حين يكتشف الأسد أصوات مؤيديه… الصراع على “الحكاية”

حين يكتشف الأسد أصوات مؤيديه… الصراع على “الحكاية”

علي سفر – تلفزيون سوريا :
مع تجديد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) قبل يومين، اعتمادية “الأمانة السورية للتنمية” التي تديرها أسماء الأسد، كمنظمة غير حكومية لأربع سنوات مقبلة… ومع بروز نشاط مؤسسة “وثيقة وطن للتأريخ الشفوي”، التي تديرها بثينة شعبان، المستشارة في القصر الجمهوري، وتروج لها في الأوساط الرسمية (من وزارة الزراعة إلى اتحاد الصحافيين وصولاً إلى بنك سورية الدولي الإسلامي) بعدما اكتشفت بحسب قولها إن “في كل زاوية وفي كل حيّ وفي كل قرية وفي كل مدينة قصة سورية بحاجة لمن يرويها”!… يظهر للسوريين أن هوجة التوثيق الراهنة، تتضمن صراعاً خفياً بين هذه المؤسسات وغيرها، وقد بات عليهم أن يناموا على انتصار ثقافي من مثل تسجيل القدود الحلبية كتراث ثقافي عالمي لدى منظمة اليونيسكو، تحتفل به وزارة الثقافة في احتفاليتين متزامنتين في أكبر ساحتين في دمشق وحلب! وذلك بعدما نسبت وزيرة الثقافة الإنجاز لصالح وزارتها، بينما تشير وكالة “سانا” الرسمية أنه جزء من أعمال “الأمانة السورية للتنمية”.

ويصحون بعد ذلك على انتصارات مؤسسة “وثيقة وطن” التي منحت منذ أيام جوائز الدورة الثالثة لمسابقة “هذه حكايتي” السنوية، لأفضل قصة عن “الأحداث التي عاشها المواطنون”. ويُصدر اتحاد الكتّاب العرب، الجزء الأول من كتاب “حكايات أثيرة، نفوس أباة وغد مأمول”، الذي أشرف عليه نصر محسن، ضمن “المشروع الوطني” الذي أطلقه “لتوثيق بطولات الجيش العربي السوري والشعب العربي السوري”. وسيمرر وزير التربية، دارم طباع، وبالتعاون مع كليات العلوم السياسية والآداب والحقوق في جامعة دمشق، حصته في موسم الانتصارات، من خلال مشروعٍ لإدخال مفهوم “الحرب على سورية”، ضمن مناهج التعليم في العام المقبل، وستتولى المهمة لجنةٌ من “النخب السورية (…) تضم عمداء كليات الآداب والحقوق والعلوم السياسية وباحثين في التاريخ الإسلامي والعلاقات الدولية والقانون الدولي وأدباء كتبوا عن الحرب إضافة إلى الاستعانة بالشباب لكونهم أبناء الحرب”.
حتى منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، كان النظام يمتلك مؤسسة كبيرة متخصصة في التوثيق، أنشأتها القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، حملت اسم “مركز المعلومات القومي”، وتولى إدارتها الدكتور عبد المجيد الرفاعي، الذي جعل منها إقطاعه الخاص، لكن قراراً صدر بتقليص النفقات أدى إلى إغلاقها، قبل أن يصدر أمرٌ لاحق قضى بحل القيادة القومية للحزب كلها.

ربما كان السؤال الذي راود قيادة النظام آنذاك، يتمحور حول دواعي الحاجة للتوثيق؟! إذ لا يوجد ما يستدعي القيام بكل هذا، طالما أن المؤسسات المعنية تقوم بدورها، فكاميرات التلفزيون الرسمي تصور، وإذاعاته تسجل، والجرائد تُطبع، ودور النشر تصنع الكتب، وتزود وزارة الإعلام بخمس نسخ من كل إصدار، تتولى مكتبة الأسد إضافة واحدة منها أو اثنتين، لأرشيفها، وكذلك تحصل المكتبة على نسخة من كل كتاب يتم تسويقه في معرضها السنوي! لكن الحقيقة التي لا يلمس حوافها السؤال، كانت تقول إن تَمَلّك النظام للبلاد، وسيطرته على كل ما فيها، وحتى أنفاس مواطنيها، من خلال “أمننة” كل شيء، لا يحتاج مؤسسات إضافية، طالما أن الأجهزة تحصي كل شاردة وواردة!

صحيح أن بعض المؤسسات قبيل العام 2011 وصلت إلى مشاريع تتخصص في توثيق التراث الشعبي مثل موقع eSyria -مدوّنة وطن، إلا أن سوريا لم تشهد قيام مشروع احترافي يقوم بمهام التوثيق.

وجاءت الثورة بأحداثها لتكشف فراغاً كبيراً في عمل مؤسسات وأجهزة النظام. فطبقاً للسياسة الأمنية، لن يكون بإمكان أحد أن يقوم بأي شيء إلا من خلال أجهزة المخابرات، التي تؤرشف كل شيء في ملفاتها وسيصبح من الخطير حتى على المؤيدين، أن يقوموا بتصوير أي شيء في الشارع، أو يسجلوا قصة أحد، من دون أن يحصلوا على تغطية تحميهم!

وبالتوازي مع هذا، كان الإعلام الأسدي، مهجوساً بالحصول على أصوات خارجية تدعمه في جعل سرديته هي السائدة، فحصل على مبتغاه من مستودعات معسكر الممانعة، وصارت “الشاشات الوطنية” التي تدعم الحل الأمني مفتوحة أمام جحافل من المحللين “الممانعجية”، ولم تقتصر المشاركات على اللبنانيين منهم، بل تجاوزت بلاد الشام، ومصر والعراق، لتصل إلى موريتانيا في بعض الأحايين! وكان هؤلاء يضيفون الرونق القومجي، على الرواية التي يكرسها موظفو النظام نفسه، ممن صاروا أبطال الذود عنه.

البحث عن الأصوات الداعمة، لم يكن هاجس الشاشات، بل كان أيضاً جزءاً من عمل مكاتب العلاقات العامة التابعة للنظام، وكذلك تلك التي تم التعاقد معها حول العالم، لتقدم الجعالات والمحفزات للبعض، ممن تخصصوا في الدفاع عن الأنظمة الديكتاتورية، ذات النكهة المعادية للإمبريالية!

ولأن الثورة التي خلقت واقعاً سورياً غير مسبوق في كل شيء، قامت وبجهد من ناشطيها، على توثيق ما يجري في الشارع، وفي ساحات التظاهر، وإحصاء حالات الاعتقال، والقتل تحت التعذيب، كان بعض من يعملون في حظيرة النظام داخلياً وخارجياً، وقد حصلوا على بعض التسهيلات، يحاولون سد ثغرة التوثيق، بعدما انشغلت كل الجبهات في الدفاع عن الأسد وحفنته. لكن هؤلاء لم يكونوا مهمين في تلك اللحظات، حيث كان من الضروري الالتفات إلى أولئك القادمين من وراء الحدود، وتكريس جهدهم، حتى وإن طغى على جهد السوريين المؤيدين أنفسهم، إذ لن يمانع هؤلاء في أن يتراجعوا إلى الخلف قليلاً، طالما أن هذه هي رغبة القيادة، وصحافيي القصر، وعلى وجه التحديد لونا الشبل.

وهكذا ستصبح لكتاب زوجها آنذاك، سامي كليب، المعنون “الأسد بين الرحيل والتدمير الممنهج”(2016)، حظوة كبرى في أسواق الترويج للنظام، خصوصاً وأن أرشيفات القصر الجمهوري، ومحاضر جلسات الرئاسة منذ بداية الأحداث، فُتحت أمام الكاتب، وطُبع الكتاب في دار نشر ممانعة أيضاً، وبطبعات عديدة حتى الآن.

وفي المقابل لن يولى كتاب الصحافي المحلي، نبيل صالح، “يوميات الحرب على سورية”، أهمية تذكر، رغم أنه صدر قبل كتاب كليب بأربع سنوات. ويذكر الصحافي السوري، صاحب موقع “الجمل”، في آخر مقالاته قبل أيام بحسرة: “منذ بداية الحرب عملت على توثيق أحداثها في موقع “الجمل” ساعة بساعة، حيث أصدرت كتابي الأول عن الحرب في منتصف العام 2012 ثم أصدرت الكتاب الثاني 2014 والكتاب الثالث 2016 “!!

الاحتفاء بالرسمي، والسلطوي، كان ملموساً لدى المتابعين، ممن حاولوا قراءة خطاب النظام من خلال المدونات الخاصة به، لكن كلما جاء بالأمر أجنبي أو عربي على الأقل، كان تلقي النتاج أوسع!

الأمر لا يتعلق بالتوثيق الورقي للأحداث وللوقائع، بل حتى في مجالات المرئي والمسموع والفن والأفلام أيضاً. وهنا نتذكر كيف أتيحت ساحات المعارك لمراسلين يغطون الأحداث لصالح قناتي “المنار” (حزب الله) و”العالم” (إيران)، بينما لم يتم التركيز على المراسلين السوريين الذين صاروا كومبارس المشهد الصحافي، رغم أن بعضهم أصيب في سياق مرافقتهم لقوات نظام الأسد، بينما قتل آخرون منهم.

وأيضاً نتذكر كيف مُنحت الرخصة لوكالة (ANNA-News شبكة الأخبار الأبخازية) كي تصور العمليات الحربية على الأرض، بينما أوكل التصوير الجوي لشركة russiaworks كي تقوم بتطيير كاميراتها الدرون في كل الأماكن التي وصلتها، فصنعت “جماليات” الكارثة التي أحدثتها براميل وطائرات الأسد في المناطق التي دمرها!

وحتى في مجال التصوير الفوتوغرافي، لنلاحظ كيف فُتحت قاعات العرض، في دار الأوبرا أمام المصورين الإيرانيين، خلال المعرض الذي أقيم بداية السنة الماضية، تحت عنوان “كان يا ما كان مقاومة” الذي أنجزه اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية-مكتب دمشق، برعاية محمد اﻷحمد وزير الثقافة السابق.

وبالعودة إلى التوثيق المطبوع، نتوقف عند أمثلة من كتب أصدرها مؤلفون من الخارج، تم إبرازهم على حساب أخرى كتبها سوريون. فيأتي الجزائري نور الدين بولحية بمؤلفه “سورية والحرب الكونية” وبعنوان فرعي هو “مقالات تنويرية حول حقيقة ما يجري من صراع في سورية” الذي صدر العام 2018. وينتخي اليمني، محمد محمد الحكيم المقالح، في حفلة شهود الزور ليؤلف كتاباً بعنوان “الربيع الأسود في غوطة دمشق: حرب الإرهاب على سورية 2011-2018”.

وحتى في الكتب التي تولتها شخصيات سورية من مقامٍ عالٍ، ككتاب “سورية في مواجهة الحرب الكونية” الذي أشرفت عليه الدكتورة نجاح العطار، نائب رئيس الجمهورية، سيكون من المهم وربما الأهم أن يكون المساهمون عرباً، بينما سيلعب السوريون دور “السنّيدة”، حتى وإن جاء الآخرون بمعلومات وأرقام ليست سوى “ألبندة”! كتلك التي يسوقها المصري رفعت السيد أحمد عن عدد الإرهابيين العرب، الذي دخلوا سوريا، وكم قتل منهم على يد الجيش السوري، إلخ… نقلاً عن مركز “فيريل” الألماني، الذي لا يخفى على القارئ، أنه جزء من ماكينة النظام، التي تعمل على التزوير وتسويق روايته.

لكن حضور مثل هذه النماذج من الكتّاب والباحثين لم يُلغِ أن البحث كان منذ البداية عن مسوقين غربيين، حتى وإن تم نبشهم من حاويات القمامة الفكرية. وهكذا يُجرد سامي كليب قلمه، قبل أيام أيضاً، ليكتب عن كتاب الفرنسي Roland Hureux بعنوان “فرنسا والأطلسي في سورية، التضليل الكبير”، مسبغاً على مؤلفه الصفات التعظيمية. فهو، بحسب كليب، “ليس شخصاً عادياً، حيث أنه مؤرخٌ وعضو اللجنة العلمية لمؤسسة شارل ديغول، ومستشار سابق في مركز التحليل والتوقعات التابع لوزارة الخارجية الفرنسية، وهو خريّج أعرق المعاهد الفرنسية لتخريج كوادر الدولة”.

ووسط هذه الازدحام، تسعى دار دلمون الجديدة، لصاحبتها عفراء هدبا (موظفة في التلفزيون السوري) للحصول على قليل من الجعالة المعنوية، وربما المادية، من خلال إصدار الترجمة العربية لكتاب الكندي مارك تاليانو “أصوات من سورية”، الذي يؤدي وظيفة مشابهة للكتاب السابق لجهة التوجه إلى الجمهور الغربي!

ليس واضحاً متى التفتت مؤسسات نظام الأسد إلى ضرورة أن تولي العناية والجهد لمؤيديه وللذين يعيشون في مناطق سيطرته، فتمنحهم مساحة لكي يرووا حكاياتهم أو ما حدث معهم في سياق “الحرب” أو “الأزمة”. لكن من المؤكد أن هذا لم يحصل منذ وقت طويل، حيث لا يوجد إلى الآن سوى بعض المحاولات غير المكتملة أو الناضجة في هذا السياق، ما يعزز الظن بأن الاستثمار في “مظلومية” هؤلاء، والتنافس على الاستحواذ على سرديتهم، إنما هو نتاج المرحلة الحالية، حيث يسود الاعتقاد بأن النظام انتصر على أعدائه، وأن الالتفات إلى القضايا الهامشية لم يعد ممكناً فقط، بل بات قابلاً للحصول على الدعم والتمويل أيضاً!

  • Social Links:

Leave a Reply