعامله مع البعث العراقي، وكانت آنذاك تهمةً قاتلة!
بناءٌ بسطحٍ من القرميد هو الجمال المسطّح، الذي يسرق منا متعة الكشف، ويغلق علينا احتمالات الألفة. لا تختال على أشفّه سجّادات المنزل المزخرفة تتنفّس أو تُجَفّف بعد حمّامها السّنويّ، ولا يستطيع توفير حضنٍ للهو الأولاد ودرء خطر لعبهم في الشّوارع، وهو أيضاً لا يوفّر ملاذاً آمناً ومنعشاً للهاربين من قيظ البيوت في الأمسيات الحارّة يفترشون أرضه الخشنة وينامون على البُسط ترعاهم النّجوم حتّى طلوع الشّمس.
السّطح في بلادنا يعني تخايل ظلّين متقابلين في العتمة
يتهامسان بينما تفصل بينهما هوّة شارع.
هو موطن الحبّ ببكارته الأولى!
سطح القرميد الجميل سطحٌ وحيدٌ مستوحش، لا ذاكرة لديه عن ساكنيه.
وسطحٌ بلا ذاكرة يستحقّ الشّفقة، كمريض الزّهايمر.
كيف يمكن للمرء أن يعيش من غير سطحٍ مفتوحٍ على السّماء؟
يا له من خسران!
بيوتنا هي عمقنا، ودواخلنا، ومرايا أوقاتنا.
والجمال حقاً إنّما هو ما ينبع من الدّاخل، ولا يكتفي بالقشور، ألا يخفي الصّبّار خلف بثور وجهه المغطّى بالأشواك عصيراً استثنائيّ المذاق؟
للّه درّك يا بلادي، دوماً تنتصرين في سبق الحبّ والجمال في قلبي.
ودوماً تستبيحين روحي بنصال الحنين، فأراني أردّد مع خير الدين الزّركلي:
العين بعد فراقها الوطنا
لا ساكناً ألفت ولا سكنا
ليتَ الّذينَ أحبُّهم علِموا
وهُمُ هنالكَ مالقيتُ هنا
ما كنتُ أحسَبُني مُفارقَهم
حتَّى تفارقَ روحيَ البدنا
“عائدون”.
Social Links: