المجتمع الرأسمالي مبني على استغلال العمل. الأقلية تملك كل شيء والجماهير الكادحة لا تملك شيئا. الرأسماليون يأمرون والعمال يطيعون. الرأسماليون يمارسون الاستغلال. العمال هم ضحية الاستغلال. وجوهر المجتمع الرأسمالي هو الاستغلال المتفاقم الذي لا يرحم.
الإنتاج الرأسمالي أداة عملية لابتزاز فضل القيمة.
لماذا استطاعت هذه الأداة أن تستمر في العمل طوال هذه المدة؟ لماذا يطيق العمال هذه الحالة؟
يبدو الجواب صعبا للوهلة الأولى. ولكن يوجد سببان لذلك بشكل عام. الأول لأن الطبقة الرأسمالية قوية ومتينة التنظيم. والثاني، لأن البرجوازية تسيطر عادة على عقول الطبقة العاملة.
لتحقيق هذا الغرض فإن أفضل وسيلة تملكها البرجوازية هو كونها منظمة في الدولة. الدولة هي اتحاد الطبقة المسيطرة في كافة الأقطار الرأسمالية. خذوا أي بلد: بريطانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، اليابان… تجدون أن الوزراء والموظفين الكبار وأعضاء المجالس النيابية هم رأسماليون وملاك أراضي وأصحاب مصانع، ومتمولون كبار أو أنهم الخدم الأوفياء لهؤلاء يتقاضون الأجور العالية على خدماتهم. وهؤلاء هم المحامون ومدراء المصارف والأساتذة وضباط الجيش والبطاركة والمطارنة ممن يخدم الرأسمالية ليس عن خوف وإنما عن اقتناع.
الدولة هي اتحاد جميع هؤلاء الأفراد البرجوازيين الشامل للبلد ككل والمسيطر على كافة مرافقه. ولهذه المؤسسة البرجوازية هدفان رئيسيان. الهدف الأول والأهم هو قمع الاضطرابات والانتفاضات التي يقوم بها العمال. وذلك لتأمين نهب فضل القيمة من الطبقة العاملة وتعزيز قوة وسائل الإنتاج الرأسمالية دونما إزعاج. والهدف الثاني هو المنافسة مع اتحادات أخرى من نفس النوع، أي مع الدول البرجوازية الأخرى، من أجل السيطرة على حصة أكبر من فضل القيمة. الدولة الرأسمالية، إذن، هي اتحاد الطبقة المسيطرة الذي جرى تأسيسه لحماية الاستغلال. «مصالح رأس المال ولا شيء غير مصالح رأس المال» -ذلك هو الهدف الذي تسعى إليه كل نشاطات هذه الزمرة من اللصوص.
الدولة الرأسمالية هي أكبر وأقوى المؤسسات البرجوازية. ولكنها في الوقت ذاته أكثر المؤسسات تعقيدا. إنها تضم عددا كبيرا من الفروع، ولهذه الفروع أذرع تتحرك في جميع الاتجاهات. وأول هدف لهذه المؤسسة هو حماية وتعزيز وتوسيع استغلال الطبقة العاملة. والدولة تستخدم ضد الطبقة العاملة نوعين من الإجراءات: العنف الخالص والقمع الفكري. وهذان هما أهم الوسائل بيد الطبقة الرأسمالية.
أجهزة العنف الخالص: الجيش والشرطة والسجون والمحاكم، بالإضافة إلى الأجهزة الملحقة كالجواسيس والمخربين ومنظمي كسر الاضرابات العمالية والمجرمين المأجورين وما شابه.
الجيش في الدولة الرأسمالية منظم بطريقة خاصة. يقبع على رأسها الضباط. وهم في الغالب من صفوف أرستقراطية الأرض أو البرجوازية الكبرى وبعضهم من المثقفين (الطبقات المهيمنة). هؤلاء الضباط هم ألد أعداء البروليتاريا. إنهم يدخلون منذ نعومة أظافرهم إلى مدارس خاصة حيث يتعلمون احتقار البشر و«الحفاظ على شرف بزاتهم»، وهذا يعني إخضاع المجندين إخضاعا كاملا لسلطتهم وتحويلهم إلى مجرد أدوات. وأبرز الأرستقراطيين والبرجوازيين هم الذين تجري ترقيتهم إلى الرتب العالية كالعقداء والأميرالات ويرتدون النياشين والأشرطة.
الضباط ليسوا من أبناء الفقراء. وهو يسيطرون على الجنود العاديين سيطرة كاملة. والجنود العاديون غارقون في بيئتهم إلى درجة أنهم لا يتساءلون أبدا عن السبب الذي من أجله يقاتلون. وإنما ينتظرون الأوامر، لا أكثر ولا أقل. والجيش الذي يؤلفه هؤلاء معدّ بالدرجة الأولى لقمع العمال.
الشرطة والدرك. بالإضافة إلى الجيش النظامي، تملك الدولة الرأسمالية جيشا من الرعاع ومن الوحدات المتخصصة بقمع العمال. طبعا، تعمل هذه المؤسسات على مكافحة السرقة و«حماية أشخاص وأملاك المواطنين». لكن الشرطة تعمل أيضا على اعتقال وتعذيب العمال المتذمرين ومعاقبتهم.. وأشرس فئة على الإطلاق، في كل البلدان الرأسمالية، هم أفراد الشرطة السرية والدرك. وبتعاون مع أجهزة الشرطة الرسمية أعداد كبيرة من أفراد التحري والمحرضين والجواسيس وكاسري الاضرابات، الخ.
القضاء في الدولة الرأسمالية أداة تدافع البرجوازية بها من نفسها. وهي تستخدم بالدرجة الأولى لمعاقبة الذين يعتدون على حقوق الملكية الرأسمالية أو يتدخلون في شؤون النظام الرأسمالي. إن جهز السجون يصفي الحسابات بفاعلية لا تقل عن فاعلية الجلاد في الدولة الرأسمالية. وأبوابه مشرعة أمام الفقراء لا أمام الأغنياء.
تلك هي مؤسسات الدولة الرأسمالية. وهي مؤسسات تمارس القمع الوحشي المباشر على الطبقة العاملة.
ومن بين وسائل القمع الفكري التي تملكها الدولة الرأسمالية، ثلاث تستحق الذكر: المدارس الرسمية والكنيسة الرسمية والصحافة الرسمية أو شبه الرسمية.
البرجوازية تدرك تماما أنها لا تستطيع السيطرة على الجماهير الكادحة بواسطة العنف الخالص. يجب السيطرة على عقل العمال، حتى كأنه في شباك العنكبوت. الدولة البرجوازية تنظر إلى العمال وكأنهم دواب تكدح. ويجب على هذه البهائم أن تعمل ولكن بشرط أن لا تعض. لهذا السبب، لا يمكن الاكتفاء بضرب هذه البهائم أو قتلها إذا حاولت أن تعض، وإنما تدريبها وترويضها أيضا، تماما كما تروّض الحيوانات المفترسة على يد المدربين. بنفس الطريقة، تملك الدولة الرأسمالية مدربين وظيفتهم أن يخدروا ويدجنوا البروليتاريا. وهؤلاء هم الأساتذة والمعلمون والاكليروس والكتاب والصحفيون البرجوازيون. في مدارس الدولة، يتولى هؤلاء الاختصاصيون تعليم الأطفال منذ الصغر إطاعة رأس المال والنفور من «المتمردين». وهكذا تحشى أدمغة الأطفال بالخرافات عن الثورة والحركة الثورية. ويمجدون الأباطرة والملوك وكبار الصناعيين. وفي الكنائس، يبشر القساوسة الذين يتلقون مرتباتهم من الدولة بأن الله هو مصدر كل السلطات. ويوما بعد يوم، تردد الصحف البرجوازية هذه الأكاذيب بينما تعمد الدولة الرأسمالية إلى منع الصحافة العمالية في معظم الحالات… الدولة البرجوازية، باختصار، ترمي إلى تثقيف العمال بحيث يشبهون الحيوانات الداجنة التي تعمل كالأحصنة وترتضي بأقل قدر ممكن من الغذاء.
بهذه الطريقة يضمن النظام الرأسمالي استمراره. وهكذا تعمل آلة الاستغلال الضخمة. ويجري ابتزاز فضل القيمة باستمرار من العمال، بينما تقف الدولة الرأسمالية متأهبة لصد أية انتفاضة يقوم بها عبيد الأجور.
التناقضات الأساسية في النظام الرأسمالي
لننظر الآن إلى المجتمع الرأسمالي أو البرجوازي من منظار تماسك أو تفكك بنيانه. أي شيء يكون صلبا وجيدا إذا كانت أجزاؤه متلائمة فيما بينها. خذوا ساعة الحائط مثلا. إنها تعمل بدقة وانتظام وسهولة إذا كانت دواليبها المسننة متراكبة فيما بينها.
لننظر إلى المجتمع الرأسمالي الآن. نرى بدون صعوبة أن المجتمع الرأسمالي أقل تماسكا مما يبدو للوهلة الأولى. بل بالعكس، إنه منخور بالتناقضات الخطيرة والثغرات الضخمة. في ظل الرأسمالية، يفتقد إنتاج السلع وتوزيعها إلى الحد الأدنى من التنظيم. «فوضى الإنتاج» تسود. ما معنى ذلك؟ معناه أن جميع أرباب العمل الرأسماليين (أو الشركات الرأسمالية) ينتجون السلع باستقلال كامل واحدهم عن الآخر. وبدل أن ينتج المجتمع ما يحتاجه من سلع، ينتج أصحاب المصانع بناء على حساب السلعة التي تستجلب أكبر مقدار من الربح وتسمح لهم بالانتصار على منافسيهم في السوق. وغالبا ما ينتج عن ذلك تدفق كميات فائضة من السلع إلى السوق لا تجد مجالا لتصريفها. العمال لا يستطيعون شراءها، لأنهم لا يملكون المال الكافي لذلك. فتظهر الأزمات. تُغلق المصانع ويسرح العمال. وبالإضافة لذلك، فإن فوضى الإنتاج تؤدي إلى النزاع على الأسواق. كل منتج يريد استمالة زبائن المنتج الآخر، يريد السيطرة على السوق. ويتخذ هذا النزاع عدة أشكال. فيبدأ بالمنافسة بين صناعيين اثنين وينتهي باندلاع حرب عالمية حيث تتعارك الدولة الرأسمالية فيما بينها للسيطرة على السوق العالمية. هذا يعني ليس فقط أن الأجزاء التي تتكون منها آلة المجتمع الرأسمالي تعرقل عمل بعضها البعض وإنما يعني أيضا انه يوجد تضارب مباشر بين العناصر التي يتكون منها المجتمع الرأسمالي.
إن أول سبب للخلخلة في المجتمع الرأسمالي هو فوضى الإنتاج التي تؤدي إلى الأزمات والمنافسة الشرسة والحروب.
أما السبب الثاني للخلخلة فهو يكمن في التركيب الطبقي لهذا المجتمع. فالواقع أن المجتمع الرأسمالي، في جوهره، ليس مجتمعا واحدا بل مجتمعين: الرأسماليون من جهة والعمال والفلاحون من جهة ثانية. وتوجد حالة من العداء الدائم الذي لا هوادة فيه بين هاتين الطبقتين، وهذا ما نسميه الصراع الطبقي. وهنا أيضا نرى أن الأجزاء التي تتكون منها آلة المجتمع الرأسمالي ليست متنافرة مع بعضها البعض وحسب، بل هي في حالة نزاع دائم فيما بينها أيضا.
هل أن الرأسمالية مرشحة للانهيار أم البقاء؟ الجواب على السؤال يتوقف على الاعتبارات التالية. إذا درسنا تطور الرأسمالية وتفحصنا التحولات التي عرفتها على مر الزمن، وتبين لنا أن عوامل التنافر فيها آخذة بالاضمحلال، نستطيع أن تمنى لنا حياة طويلة. وعلى العكس من ذلك، فإذا لاحظنا، على مر الزمن، أن أجزاء الآلة الرأسمالية آخذة بالتنافر والتنازع أكثر فأكثر فيما بينها، وإذا تبين لنا أن الثغرات في تركيبها آخذة بالاتساع – فهذا يعني أن الوقت قد حان لنقول لها: «ارقدي في سلام!».
لذا يجب علينا الآن أن ندرس الرأسمالية في نشأتها وتطورها.
Social Links: