علي العائد
هنالك أكثر من داعش يكمن في الفقر، وأكثر من داعش بين ملايين الأطفال السوريين الذين خرجوا من المدارس لست سنوات كاملة، وداعش في انعدام الأمن لفترة غير معلومة، وداعش في بيوت مهدمة، وداعش في خوف اللاجئين من العودة إلى البلاد في ظل انسداد أي أفق للحياة في المدى المنظور
لا خلاف بين السوريين على شر داعش، بل على درجة شره مقارنة مع شر النظام. وحتى بين الجهات الأخرى المتدخلة في سوريا، لا يوجد مثل هذا الخلاف. ولعل أقل الأطراف تصنيفاً لدرجة شر التنظيم هو النظام الأسدي، الذي استفاد من النبتة البرية المسماة “الدولة الإسلامية” أكثر مما استفاد منها التنظيم نفسه منذ ولادته في منتصف 2013.
تسمية النبتة البرية تجنبنا البحث في تفصيلات نظرية مؤامرة تسلب داعش إرادته، وتعطيه حق ادعاء العصامية في نشأته وتطوره، بحيث يمكن القول إن التنظيم نشأ ونما لأسباب موضوعية تشارك في تهيئة تربتها حكم حزب البعث في سوريا، والعراق، أولاً، وأكمل الأسباب الحكم الأمريكي للعراق في أعقاب إسقاط صدام حسين عام 2003، إضافة إلى جملة أسباب أساسها فشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية في عموم الدول العربية والإسلامية.
هذه الأسباب الموضوعية تقوم مقام القرائن، لكن أيَّـاً منها لا يرقى، حتى اليوم، إلى دليل يؤكد أن التنظيم منشأة أسدية، أو إيرانية، أو تركية، أو أمريكية، أو … إلخ.
وفي التنظيم، من داخله، يبدو أن داعش هو نوع من فيدرالية، وحكم لا مركزي، فداعش الموصل مختلف عن داعش الرقة، وإن كان الخليفة واحداً، وشرعيو التنظيم في الموصل مختلفين عن شرعييه في الرقة.
وعليه، سيشكل القضاء على التنظيم في مركزيه الكبيرين، أو عاصمتيه الفيدراليتين، مجرد عملية إعادة انتشار لعناصره، في ما يشبه الكائن الخرافي الذي كلما قطعت له رأساً، أو طرفاً، نبت له رأس بديل وطرف بديل، على غرار الحرب على القاعدة التي أضعفته كثيراً في السنوات الأخيرة، لكنها لم تمت بغارات الطائرات بدون طيار، ولا بمحاولات تجفيف منابع التمويل. فخلايا القاعدة التي تُدعى في الأدبيات البحثية بـ”الخلايا النائمة” ترقد الآن في مختبرات متفرقة في الكرة الأرضية، وليس بالضرورة في العالم العربي، أو أفغانستان وباكستان، بل في كل مكان. والأمر نفسه ينطبق على داعش، لكن باختلافات ترتبط باجتهادات الأشخاص المنتمين له الآن، والمختلفين عن “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، ومنشئها أبو مصعب الزرقاوي.
أكثر من ذلك، يمكن الحديث عن تحول داعش بالاستفادة من الفكرة، وليس الفكر، فهنالك أكثر من داعش مرشح للظهور والنمو، ومنهم الأكراد، الذين يسيطرون الآن على الجزيرة العليا في سوريا، وأجزاء من شمال حلب، شرق الفرات، وغربه، بمباركة ودعم أمريكيين، وتفهم روسي بالاتفاق مع النظام الأسدي، رغم أنف تركيا، وأنف العرب في مناطق وأراضٍ لا نجازف إذا أطلقنا عليها وصف “متنازع عليها”، بحكم الأمر الواقع.
داعش الثاني هو الفصائل المسلحة الممولة من أطراف متفقة على خنق آخر أنفاس الثورة السورية، من النصرة، إلى أحرار الشام، وجيش الإسلام، وفيلق الرحمن، وغيرها من الكتائب.
وهنالك أكثر من داعش يكمن في الفقر، وأكثر من داعش بين ملايين الأطفال السوريين الذين خرجوا من المدارس لست سنوات كاملة، وداعش في انعدام الأمن لفترة غير معلومة، وداعش في بيوت مهدمة، وداعش في خوف اللاجئين من العودة إلى البلاد في ظل انسداد أي أفق للحياة في المدى المنظور.
وسيكون هنالك داعش على الحدود الدولية لسوريا مع الدول التي تتشاطأ معها الحدود، فالنظام لم يعد مسيطراً على حدوده البرية مع تركيا، ومع العراق. وفي الأصل، لديه مشاكل حدودية مع الأردن ولبنان، ناهيك عن إسرائيل التي تحتل الجولان السوري منذ 1967.
وليس من المستبعد أن ينشأ داعش على خلفية الحدود الداخلية بين فيدراليات سوريا إن تم إقرار هذا في دستور البلاد المقبل، فلا الأكراد سيسلمون للعرب السنة بما يعتقدون أنه حق لهم في تل أبيض كي تكون منتمية إلى “الإقليم السني”، ولا العلويون سيتفقون مع السنة على تقاسم مناطق “متنازع عليها” في حمص وحماة واللاذقية.
الآن، الأكراد والفصائل السنية، لا يضربون بسيفهم في كل تلك الوقائع والاحتمالات، بل بسيف أمريكا والممولين الآخرين، بينما يضرب النظام الأسدي وداعموه وميلشياته بسيف الطائفية الذي لا يملكون غيره، وهو داعش الأكبر، إن لم يكن هو الأول الذي يتزعمه البغدادي.
إذاً، فمن يريد استيلاد الدواعش الجديدة، أو استنبات تنظيمات تديم الاختلال الاجتماعي والسياسي في سوريا، هي أمريكا، رغم أنف روسيا ونظام الأسد وإيران وتركيا. فمن غير المعقول أن أمريكا سلمت جوار إسرائيل لروسيا بتلك السذاجة. كما لا يُعقل تصديق ذلك الحنق الذي يبديه شيوخ الكونغرس الأمريكي ضد سياسات أوباما الانسحابية. وعلى الأغلب، اختارت أمريكا ألا تواجه روسيا، واختارت ألا تفتعل حرباً مباشرة مع إيران، لأنها تمتلك خيوط “الدعشنة”، حتى لو لم تخلق واشنطن التنظيم بنفسها. ففكرة الداعشنة قديمة جديدة، تترجمها حالة خلق الوحش، أو تركه لينمو قبل افتعال حرب للقضاء عليه.
في الرقة، لن تجازف أمريكا بتمكين الأكراد منها بعد طرد داعش. وعلى الأرجح ستتسلم المدينة “قوات النخبة”، التي أسسها رئيس “تيار الغد السوري”، والرئيس السابق للائتلاف، أحمد الجربا، في صفقة شبه معلنة.
ففي لقاء أجرته “رويترز” (3 فبراير – شباط) الماضي، قال أحمد الجربا إن قوة عربية مؤلفة من ثلاثة آلاف مقاتل تحت قيادته تتلقى تدريباً مع قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، استعداداً للمشاركة في حملة عسكرية لطرد تنظيم “الدولة الإسلامية” من معقله في مدينة الرقة.
وبالفعل، يتركز نشاط “النخبة” الآن شرق الرقة، بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية، في مهمة قطع طرق إمداد التنظيم باتجاه ديرالزور على بعد 22 كيلومتراً من مدينة الرقة.
بينما سيطرت “قسد” على مطار الطبقة العسكري (2.7 كيلومتر جنوب مدينة الطبقة)، وأصبحت في المجمل تسيطر على 65% من مساحة محافظة الرقة البالغة أكثر من 19.616 ألف كيلومتر مربع، بعد معارك شكلية تدرجت ببطء نحو مدينة الرقة منذ أواخر نوفمبر الماضي، بدعم واسع من طيران التحالف الدولي، وبدعم قوات أمريكية على الأرض مؤخراً، حيث قامت القوات الأمريكية بعملية إنزال جوي لجنود تابعين للمارينز مجهزين بمدافع وأسلحة ثقيلة.
وبذلك تستثمر أمريكا في التناقض بين الكرد والعرب، وتؤجل الصدام المحتمل بينهما، في لعبة احتواء مزدوج قد تدفع فيه واشنطن أنقرة لإدارة اللعبة، حين يتفق بوتين وترامب على التفرج من بعيد وحصد النقاط دون المغامرة بأي رأسمال.
Social Links: