الصراعات القوميّة والفتن الدينية.. تفتك بالأمّة العربية!

الصراعات القوميّة والفتن الدينية.. تفتك بالأمّة العربية!



نجيب العطّار

يَضِجُّ التُّراثُ الإنسانيُّ العتيقُ بعددٍ غيرِ قليلٍ منَ «النُّبؤات» التي تُعيِّنُ لـ «نهاية العالَم» سنةً، أو حتَّى يومًا، محدَّدَيْن. ولعلَّ استغراقَ الإنسان في التَّفكير في شؤون الأصلِ والبدايةِ لا يُعادلُه إلَّا استغراقُه في التَّحديق في شؤون النِّهاية وشجونِها. ويبدو أنَّ النِّهايةَ تزدادُ إلحاحًا على الإنسانِ، فردًا أو جماعةً، حين يكون في حالةِ «الذّروة»؛ ذُروةِ الرَّخاء وذُروةِ الألَم على حدٍّ سواء.
مثَّلتْ أوروبا الأرضَ التي دُفِنَ فيها عالَمُ ما قبلِ الحربَيْنِ العالميَّتَيْن والرَّحمَ الذي ولدَ منه عالَمُ ما بعد الحرب الثَّانيَّة. لم يكن إنهاءُ الحربِ، بطبيعةِ الحال، إيذانًا بالسَّلامِ العالميِّ الذي سيبقى مستحيلًا، إنَّما كانَ عمليَّةَ نقلٍ لجُغرافيا الاحتراب من أوروبا إلى «الشَّرق الأوسط» عبرَ إقامةِ القوى المُنتصرة في الحرب لكيانٍ صهيونيٍّ استطاعَ، في فترةٍ وجيزةٍ نسبيًّا، أن يتحوَّلَ إلى «دولة» لا ينقصُها سوى الشَّرعيَّة.

نكبات العرب

على المَقلِب الآخر، أعني مقلبِنا العربيِّ التَّعيس، رفضَ العربُ قرار التَّقسيم الصَّادر عام 1947، والذي يُعطي «الدَّولة اليهوديَّة» أكثر من نصف الأرض الفلسطينيَّة. كان منَ الطَّبيعيِّ أن يرفضَ العربُ قرار التَّقسيم وأن يخوضوا الحرب التي أظهرتْ أنَّ الكيان الصهيونيَّ أيضًا لا يُريدُ قرار التَّقسيم، وكان طبيعيًّا بالقَدْرِ نفسِه أن يتلقَّى العربُ هزيمتَهم الأولى عام 1948. والعربُ بطبيعتِهم مولَعون بتسميةِ الأشياءِ، فأطلقوا على هذه الهزيمة اسمَ «النَّكبة»، وقد كانت كذلكَ فعلًا.

توالَتْ ارتداداتُ «النَّكبةِ»، وكان أخطرُها على الإطلاق وصولُ جمال عبد النَّاصر إلى حُكم مصر وتحوُّلِه إلى ظاهرةٍ شكَّلتْ في ذاتِها نكبةَ العربِ الثَّانية. وبعدَ توجيه كافَّة القُدرات، بما فيها صوتُ السَّيِّدة أم كلثوم، باتِّجاه المجهود الحربي قامَ «المارد العربي» باختتامِ «العصر الذهبي» بإنجاز الهزيمة الثَّانية للعرب عام 1967. ولأنَّ العربَ مولَعون ليس فقط بتسمية الأشياء، وإنَّما بالإكثار من الأسماء، وبالتَّالي من المسمَّيات، أطلقوا على هزيمتهم الثَّانية اسمَ «النَّكسة». مرَّةً أخرى، توالتْ ارتداداتُ الهزيمة وتفشَّى الفكرُ القوميُّ بمُتحوِّرَيْه، النَّاصري والبعثي، وتبدَّلتِ الأنظمةُ في ليبيا وسوريا والعراق، وتبدَّلَ أيضًا النِّظامُ الفلسطينيُّ المُتنقِّلُ.

والعربُ بطبيعتِهم مولَعون بتسميةِ الأشياءِ، فأطلقوا على هذه الهزيمة اسمَ «النَّكبة»، وقد كانت كذلكَ فعلًا.

بعدَ الهزيمة الثَّانية، وتحديدًا في العام 1973 حقَّقَ أنور السَّادات نصرًا عمليًا ضدَّ «إسرائيل»، إذْ استعادَ تَرِكَةَ «المارد العربي»؛ سيناءَ المُحتلَّة، في حين استمرَّ احتلالُ الجولان السُّوري. وبينما كان السَّادات يعترف بأنَّه وافق على وقف إطلاق النَّار حين لم يعدْ باستطاعته القتال، كان «بطل تشرين» يُحدِثُ حركةً تصحيحيَّةً ثانيَّةً إذْ صحَّحَ، البعيدُ، تسميةَ الهزائمِ وابتكرَ ابتكارَه؛ فلتُسمَّى الهزيمةُ نصرًا. فبعدَ أن كان العربُ يُسمُّون هزائمهم بأسماءَ تحملُ معاني الهزيمة، لكن بدرجاتٍ مُختلفةٍ، سَنَّ البعيدُ سُنَّةَ تسميتِها بالانتصارِ ومُشتقَّاتِه، فأعفى العربَ من الاختلافِ حول درجةِ هزيمتِهم.

بعدَ استحكامِ الفكرِ القوميِّ من جسدِ الأمَّةِ العربيَّةِ الواحدةِ، ومِن رسالتِها الخالدةِ أيضًا، بدأتِ الهزائمُ تتوالى، مع فارقٍ جوهريٍّ ومُلفتٍ مفادُه أنَّ الهزائمَ، في فترة حُكمِ الفكر القوميِّ والبعثيِّ على وجه الخصوص، لم تعُدْ هزائمَ قوميَّةً وإنَّما هزائمَ محليَّةً. فلم يَعُدْ يُحكى عن هزيمةٍ لحقتْ بالعربِ كلِّهم، وإنَّما هزائم على شاكلة هزيمة العراق في الكويت. وهذا يدلُّ على أنَّ القوميِّين قد شكرَ الشَّيطانُ سعيَهم وأدُّوا قسطَهم في تفتيت الأمَّة المُفتَّتةِ أصلًا.

صراع ديني اقليمي

العربُ في طبعِهم يطمحون إلى الأشد سوءًا وبؤسًا، فتمَّ تضييقُ أرض الاحتراب وحصرُها بلُبنان الذي أجادَتْ أحزابُه في تهيئةِ الأجواء للتَّذابُح. ثمَّ وقعتْ نكبةُ العرب الكُبرى مع سقوط نظام الشَّاه ووصول «رجال الدِّين» إلى حُكم إيران مُعلِنِينَ افتتاح مرحلة جديدة من بؤس هذه الأُمَّة، إذ بقيام إيران الجديدة اكتملتْ عناصرُ الصِّراع الطَّائفي بوجود الطَّرفِ المُقابلِ للتَّعصُّبِ السُّنِّي على رأس دولةٍ ذات قدرات كبيرة.

بدأتْ تيَّاراتُ الإسلامِ السِّياسيِّ تتغذَّى ببعضِها وكُلٌّ منهما يُذْكي نار الآخر، في مُقابل خفوتِ الفكر القومي واضمحلالِه بفِعل هزائمِه المتتالية. وفي لحظةٍ اقتنصَها النِّظامُ العراقيُّ بمهارةٍ مُلفتةٍ، اجتاحَ الكويت في أجواء اختلال النِّظام العالمي، إذ كان غورباتشيف، الحليف المُفترض للعراق، مشغولًا في الدَّاخل السُّوفييتي المُقبِل على التَّفكُّكِ فاتحًا الباب أمام عالَمٍ جديدٍ تُشكِّلُ فيه الولايات المُتَّحدة قطبًا أوحدًا.

دخلَ العالَمُ مرحلةَ إعادةِ تشكيلِه، انطلاقًا من «الشَّرق الأوسط»، مع نهايةِ القرن العشرين في تتابُعٍ مُلفتٍ للأحداث:

انتهاء صراع النُّفوذ بين إيران وسوريا في لُبنان بعدَ وقف الحرب بين حزب الله وحركة أمل عام 1990، وبدء التَّحكُّمِ الإيراني بـ «جبهة جنوب لبنان»؛ بدء حصار العراق بعد إخراجِه من الكويت عام 1991 تمهيدًا لإخضاعِه أو إسقاطه؛ اتِّفاقيَّة أوسلو عام 1993 التي رسَّختْ انقسامَ القوى الفلسطينية والعربيَّة؛ اغتيال رابين عام 1995 في إعلانٍ «إسرائيليٍّ» واضحٍ لعدم قابليَّة الكيان للسَّلام؛ وفاة حافظ الأسد عام 2000 ووصول ابنِه بشَّار إلى الحُكم الأمر الذي سيفتَحُ لاحقًا الأرضَ السُّورية على مصراعَيْها لإيران، إذْ أنَّ الأسد الأب كان أكثر تحكُّمًا بالعلاقة بين إيران وسوريا؛ وصول شارون في 7 آذار 2001 إلى رئاسة وزراء «إسرائيل» وبدء تضييق الحصار على الرئيس ياسر عرفات في مشهدٍ يُمثِّل صعود التطرُّف الأقصى وخيار الإلغاء على المستوى «الإسرائيلي» وحصارِه لخيار السَّلام في رام الله.

الردّ الأميركي البريطاني على انفراج العلاقات العراقية الخليجية تمثّل باجتياح العراق في نيسان 2003 فاتحًا الباب أمام النِّظام الإيرانيِّ للتَّمدُّد الحُرِّ خارج حدود إيران التي سهَّلتْ بدورِها الاجتياح.

اجتياح أفغانستان عام 2001 عقبَ أحداث 11 أيلول ودخول الولايات المتحدة إلى المنطقة تحت عُنوان «محور الخير ومحور الشَّرِّ» و«إمَّا معنا وإمَّا ضدَّنا»؛ تشديد الحصار على عرفات ومنعه من حضور قمَّة بيروت في آذار 2002 والتي تُعدُّ القمَّةَ الأكثر خطورةً بينَ القِمم إذْ يبدو أنَّها تلمَّستْ الخطر المُحدق بالمنطقة. وفي الواقع ثمَّةَ ثلاثةُ أمور مهمَّة شهدتْها القمَّة: تبنِّي حل الدَّولتين على حدود 1967، الانفراج في العلاقة بين العراق من جهة والكويت والسَّعوديَّة من جهة ثانية، والأهمُّ أنَّ رئيس القمَّة آنذاك إميل لحُّود ذي العلاقة العضويَّة مع الاحتلال السُّوري للُبنان آنذاك قد لاقى الحصار «الإسرائيلي» لعرفات بحصارٍ ثانٍ إذْ رفض السَّماح له بإلقاء كلمة، من مقر الرِّئاسة، في الجلسة الافتتاحيَّة للقمَّة.

لم يتأخَّرْ الرَّدُّ الأميركي البريطاني على انفراج العلاقات العراقية الخليجية فقام باجتياح العراق في نيسان 2003 فاتحًا الباب أمام النِّظام الإيرانيِّ للتَّمدُّد الحُرِّ خارج حدود إيران التي سهَّلتْ بدورِها الاجتياح. رحيل الرَّئيس عرفات عام 2004 وسط تزايد التقديرات بأنَّ «إسرائيل» هي التي اغتالتْه مُعلِنةً استكمال عمليَّة اغتيال رابين وخيار السَّلام؛ اغتيال رفيق الحريري عام 2005 في استكمالٍ لمُسلسل اغتيال أصحاب مشاريع السَّلام والبناء واستزادةً في تأجيج الصِّراع السُّنِّي الشِّيعيِّ، إذْ باحتلال أفغانستان وإسقاط نظام صدَّام حسين وعمليَّات التَّطهير الطَّائفي التي أعقبتْ ذلكَ، واغتيال عرفات والحريري زاد من شعور السُّنَّة بالخسارة، إذْ كان يبدو واضحًا أنَّ الولايات المتَّحدة وحلفاؤها يستهدفون التنظيمات والأنظمة السُّنيَّة تحت شعار محاربة «الإرهاب».

غليان المنطقة

ثمَّ وقعتِ الحربُ بين «إٍسرائيل» وحزب الله، الشِّيعي، عام 2006 والتي أعطتْه رصيدًا هائلًا على المستوى العربي الإسلامي من جهة وعلى مستوى الدَّاخل اللُّبناني من جهةٍ ثانيَّة، لكن رغمَ هذا الرَّصيد فقد أذكَتِ الحربُ، وإنْ بشكلٍ ضمنيٍّ، شعور السُّنَّة بهامشيَّة دورِهم، بخاصَّةٍ مع استمرار حزب الله في تأكيد هويتِه الشّيعيَّة. وقد أعقبَ ذلكَ حربَه ضدَّ الدَّاخل اللُّبنانيِّ في 7 أيَّار 2008 بعيدًا عن المُبرِّرات التي برَّرَ بها الحزبُ حربَه.

في حالةٍ من الغليان عاشتِ المنطقةُ العربيَّةُ بضعَ سنين قبلَ أنْ تنفجرَ الجُغرافيا العربيَّة برُمَّتِها عام 2010 و2011 في ما عُرفَ بـ «الرَّبيع العربي» الذي انقلبَ حروبًا أهليَّةً في العديد من الدول وأهمُّها سوريا التي تحوَّلتْ إلى ساحةٍ للصِّراع الدُّولي كما كان لُبنان إبَّان حربِه الأهليَّة، لكنَّ المنحى الطَّائفي في سوريا أخذَ بُعدًا أكثرَ حدَّةً وأقصويَّةً.

بعدَ اثنتَيْ عشر سنة على هذا «الرَّبيع» الدَّموي، قامتْ حركة حماس بعمليَّتِها في السَّابع من تشرين الأوَّل 2023 والتي لا تزال محلَّ تساؤلاتٍ ومُساءلاتٍ لا مُتَّسَعَ لها الآن. فتحَ حزبُ الله «جبهة الجنوب» في اليوم التَّالي، لتتطوَّرَ الحربُ بعد ذلك في فلسطين ولبنان وتنتهي بهزائمَ أقلُّ ما يُقال عنها أنها كانت مَقْتَلَةً مهولةً، ثمَّ سقطَ الأسد ووصل دونالد ترامب إلى السُّلطة في الولايات المتَّحدة. يُدهَشُ البعضُ أنَّ ترامب يريد تهجير سكَّان غزة واحتلالَها، وينسَوْنَ أنَّ ترامب نفسَه عام 2017 وقَّع قرارًا بنقل السفارة الأميركيَّة في «إسرائيل» إلى القدس، وهو قرارٌ لم يوقِّعْه رئيسٌ أميركيٌّ منذُ العام 1980؛ تاريخَ إعلان «إسرائيل» القدسَ عاصمةً لها.

قامتْ حركة حماس بعمليَّتِها في السَّابع من تشرين الأوَّل 2023 وفتحَ حزبُ الله «جبهة الجنوب» في اليوم التَّالي، لتتطوَّرَ الحربُ بعد ذلك في فلسطين ولبنان وتنتهي بهزائمَ أقلُّ ما يُقال عنها أنها كانت مَقْتَلَةً مهولةً!

لم يزل مُبهمًا مصيرُ جُغرافيا «الشَّرق الأوسط»، بل جُغرافيا العالَم كلِّه. لكنْ ممَّا يفيضُ به التَّاريخُ أنَّ الحدودَ، بعدَ الحروب الكُبرى، لا تبقى كما هي؛ وأنَّ المُنتصرَ يفرضُ ما يُريد! وبينمَا يُراجعُ العربُ تاريخَهم وتنقُّلَهم من «النَّكبة» إلى «النَّكسة» وصولًا إلى «المَقْتَلَة» وما تخلَّلَ ذلكَ من انتصاراتٍ مُنينا بها، يُمكننا مُلاحظةُ أنَّه بعدَ كُلِّ حربٍ كبيرةٍ، كان العربُ يَنقسِمون قسمَيْن؛ قسمٌ يُطالبُ بـ «فلسطين التَّاريخيَّة» وآخرٌ يُطالبُ بالحدود التي كانت عليها فلسطين قبل الحرب التي انقسموا بعدَها.

خاضتِ الأنظمةُ التي نشأتْ في ظلِّ الانتداب حربَها فصار قرارُ التَّقسيم لعام 1947 طموحًا. ثمَّ خاضتِ الأنظمةُ القوميَّةُ حروبَها، فصارت حدود 1967 طموحًا. الآن وقد خاضَ الإسلامُ السِّياسيُّ السُّنيُّ والشِّيعيُّ حروبَه، هل تكونُ حدود 6 تشرين 2023 طموحَنا الجديد في عالَمٍ يُعيدُ الاقتصادُ تشكيلَ حدودِه؟! هو سؤالٌ برَسْمِ الجميع؛ المنتصرَ منهم والمَهزوم والمُحايِد أيضًا!

  • Social Links:

Leave a Reply