“من ذاكرة الحب 2” – هيفاء حاج حسين

“من ذاكرة الحب 2” – هيفاء حاج حسين

هيفاء حاج حسين
“من ذاكرة الحب 2”

  • في الألم والحب-
    حين دخلت المشفى في استنبول في العام الثاني لمغادرتي الوطن، إثر حادث كسر الرّكبة المشؤوم ذاك، تشاركت الغرفة الكبيرة مع مجموعةٍ من النّسوة العجائز اللائي كنّ يعانين من كسورٍ في أماكن مختلفةٍ من أجسادهنّ المنكمشة الهشّة، ومن خلالهنّ تعرّفت على الألم الإنساني في أبسط وأعمق صوره، ولامست العاطفة بأنبل تجلّياتها.
    لقد كنّ بضعف الأطفال ولكن بأنين خجولٍ مرتجفٍ ومتقطّع يذوب له القلب.
    على يسار سريري كانت السيّدة الثمانينيّة متكوّمةً على نفسها كطفلٍ رضيعٍ بالذّعر الذي تحمله نظرة عينيها وبشعرها البلاتينيّ تنفتح خصلاته المبعثرة عن بشرة رأسها الورديّة، تتابع تحرّكات ابنتها الخمسينية التي تعتني بها كما لو أن الأدوار انقلبت، وقد بقيَتْ منكفئةً على جنبها طيلة يومَيّ تقاسمنا للغرفة، تتألم بتنهّداتٍ مكتومة لأنّ الصّوت حتى الصّوت يخذلنا في أرذل العمر. تحنو عليها الابنة فتمسح على جسدها وتقبّلها في كلّ مكانٍ تلمسه منه، في الخصر والظهر، في الجبين والجفن، في الكتف والرّقبة، وحتى في أسفل القدم، تبتسم الأمّ باطمئنانٍ يبدّد جزع عينيها للحظات ثمّ تغمضهما باستكانةٍ بائسة.
    أمّا مقابل سريري فكانت سيدةَ ثمانينيّةً أخرى بمنديلٍ أبيض ذي حاشيةٍ مطرّزة يشي أنها من الأرياف، تقضي فترة نقاهةٍ بعد تركيب مفصلٍ اصطناعيٍ لحوضها، قويّة الحضور لكأنّها سيّدة قبيلة ذات شأنٍ عظيم، بنظرتها الحكيمة النافذة وقلّة صبرها وتوافد زوارها الصّغار لزيارتها وتعمّدهم مشاكستها مستفزّين طبعها الممازح ولسانها السّليط، حيث لا يمنعها هذا في نهاية الأمر من تقبّل قبلاتهم والاحتفاء بهم.
    كانت تكتفي بقطعة خبزٍ تلوكها مساءّ مع شيءٍ من العصائر، كما لو أنّها إنّما تعيش وتأكل مجاملةً للأهل، لا رغبةً أو حباً في البقاء. يعودها المعالج الفيزيائي في كلّ صباحٍ كي يمارس عليها دور القائد المحبّ، يأمرها باللغة التركية أن تتحرّك وأن تكفّ عن دلالها، يمسك ذقنها ويرفع رأسها بيده متعمّداً الحملقة في عينيها، فتبادله النّظرة المتحدّية ذاتها، إلى أن تضحك موبّخةً إيّاه وساخرةً من سلطته، ليقاطعها الألم فتطلق آهاً مضمومةً من الأعماق: أووووووووه 
    ويكرّر الجميع وراءها ممازحين ومتعاطفين: أوووووووه!
    تذكّرتُ بمرارة وأنا أتابع هؤلاء النّسوة بآلامهنّ وبالحنان الذي يحظين به جدّتي من أمّي في أيامها الأخيرة، حين طلبتْ مني أن أنام عندها كي أؤنس وحشة مخدعها وهي على فراش الموت وكيف أرعبتني الفكرة رغم محبّتي لها، وصرت أنقّل عينيّ الجزعتين في غرفتها بإنارتها الحمراء الشّاحبة، أتأمّل في تفاصيل البيت العربيّ المكشوف والمفتوح ليلاً على كلّ الهواجس، خيالات الأشجار المنبثقة من خلف الجدار الفاصل بين الفسحة السماوية وبيت الجيران الّتي تبدو كأشباحٍ تتلصّص، ناهيك عن أصوات الكلاب البعيدة تمزّق مهابة السّكون الثقيل، فأرفض الانصياع لرغبتها رغم محاولاتها اليائسة:
  • تستطيعين السّهر والدّراسة والرّسم يا ابنتي، لن يزعجني الضّوء، وإن جعتِ ففي النّمليّة الكثير من “الأكلات الطّيّبة”، مدّي فراشاً مريحاً إلى جانب المدفأة. 
    ولكن هيهات، فالشباب متعجرفٌ وأنانيّ! 
    اعتذرت منها مختلقةً ما عظم من الأسباب، وانسحبت ضاربةً عرض الحائط بإغراءاتها وتوسّلاتها، بينما حظيت أختي بهذا الشرف ورافقتها حتى لحظة رحيلها الأخير.
    اليوم، أدرك تماماً ماذا يعني أن تؤنس عجوزاً يعبر/ تعبر نحو الضّفّة الأخرى، وصرت أثمّن قيمة تواجد العائلة وتعاضدها بعد أن طال الشّتات الجميع. 
    إدراكٌ متأخرٌ جداً.
    تراني كنت أودّ التحدّث عن الألم؟ أم عن الشيخوخة؟ أم عن الفقدان والشّتات؟ 
    كلّ قيمةٍ من هذه القيم لا تَفِها آلاف الكلمات حقّها، لكنّها جميعها تهون في حضور الحبّ والعاطفة.
    كلّنا يسير في ركب الشّيخوخة طالما أنّنا أحياء، وسوف نتألّم ونذوي وتصير ذكرياتنا خلفنا، ليس بالأمر الهيّن قطعاً، ولكن آمل أن نحظى باللّمسة الدافئة والقلوب المؤازرة لعلّ الدّروب تصير أقلّ مشقّة وأكثر أنساً، دروب الحياة المفتوحة على صلف الأقدار.

والقوّة، كل القوّة في أجيالٍ تكون امتداداً حقيقياً لبعضها وعوناً، وخسارة السوري الكبرى اليوم خسارته لدفء العائلة حيث تشتت أفرادها في أرجاء المعمورة وحلّ التعاطف الأثيريّ الافتراضيّ محلّ اللمسة الواقعية التي تنبض عروقاً وحرارة دماء، وصارت عافية شبكة الاتصالات تقرر مصير علاقاتنا ولا نملك إلا أن نرضخ لاستبدادها الرؤوم ولسان حالنا يقول: الرّمد أسهل من العمى.

  • Social Links:

Leave a Reply