سوريا : شبح التقسيم ..

سوريا : شبح التقسيم ..

2/2 مركز حرمون للدراسات المعاصرة ..

مقدمة :

تُشير التطورات التي شهدتها الأشهر الأخيرة على صعيد المسألة السورية، أو في الحرب الدائرة في سورية وعليها، إلى أن شبح التقسيم ما زال ماثلًا أمام البلاد، لا بل أخذ يهدِّد أكثر فأكثر مستقبل سورية ومصير شعبها أيضًا. واتفاق وقف إطلاق النار الذي توصل إليه أخيرًا وزيرا الخارجية الأميركي، جون كيري، والروسي، سيرغي لافروف، في 9 أيلول/ سبتمبر الجاري، ودخل حيّز التنفيذ مساء يوم الإثنين في 12 من الشهر نفسه، لا يبدّد هذا الشبح .

رابعًا: مشروع “الفدراليّة الكرديّة”

إذا كان مشروع “سورية المفيدة” يُشكّل الرافعة الأولى التي تُهدّد وحدة سورية، فليس من شكٍ في أن مشروع “الفدرالية” الكردية التي يُراد فرضها على السوريين، والنزوع الكردي عمومًا نحو الانفصال، يُشكّل الرافعة الثانية لهذا التهديد. وما يجمع بين هاتين “الرافعتين” تطلّعُ كلّ منهما إلى دعمٍ دوليّ خارجي لتمرير مشروعها وإسباغ الحماية عليه .

من المعروف أن بعض الأوساط الكردية النافذة بقوة المال و السلاح ، وبارتباطاتها الخارجية ، كانت علاقتها بـ “ الثورة السورية ” ملتبسةً منذ البداية ، لا بل كثيرًا ما عملت على إقامة شبكةٍ من المصالح مع “ نظام الأسد ” ، وتبادلت المنافع معه ، و أضرّت بقوى الثورة في أكثر من مكان . لا بل ، وفي تصرّف مُريب ، ومنذ اتّساع رقعة النزاع في سورية في العام 2012 ، انسحبت قوات النظام تدريجيًا من بعض المناطق الشمالية الشرقية ، محتفظةً بمقارّ حكومية و إدارية ، وببعض القوات في المدن الكبرى كالحسكة و القامشلي . وبعد انسحابها ، عمل “ حزب الاتحاد الديمقراطي ” الكردي على إرسال مجموعات من المقاتلين الذين تلقّوا تدريبًا على يد “ حزب العمال الكردستاني ” لإدارة المناطق التي يقطنها الأكراد ، بعد الإعلان عن إقامة الإدارة الذاتية  الموقّتة ، وسمح النظام بدخول هؤلاء المقاتلين بهدف استخدام الورقة الكرديّة المسلّحة في مواجهة تركيّا وفصائل المعارضة السورية في آنٍ معًا .

هذه الأوساط ، هي التي لعبت الدور الرئيس في تشكيل الرافعة الثانية التي تهدّد وحدة أراضي البلاد، ففي مطلع العام 2015، أقدم “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، الذي يتزعمه صالح مسلم، على إعلان “الإدارات الذاتية” في شمال سورية، والتي ضمّت “ ثلاثة أقاليم ” : ( الجزيرة ، وعين العرب/ كوباني، شرق نهر الفرات، وعفرين غربه ) ، وبعد عامٍ على هذا الإعلان ، اجتمع في 17 آذار/ مارس الماضي 200 مندوب، يمثلون 31 حزبًا كرديًا وأشوريًا وسريانيًّا، في مدينة الرميلان الخاضعة لسيطرة “وحدات حماية الشعب” الكردية، وعقدوا المؤتمر التأسيسي لـ “نظام الإدارة في روج آفا ”  (غرب كردستان )، تحت شعار  “ سورية الاتحادية الديمقراطية ضمان للعيش المشترك وأخوة الشعوب” إيذانًا بإعلان “ الفدرالية الكردية ” .

وتجدر الإشارة إلى أن عقد هذا المؤتمر، والإعلان من خلاله عن هذه “الفدرالية”، قد جاء بعد عدة أشهر من تشكيل “قوات سورية الديمقراطية” التي جرى الإعلان عنها في تشرين الأول/أكتوبر 2015 بإشراف ودعم عسكري أميركيين، لتعمل في ظلّ “التحالف الدولي” لمحاربة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش). ومن المعروف أن هذه القوات التي تشكّلت في حينه من 20 وحدة عسكرية، والتي عمل “حزب الاتحاد الديمقراطي” على أن تضم بعض العشائر العربية ومقاتلين من السريان للإيحاء بأنها ليست كردية بحت، تخضع في قيادتها عمليًا لـ “وحدات حماية الشعب” الكردية التابعة لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي .

يبدو أن هذا الحزب الذي عمل على إخضاع المجتمع الكردي وفرض هيمنته عليه، قد راهن على أن الولايات المتحدة الأميركية ستمنحه الدعم اللازم لتحقيق حلمه بتكريس “المشروع الفدرالي”، وبإتاحة الفرصة له للربط بين عين العرب (كوباني) وعفرين، أي بين شرق نهر الفرات وغربه، لقاء مشاركته في محاربة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) تحت لوائها. لكن رهانه هذا باء بالفشل، وبحالةٍ من الخذلان، عندما أطلق جون بايدن، نائب الرئيس الأميركي، تصريحه من تركيا في الرابع والعشرين من آب/ أغسطس الماضي، في اليوم الذي انطلقت فيه عملية “درع الفرات”، وطالب فيه الأكراد في “قوات سورية الديمقراطية” بالعودة إلى شرق النهر، تحاشيًا لاستياء تركيا التي تعدّ هذه المسألة خطًا أحمر لن تسمح للأكراد بتخطّيه تحت أيّ ظرف .

هذا ، وكان مايكل راتني ، المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية ، قد أبلغ “ الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ” بأن الأكراد “ طلبوا منا الاعتراف بـ ( روج آفا/ غرب كردستان ) ، لكننا رفضنا ، وقلنا لهم إن طاولة المفاوضات هي التي تحدّد مستقبل الدولة السورية ” .

في جميع الأحوال، مطالبة الأميركيين الأكراد بالعودة إلى شرق النهر لا يبدو أنها تُغلق الباب على “مشروع فدراليتهم” أو “كانتونهم” المفترض، فالاتفاق الذي جرى توقيعه بإشراف الروس في قاعدتهم في حميميم، في أواخر آب/ أغسطس الماضي، بين ممثلين عن قوّات النظام و”وحدات حماية الشعب” الكردية للتهدئة في الحسكة، بعد الصدامات التي نشبت بينهما خلال الشهر المذكور، رأى فيه الأكراد دفعًا لاستكمال سيطرتهم على أغنى محافظات سورية التي تبلغ مساحتها 23 ألف كيلومتر مربع، وتمتلك جميع العناصر الاقتصادية التي تجعل “الكيان الكردي” المفترض قابلًا للحياة. وهناك معطيات تشير إلى أن “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، كان يُحضّر لعملية الحسكة منذ أشهر قبل وقوعها، وأنه عرض في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي على الأميركيين القيام بعمليّة واسعة لتنظيف الحسكة من قوّات النظام، والإمساك بالمربع الأمني في القامشلي، مقابل تعهد الأميركيين بتمويل رواتب الموظفين، غير أن الأميركيين رفضوا الخوض في هذا الأمر .

خاتمة وخلاصات :

1- يبدو أن “المسألة السورية” دخلت في مزيدٍ من التشابك والتعقيد نتيجة التغيّرات المتلاحقة، والتبدّلات في المواقع والاصطفافات المحليّة والإقليميّة والدوليّة، وصار من حقّ السوريين أن يُبدوا مخاوفهم من هذا النظام الدولي المنوط به المحافظة على أمن العالم، ويوجّهوا الإدانة لهذا الصمت المُريب الذي رافق حادثة داريّا، ويُرافق حوادث المعضميّة ومضايا والزبداني ووادي بردى والوعر.. إلخ، خاصّةً حين يجري السكوت أو غضّ النظر عن الجرائم التي يجري ارتكابها في هذه المناطق، حيث يجري تخيير السكان بين الإبادة الجماعيّة عبر الحصار المُميت وبين القبول بتسليم أنفسهم واقتلاعهم من بيوتهم وأراضيهم  !

2– مع انسداد الحلول السياسيّة، وعجز المتحاربين عن الحسم العسكري، لم يعد متاحًا إلا تكريس مناطق النفوذ انطلاقًا من الوقائع التي فرضتها الحرب الدائرة على الأرض، ومن غير المستبعد أن يكون الهدف الأميركي من وراء التفاهم أو الاتفاق مع الروس الذي جرى الإعلان عنه في التاسع من الشهر الجاري، التوصّل إلى توازنٍ على الأرض، أو تثبيت خطوط الصراع، كتمهيدٍ لحلّ سياسي. والسؤال المشروع هو: إذا كان التقسيم أمرًا واردًا في إستراتيجيات القوى الدوليّة النافذة، فهل ينتظر إنضاجَ الظروف في الإقليم بأسره، وتفاهم القوى الدوليّة على نظام دوليّ جديد ؟

3– هناك أحاديث يجري تسريبها عن خرائط يتمّ على أساسها توزيع النفوذ في المنطقة. في هذا السياق يُمكن أن ننظر إلى اتفاق الهدنة الذي أرسته روسيا في الحسكة، وفرض على قوّات الأسد الانسحاب من هناك، الأمر الذي يستتبع، ربما، إقامة منطقة حكم ذاتي للأكراد وفقًا لمفهوم “الدولة الفدرالية” في سورية الذي طرحه الروس في وقت سابق .

4– لكن، هل يعني هذا أن الشعب السوري سوف يستكين لجميع هذه الخطط التي تُحاك بعيدًا منه، وتتعارض مع مصالحه الوطنيّة، وتُصادر حاضره ومستقبله أيضًا؟ السنوات الست التي مرّت على “الثورة السورية” حتى الآن، والتضحيات الجسام التي قدّمها الشعب، ويعجز التاريخ عن الإحاطة بها، تقول عكس ذلك .

5– لا يتوافر لجميع مشاريع التغيير الديموغرافي التي يُديرها النظام وحلفاؤه فيما يُسمّى بـ “سورية المفيدة” مقوّمات الاستمراريّة والاستقرار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى “الكيان الكردي”. ذلك أنها تتشكّل كجزرٍ في بحرٍ مغاير ورافضٍ لها، الأمر الذي يحول دون تحوّلها إلى حقيقةٍ ديموغرافية مستقرّةٍ ودائمة .

6– يتطلب هذا أن تعمل القوى السياسية والمسلّحة المعارضة ذات التوجه الوطني في المناطق المختلفة على تخفيف الضغط عن المناطق المحاصرة التي تشهد تصعيدًا شرسًا من النظام وحلفائه، في سياق سياسة تهجير السكّان غير المرغوب فيهم ضمن حدود ما بات يُعرف بـ “سورية المفيدة”، مستخدمة آليات عديدة كتمتين وتنظيم اللحمة الداخلية، ومخاطبة العالم والأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان بشكل مستمر، من أجل إفشال إستراتيجيّة إعادة تشكيل ديموغرافيا هذه المناطق وتقسيم سورية .

  • Social Links:

Leave a Reply