في ذكرى يوم وفاة جمال عبد الناصر وايلول الاسود ورقصة بائع الجرائد الإنكليزي ــ عارف دليلة

في ذكرى يوم وفاة جمال عبد الناصر وايلول الاسود ورقصة بائع الجرائد الإنكليزي ــ عارف دليلة

 

كان ذلك في أواخر ايلول /سبتمبر عام ١٩٧٠.

كانت هناك دعوة إلى اجتماع في لندن لعدد من الطلبة العرب من مختلف الأقطار العربية الذين يتابعون الدراسة في مختلف البلدان الاوربية بهدف إنشاء ” اتحاد الطلبة العرب في اوربا”.

كانت التطلعات نحو الوحدة العربية مازالت مهيمنة على عقول الطلائع العربية , وبالاخص الشباب الطلاب.

كان قد مضى على وجودي في جامعة موسكو (لومانوسوف) عامين، موفدا لتحصيل الدكتوراه في الاقتصاد لصالح كلية العلوم الاقتصادية بجامعة حلب.

كانت تلك الايام من أكثر ايام العرب الحديثة اضطرابا.

في الصحراء الأردنية كانت المنظمات الفلسطينية قد اختطفت وانزلت عددا من طائرات الركاب الدولية.

وكانت شوارع عمان / الاردن ساحة حرب حقيقية, كما كان يعرضها مراسل التلفزيون البريطاني حية من قلب عمان، حيث كانت الدبابات الحكومية تتحرك وتقصف وتدمر هنا وهناك، بعد أن بلغ الصراع ذروته حول الهيمنة على الاردن بين الملك حسين والمنظمات الفلسطينية التي كانت قد بلغت عز قوتها (التي تعاظمت، بشكل خاص، بعد الانتصار الذي حققته على الجيش الإسرائيلي في “معركة الكرامة ” عام ١٩٦٨ )، وكانت أصبحت عام ١٩٧٠ تتمترس في قواعد محصنة جيدا في جبال عمان ولديها عدد كبير من المقاتلين (الفدائيين) وكميات كبيرة من السلاح وتعطش لممارسة السلطة في اي مكان! وكانت الظواهر الفدائية تملأ شوارع عمان، عندما اتخذ الملك قرارا بتصفية وجود المنظمات الفلسطينية المسلحة وفرض سلطته الحديدية على البلاد. وكانت مطلقة الملك حسين (زوجته السابقة الفلسطينية) تطل على شاشة التلفزيون البريطاني في تلك الايام التي اسميت (ايلول الاسود) بشكل متكرر لتوجه للملك الشتائم والتهم بالعداء للفلسطينيين و بالخيانة والعمالة للإسرائيليين.

في تلك الايام سافرت الى لندن بتكليف من المكتب التنفيذي للاتحاد الوطني لطلبة سورية لتمثيله في اجتماع يعقد في لندن لتأسيس اتحاد عام للطلبة العرب في اوربا.

وصلت إلى مطار هيثرو مساء قادما من موسكو. وبينما خرج جميع الركاب بسلاسة فقد أوقفت جانبا وتعرضت الى استجواب دقيق عن طبيعة سفرتي الى لندن باعتباري شابا سوريا وباعتباري قادما من موسكو، ومازالت احداث خطف وتفجير الطائرات وأحداث عمان الصاخبة تتصاعد، وفوق ذلك كله فقد اضعت العنوان المدعو إليه!!

ولكنهم اخيرا تركوني اخرج والوقت متأخر مساء ولا ادري الى اين في لندن التي لااعرف فيها أحدا.

حملت حقيبتي الصغيرة ورحت اتمشي ذهابا وايابا بين طرفين، تصطف مكاتب شركات الطيران المختلفة بينهما. لاحظت بعد عدة مرات أن أحدا في المكتب الواقع في أحد الطرفين يحملق بي باهتمام بل يبدو ان يبتسم كلما اقتربت من مكتبه حاملا حقيبتي. عندها دققت في اسم المكتب فقرات اسم شركة طيران العال الإسرائيلية. ذهبت بعيدا قليلا وجلست على مقعد يجلس عليه شاب اسمر اسيوي الملامح. تبادلت معه السلام والحديث فتبين أنه باكستاني مقيم في لندن، ولما علم بالوضع الذي انا فيه قال: انا انتظر وصول صديقتي بعد قليل ويمكنني ايصالك الى اي فندق (بانسيون) على الطريق لتنام وغدا صباحا تبحث عن الجهة التي جئت بدعوة منها. وعلى مسافة من المطار انزلني الشاب الباكستاني موصيا صاحب المنزل بي، الذي اودعني غرفة صغيرة في الطابق الاول فوق المدخل. وما أن بدأت اغفو حتى سمعت أصواتا في المدخل من بينهما اصوات كلاب. نظرت من تحت ستارة النافذة فوجدت شرطيين مع كلبين يتحدثان بصوت عال لم افهم منه شيئا مع صاحب المنزل، ثم غادرا. نمت حتى الصباح، تناولت الفطور وحملت حقيبتي وركبت الحافلة حتى لندن، وهناك قمت باتصالات عبر هواتف جهات عربية رسمية حتى عرفت الفندق الذي يجري فيه الاجتماع الذي دعيت إليه.

وهنا لابد من التوقف عند بضعة احداث جرت خلال الأيام القليلة التي تلت.

– بخصوص المؤتمر والاتحاد الطلابي العربي في اوربا:

كان عدد المجتمعين يقارب المئة, على ما اذكر. ولكن كان أكثر من ثمانين بالمئة منهم من أبناء القطر المصري، يليهم في العدد العراقيون وبنسبة حوالي ١٥٪ ، بينما ال٥٪ الباقية من جميع الأقطار العربية الأخرى. وهذه الصورة عن توزع المشاركين تعطي فكرة عن الجهة الداعية والجهات الأمنية التي تقف وراء الفكرة وعن اهداف ومصير هكذا تنظيمات!

بعد اجتماعات اليوم الأول كان برنامج اليوم التالي يتضمن دعوة أحد الشخصيات السياسية العربية ليتحدث عن تجربة الوحدة بين مصر وسوريا وفشلها ونظرية الوحدة العربية.

وكان المتحدث المدعو هو الاستاذ صلاح الدين البيطار ,أحد مؤسسي وقادة حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية ، الذي كان واحدا من الشخصيات السورية المساهمة في إقامة الوحدة السورية – المصرية عام ١٩٥٨ , والتي لم تمض أشهر على قيامها بعد موافقة السوريين ، بما فيهم قادة حزب البعث العربي الاشتراكي ، على شروط عبد الناصر الصارمة بأن تكون الوحدة فورية وعلى حل الأحزاب السياسية ، اي ، في الحقيقة ، على إلغاء أنفسهم مع إلغاء دولتهم – سورية ! وكان ذلك من أهم أسباب تحول دولة الوحدة الى دولة أمنية تهيمن عليها الأجهزة القامعة للحريات الفردية والسياسية والديمقراطية والارادة الشعبية الحرة ، وكان ذلك اهم اسباب تٱكل الموجة العاطفية الهائلة التي انتشرت من المحيط الى الخليج الحاملة لشعار الوحدة العربية الشاملة والتي كانت شخصية الرئيس جمال عبد الناصر محورها وعمودها الرئيس ، هذه الشخصنة التي لعبت بعد تضعضع الموجة العاطفية بسبب طغيان الطابع الأمني القمعي للسلطة في دولة الوحدة ( الجمهورية العربية المتحدة ) وانعدام الكفاءة والوعي والمصداقية لدي البيروقراطية التي تولت إدارة دولة الوحدة والتمييز والتحيز الذي ساد حينها ضد أبناء القطر الشمالي _ سورية ، كانت عوامل سهلت تنفيذ مؤامرة الانفصال في ٢٨ ايلول عام ١٩٦١ ، اي بعد حوالي ثلاث سنوات وسبعة أشهر على قيام الوحدة في ٣/٢/١٩٥٨ .

وقد تبع ذلك ظهور منسوخات ممسوخة للنظام الأمني القمعي (المسؤول الأول عن فشل الوحدة وتدمير الحلم العربي الكبير بالحداثة والتحرر والتقدم ) فقامت امثال هذه الأنظمة الديكتاتورية العسكرية الأمنية القمعية ، التي افتقدت ، فوق ذلك ، شخصية القائد المماثلة لشخصية عبد الناصر الكاريزمية ، قامت في الستينات والسبعينات من القرن العشرين في الجزائر وسورية وليبيا والعراق واليمن والسودان والصومال ، لتشكل المعسكر المقابل لمعسكر الأنظمة التقليدية الملكية الأميرية ، كمعسكر ( عروبي ثوري -قومي -اشتراكي- تقدمي _ كذا ) مقابل المعسكر الآخر ( التقليدي – الرجعي – الملكي – الاميري – السلطاني ، كما أصبح يسمى من قبل المعسكر الاول ).

والتحق كل من المعسكرين باحد المعسكرين العالميين في مرحلة الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية : الأول، بالمعسكر الشرقي ( – الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو _ الاشتراكي !)، والثاني، بالمعسكر الغربي- (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان واتباعهم , الإمبريالي الرأسمالي!).

  • Social Links:

Leave a Reply