رابعًا: بين شدّ وجذب
إذًا، يشهد السوريون تصريحات متناقضة، مرّة مرضية للمعارضة وتُصرّ على رحيل الأسد، وأخرى غير مُرضية لها، بل ومحابية للنظام السوري، وتدعو للقبول ببقاء الأسد في السلطة، على المدى القريب أو البعيد. وهذه المواقف المتناقضة تأتي في الغالب على خلفية التماشي مع التفاهم الروسي- الأميركي على تبريد الجبهات في سورية، وعقد مصالحات محلّية، وتقليص النفوذ الإيراني، وتخفيض سقف المعارضة، وإيجاد حل وسط حتى لو أزعج الأطراف، المحلية منها والإقليمية.
في الوقت نفسه، لا يمكن الحديث عن احتمال قناعة هذه الدول بأن الأسد هو الأفضل للبقاء، ذلك أن سياسييها يُدركون أن أي رئيس قتل قسمًا من شعبه، ودمّر البنى التحتية، وسهّل للحركات الإرهابية العالمية التحرك والحياة، لا يمكن أن يكون مقبولًا سواء من شعبه أو من المجتمع الدولي، بسبب انعدام الثقة بسياساته وتصرفاته، والجميع ليسوا مقتنعين ببقاء الأسد لأنهم يعرفون أن بقاءه هو استمرار للتطرف، وأن بقاءه من دون عدالة انتقالية لن يجلب لسورية أي استقرار على المدى البعيد.
في الغالب، لن تُمثّل كل هذه التصريحات والخطابات، الغربية والعربية، منعطفًا فيما يخص الموقف النهائي من المسألة السورية؛ فقبل خمس سنوات كان رحيل الأسد شرطًا أساسيًا للحلّ لدى معظم الأطراف، الدولية والإقليمية، وهو ما أفضى إلى بيان جنيف 1 في حزيران/ يونيو 2012، الذي أكد ضرورة الوصول إلى حلّ سياسي عبر مرحلة انتقالية تقودها هيئة حاكمة تتمتع بكامل الصلاحيات التنفيذية. لكن سير الحوادث، والوقائع الميدانية المستجدة، دفعت تدريجيًا هذه الدول، أو بعضها على الأقل، إلى تغيير مواقفها، وفقًا لمصالحها وتغيّر تحالفاتها، وبناءً على مستوى الخطر الذي أخذ يهدِّدها، وخوفها من انتقال عنف النظام وعنف الجماعات التكفيرية إليها، فضلًا عن صعوبات التحدي في الساحة السورية التي باتت ميدانًا لتصفية حسابات إقليمية ودولية، ومركزًا لاستعراض القوى، ومعبرًا غير ذي أهمية لتحقيق أهداف خاصة بهذه الدول.
عندما صرح قادة عرب وغربيون بأن الأسد فقد شرعيته وعليه أن يرحل، لم يقوموا عمليًا بما يحقق ذلك، ولم يضغطوا عليه بجدّية لزجره عن استخدامه العنف الإجرامي المنفلت من كل عقال، كما لم يُساعدوا المعارضة السورية لتقوم هي نفسها بذلك. واعتقدوا مُخطئين أن النظام السوري يمكن أن يُغيّر سلوكه، لذلك بقي الأسد في السلطة، وأنقذته لاحقًا، حين أصبح وضعه مهدّدًا، كل من روسيا وإيران. واتضح أنهم اكتفوا بتوظيف تصريحاتهم من أجل الضغط المعنوي فحسب، وأنها كانت، عمليًا، مجرد تصريحات تكتيكية ليس أكثر. والأمر نفسه قد ينطبق، الآن، على هذه التصريحات الجديدة التي تتسرب من كل حدب وصوب.
ما زالت دول “النواة الصلبة” لأصدقاء سورية على مواقفها؛ وجلّ ما تنازلت عنه، تحت ضغوط روسية، وعدم اكتراث أميركي، هو القبول بفكرة بقاء الأسد حتى نهاية المرحلة الانتقالية، وأن يكون خلالها بلا صلاحيات أو بصلاحيات بروتوكولية، أي وافقت على بقائه شرط أن يكون بلا مخالب.
هذا الأمر يجد تحدّيًا من روسيا، التي تُصرّ على أن تحقيق السلام والاستقرار في سورية يجب أن يتم بوجود الأسد وبإشرافه، وتُساعده بكل الوسائل، السياسية والعسكرية والاقتصادية، على بلوغ هذا الهدف والاحتفاظ بالسلطة، يُصاحبه غضّ طرف غربي عن ارتكابه جرائم حرب متتالية لا يبدو أن لها نهاية.
لذلك أعلنت دول أوروبية رئيسية (ألمانيا، فرنسا وبريطانيا) عن رفضها منح أي أموال أو مساعدات لإعادة بناء سورية بعد توقّف الحرب ما لم تجري تنحية الأسد، وهي ترى أن إعادة البناء بوجود الأسد ستكون عملية ترميم له ولنظامه وأجهزته الأمنية والعسكرية، وليست عملية ترميم للدولة المنكوبة، وهو أقصى ما تملكه أوروبا من سلاح تعوّض به عجزها وعدم قدرتها على مواجهة الدولتين الكبريين، أميركا وروسيا.
ويُمكن القول إن النواة الصلبة لأوروبا، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، باتت ترى، بعد المتغيرات الحاصلة، أن الإصرار على مطلب إطاحة بشار الأسد أضحى سياسة عقيمة، خاصة مع وجود الإصرار الروسي، وعدم جلاء الموقف الأميركي. وهي ترى، في الوقت نفسه، أن بقاءه إلى ما بعد المرحلة الانتقالية عملية عقيمة أيضًا، وهذا الأمر ينطبق، بصورة أو بأخرى، على الولايات المتحدة الأميركية التي يبدو أنها لا تريد للأسد الانتصار، ولا تريد له الهزيمة، في الوقت الراهن على الأقل، وهذا الأمر يدعو للاعتقاد بأن كل الجولات المقبلة لمؤتمر جنيف ستكون، هي بدورها، محكومة بهذا السقف.
خلّفت الحرب السورية بين نصف مليون ومليون ضحية، ودفعت نحو نصف السكان للنزوح واللجوء، وتسببت بدمار هائل في البنى التحتية والمنشآت الاقتصادية الحيوية والإنتاجية، بما يُقدّر بمئات المليارات من الدولارات، ثم تعود دول غربية لتتراخى من جديد وتُلمح بأن الأسد قد يبقى، وبشبه تنسيق فيما بينها، وتدعو إلى حل سياسي بوجوده، هو الذي يتحالف مع أشد خصومها، طهران وموسكو، وهذا يدفع للتساؤل حول مدى جدّية هذه المواقف، سواء التي تُطالب بتنحي الأسد أو التي تعلن الموافقة على وجوده الموقّت.
وتبقى أولوية أولويات الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، والتنظيمات الأخرى المشابهة، التي يتوقع خبراء عسكريون أنها، بعد أن تُجهز عليها ضربات قوات التحالف الدولي وضربات الروس، سوف تُولّد تنظيمات متطرفة لن تكون بالضرورة أقل عنفًا من تلك الآيلة للاندثار، وهذا الأمر الفضفاض (مكافحة الإرهاب)، لن يوصل سورية إلى أي حل، ولا إلى أي برّ أمان، ذلك أن هناك دلائل قوية ومُثبته تشير إلى علاقة إيران وميليشياتها والنظام السوري بهذه التنظيمات الإرهابية، التي سوف يعملون على تغذيتها ومدّها بأسباب البقاء، ومن ثمّ، استثمارها، طالما أن هناك تهديدًا للنظام السوري ولإيران. وقد يصل الأمر إلى التهديد بنشر الفوضى في المنطقة في حال تعرّض النظام لخطر جدي أو تعرّض المشروع الإيراني في المنطقة لخطر التهديد.
كل ما سبق يدفع الجميع لأن يكون براغماتيًا، سواء على مستوى المعارضة السورية، أو على مستوى الدول العربية، أو على المستوى الأوروبي والأميركي، لكن اللجوء إلى البراغماتية مع أنظمة تعتمد على استثمار الإرهاب وتهدد بنشر الفوضى قد يحمل من المخاطر ما يحمل.
خامسًا: النظام والمعارضة
وسط كل هذه الموجات الضبابية وغير المستقرة من المواقف، والتحدي الدولي، والتفكك والاهتزاز الإقليمي، ما زال النظام السوري يُصرّ على أنه المُنتصر في هذه الحرب. فقد قال رأس النظام في 20 آب/ أغسطس الماضي “لقد دفعنا ثمنًا غاليًا في سورية في هذه الحرب، لكن تمكنّا من إفشال المشروع الغربي”، ويبدو أن لديه ثقة بأن لعبة الإرهاب نجحت في ضمان وجوده على رأس السلطة، وأنه لن يكون هناك انتقال سياسي، أو مرحلة انتقالية، ولهذا لا تُقلقه المفاوضات ويبدو أكثر استرخاء وراحة، على الرغم من أن بضعة تصريحات مترددة هنا وهناك لا يمكن أن تُشكّل مصدرًا لهذه الثقة، أو تضمن مصيره، إلا إذا كانت لديه “تطمينات” أقوى بأن المنطقة لا تحتمل أي نظام وطني ديمقراطي حر تفرضه الثورات.
وفيما ظلّت (الهيئة العليا للمفاوضات)، حتى الآن، متمسّكة بموقفها القائم على ضرورة تنحي الأسد قبل المباشرة في أيِّ انتقالٍ سياسي، تُصرّ (منصة موسكو) على أنَّ رحيل الأسد يجب ألا يكون شرطًا مُسبَقًا للمفاوضات، ويُخشى أن تستطيع روسيا خرق هذه الهيئة بمنصات تقلب الموازين وتُخفض السقوف وتُسهّل الإقرار ببقاء الأسد على الرغم من كل ارتكاباته بحق شعبه وبحق سورية.
ففي مسعاها لفرض رؤيتها، تعمل روسيا على دفع المعارضة السورية إلى حافة اليأس، والضغط عليها، وعلى الغرب عمومًا، لطيّ بيان جنيف1، واعتماد قرار الأمم المتحدة رقم 2254 حصرًا، ما يعني أنها تريد فرض خطة طريق لا تشترط رحيل الأسد.
أما إيران، الداعم الدائم للنظام السوري، فإن موقفها يتماهى مع موقف موسكو، وهي مستمرة في دعمه بلا حدود عبر وكلائها من الميليشيات اللبنانية والعراقية وسواها، وعبر دعم عسكري وسياسي واستخباراتي، لكن قوتها الميدانية تظهر محدودة مقارنة بالقوة الروسية، ويصطدم طموحها ببعض الحواجز التي وضعها الروس، وبموقف أميركي رافض لهيمنة تزيد من زعزعة استقرار المنطقة. لكن استسلام إيران لمبدأ تقليص دورها في سورية مستبعد، خاصة أن هذا الدور مرتبط بخطة أوسع تشمل المنطقة بأسرها عملت عليها على مدار عقود، وهذا ما سيدفع إيران للبحث عن وسائل مختلفة لتعميق دورها في سورية، خاصة أن نفوذها في النظام السوري والأجهزة الأمنية واسع وعميق، مع وجود شكوك في صدق رغبة روسيا في التخفيف من نفوذها والحدّ من دورها كحليف ما زالت تعتمد عليه.
سادسًا: خاتمة
لم يعد هناك شكّ لدى شريحة واسعة من الدول الغربية بأن بقاء الأسد، كواقع سياسي وعسكري، لا يمكن أن يؤدي إلى سلام شامل ودائم ومستقر في سورية، فهو لا يمكن أن يصبح حليفًا أميركيًا بسبب التجارب الفاشلة التي واجهها الأميركيون معه، وكذلك لا يمكن أن يكون حليفًا أوروبيًا بعد أن خذل أوروبا غير مرّة، والأهم أنه لا يمكن أن يكون مقبولًا من ملايين المتضررين من حربه، وربما أيضًا لن يكون مقبولًا كرئيس تقليدي من (الرماديين) أو (التيار الثالث) الذي شهد كيف دمر سورية بحجّة مكافحة الإرهاب، ودمّر مدنًا كاملة، ليقضي فحسب على عشرات المسلّحين فيها، وكيف استخدم الكيماوي ضد الشعب وقتل المدنيين من دون مبرر، وحوّل سورية إلى أرض مشاع للإيرانيين وللميليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية والأفغانية التي استقطبتها طهران للدفاع عن مصالحها وعن النظام.
في ظل عدم وجود أفق لأي حل سياسي في الوقت الراهن، سواء عبر أستانا أو جنيف، ووجود تنافس دولي وتضارب مصالح، وتحالفات للمتناقضات، وتوافقات غير مكتملة، يبقى أمام المعارضة السورية، والدول الحليفة لها، أن تسعى لإقناع الأطراف الأقوى في المعادلة السورية، أي روسيا والولايات المتحدة تحديدًا، بضرورة خروج بعض الأطراف من العملية كلها، لتبقى المعادلة أقلّ تشعبًا، وتُصبح المفاوضات حول مستقبل سورية السياسي أكثر موضوعية، وخلق ظروف يمكن من خلالها إنضاج مشروع التغيير السياسي المُقنع والقادر على وقف الحرب السورية نهائيًا.
يمكن الجزم، أنه من دون تسوية سياسية شاملة، لا يمكن الحديث عن نهاية للحرب في سورية، ومن دون تغيير سياسي واضح المعالم لا يمكن تحقيق الاستقرار، ومن دون “هيئة حاكمة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة”، وفق ما تنص عليه القرارات الدولية المتعاقبة التي صدرت حول القضية السورية، لا يمكن الحديث عن “تدجين” للمعارضة السورية ودفعها للقبول بالانخراط مع “أطراف من النظام” في “تسوية” لا تلبي الحد الأدنى من تطلعات السوريين.
Social Links: