1890 – 1990
وتقدم سوسيولوجيا القومية (إن كان لمثل هذا الفرع العلمي من وجود) تحليلأ مغايرا يؤكد أن تحطيم تقسم العمل الثابت في المجتمع الزراعي، وكسر احتكار رجال الكهنوت للثقافة، وتعميم الثقافة العليا عبر نظم التعليم واللغة المحلية، كان مستحيلا بدون الإصلاح الديني. بتعيير آخر، إن الإصلاح الديني، والدين كمكون ثقافي وكمؤسسة، يعد حجر الزاوية في الوحدة السياسية الجديدة: الدولة القومية. هذا هو تحليل وراي (جيلنر -Gellner).
إذا كانت الاستنتاجات الأولى المضادة للكنيسة (اندرسون) والاستنتاجات الثانية المواتية لها، صحيحة سواء بسواء، فان الاستنباط الوحيد المتبقي لنا من جمع هذين الضدين هو أن من المستحيل إلصاق جوهر ثابت بالأديان العالمية التوحيدية وبالذات بالمسيحية (والإسلام أيضا كما نعتقد) باعتبارها، في ذاتها ولذاتها، معجلاً أو عائقاً لنشوء الدولة القومية. بكلمة أخرى، إن دور الدين في مسألة نشوء الدولة القومية ليس ثابتاً ولا موحداً، وإنه لا يمكن إرجاع هذا الدور إلى جوهر محدد ومعطى.
إن جانباً من تاريخ القومية والقوميات يبين لنا أن الحدود الاثنية، أي حدود أمة معينة، تتعين أو تخلق (أو تخترع اختراعاً) على أساس الثقافة (Culture) بالمعنى السوسيولوجي للمفهوم.
لكن إذا كان تمييز الاثنية يتم بواسطة الثقافة، فإن مفهوم الثقافة ذاته يبدو أعوص من أن يحدّد. (حتى عام 1954 احصى باحث أميركي قرابة 164 تعريفا مختلفا للثقافة في ميدان السيسيولوجيا).
وعلى أية حال تبرز الإثنيات في الميدان المحدد (القومية) متمايزة إما على أساس لغري، او ديني، أو عرقي، وإن هذه التمايزات تشكل عناصر في ثقافة الجماعات المعينة. ونجد جماعات لا تتوفر على أي عنصر مشترك من هذه العناصر كما نجد مجموعات أثنية تتطابق وتجتمع فيها العناصر الثلاثة (اليابان مثلا).
إن توحيد الثقافة (عبر نظم التعليم) يشكل عنصراً أساسياً من عناصر بناء الدولة- الأمة، أوالدولة القومية، وتنطوي الثقافة على مكونات دينية بالنسبة للعديد من الشعوب التي انتقلت إلى بناء الدولة القومية انطلاقاً من نقاط ما قبل المجتمع الصناعي.
وعدا عن التصنيف الزمني المذكور (ما قبل/ما بعد صناعي) يشكل الدين، في اندماجه بالمكونات الثقافية، عنصر تمايز خارجي للقومية المعينة، وعنصر تماثل داخلي لها. خذ روسيا الارثوذكسية مقابل أوروبا الغربية الكاثوليكية مثلا!
وفي المراحل الأولى من نشوء الدول القومية في أوروبا الغربية (النموذج المركزي – الأوروبي) نجد أن اللاهوت المعقلن، أو الإصلاح الديني، أسهم في خلق كنائس قومية، متحديا السلطة الكونية، فوق القومية، للكنيسة الكاثوليكية، ناقلا هذا التحدي إلى الميدان الثقافي: إلغاء اللغة اللاتينية، ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات القومية (الإنكليزية، الألمانية، إلخ)، هذا الوسيط الأساسي لتوحيد الثقافة القومية ذاتها.
وعلى أية حال، فإن الدور الذي تلعبه الثقافة، أياً كان الشكل الذي نراها به، هو وظيفة تماثل ومجانسة، وتشكل في الوقت ذاته وظيفة تمايز. إن التماثل يقوم على تعيين هوية موحدة، وتعيين الهوية لجماعة معينة يعادل تفريقها عن هوية جماعات اخرى. بتعبير آخر، ان التحديد (= التماثل) هو أيضا نفي (= تمايز)، بحسب تعبير (سبينوزا).
فحين يصف المرء شيئا بأنه ليس أبيض، على سبيل المثال، فلا يترتب على ذلك أن هذا الشيء، أحمر، أو أزرق، أو أبيض، أو أخضر! لكن تعيين هوية الشيء بأنه أبيض، مثلاً، سينفي مطلقاً سائر الصفات الممكنة في الطيف اللوني نفيأ قاطعاً.
(لهؤلاء الذين ينزعجون من المماثلة بين التمايز القومي أو الهوية القومية وبين اللون – الأبيض هنا – حسبنا أن نذكر أن لغة (الاسكيمو)، خلافاً للغات عديدة، تنفرد بوجود ما لا يقل عن 15 كلمة لأنواع متباينة من البياض. هذا يتيح الحديث عن التمايزات الأخرى داخل الأبيض (= الأمة).
نورد هذا التفصيل ابتغاء الإشارة إلى محنة أولئك المنظرين القوميين الذين يحددون التمايز بأسلوب مقلوب، أي يؤسسون الجوهر القومي على سبيل النفي (لا ابيض)، وهو تعيين هلامي يشبه تعيين (فيخته) للعالم بأنه “لا انا- Nicht Ich ”
لنعد إلى بضع إشارات أخرى عامة عن الدين ودوره في التكوينات السياسة في إطار المجتمع الزراعي وما بعد الزراعي، أي في الوحدات السياسية ما قبل الحديثة، وأيضاً دوره خلال الفترة الانتقالية المفضية إلى الوحدة السياسية الحديثة المعاصرة.
كانت الامبراطورية العالمية الشاملة هي الوحدة السياسية النموذجية للعصور الغابرة، وتتميز هذه الوحدات بارتكازها على دين عالمي: الامبراطورية الرومانية، الامبراطورية الأموية فالعباسية، الامبراطورية الرومانية المقدسة، الامبراطورية العثمانية (ونترك جانبا بعض الامبراطوريات المغلقة التي تحولت إلى دول قومية (اليابان، الصين) بفعل تلاحم دوائر الانتماء الجزئية (العرقية، اللغوية، الدينية) في دائرة الانتماء الأوسع (القومية) في العصر الحديث.
إن هذه الوحدات الكبرى (الامبراطوريات) كانت تنطوي على أشكال من الولاء، والانتماء، ينتسبان إلى أنماط مختلفة من التنظيم السياسي الصغير: الإمارات الاقطاعية وساداتها، الدول – المدينة، الأسر الحاكمة، الطوائف والجماعات الدينية.
ويمكن للمرء في إطار عالم الإسلام، أن يتحدث عن ولاءات للقبيلة، العشيرة، الأسرة، الطائفة الدينية (داخل الدين الواحد) أو الانتماء الديني (بين مختلف الأديان)، أو للأسر الحاكمة، إلخ. وعليه، فإن الامبراطورية، هذه الوحدة الشاملة للتنظيم السياسي الغابر، هي كيان مجزأ ومتشظ داخلياً. وبالطبع، فإن كلا من الوحدة الكبرى (= الامبراطورية) والوحدات الصغرى (المكونات المتشظية) تجد التعبير عنها في المفاهيم الثقافية الدينية، وفي الأشكال التنظيمية للمؤسسة الدينية، وهذا يشمل سائر الأديان التوحيدية.
ولنأخذ هذا الأمر في إطار الامبراطورية العثمانية. يجد المرء (خصوصا في القرن التاسع عشر) مؤسسة دينية مركزية وعلى رأسها المفتي الأعظم في اسطنبول، مرتبطة بمؤسسات مركزية مماثلة في الولايات الأخرى (الأزهر، الزيتونة… إلخ، على سيل المثال). بالمقابل نجد أن القبائل، والقرى، والجماعات الحرفية في مراكز المدن منظمة في زوايا وطرق صوفية منعزلة، ومتشظية.
يصعب تخيل المؤسسة الدينية المركزية (أياً كانت درجة مركزيتها) بدون خطاب شمولي، بدون تركيز على العنصر الشمولي في الإيمان الديني، وفي الإسلام كدين، أي موجه لسائر المسلمين كما لسائر البشر كعبيد للخالق. وبدون التركيز على هذه الشمولية (الماثلة دوماً في كل الأديان التوحيدية) أعني التركيز السياسي، فإن شرعية حكم آل عثمان كانت ستتهاوى قطعاً في نظر سائر الرعايا المسلمين.
بالمقابل نجد أن الطرق الصوفية بما تتميز به من عبادة الأولياء، وتوسط الشيخ (الولي) بين العابد والمعبود، أو بين المخلوق وبارئه، وبفعل انغلاق هذه الطرق، وتباعد هذه البنى الاجتماعية الصغرى عن بعضها في ركود المجتمع الزراعي البسيط، هي تكوينات محلية، تفتقر إلى شمولية النظرة الدينية القائمة في المركز.
وبالطبع، فإننا ننظر إلى هذه الطرق والزوايا، على أنها نتاج تشظي وعزلة وتجزؤ الكيان الاجتماعي – الاقتصادي – الثقافي.
هذا التمايز بين خصائص المؤسسة الدينية المركزية والتكوينات المحلية، هو في واقع الأمر تمايز بين ثقافة عليا وثقافة دنيا.
يحصل أحيانا أن الثقافة العليا (النخبوية، ثقافة الخواص) والثقافة الدنيا (ثقافة العوام، الدين الشعبي، إلخ) تتميزان معا بخصائص مشتركة، النزوع الصوفي مثلا، كما كان عليه الحال خلال الحقبة العثمانية، لكن الافتراق بين الاثنين أعمق من أن يغفل، وبخاصة ان صوفية الثقافة العليا تتصف بنزعات عقلية و| أو فلسفية، في حين أن صوفية الثقافة الدنيا تتميز بعبادة الأولياء، أي نزعات أرواحية بدائية (Animism).
ويرى بعض الكتاب المعاصرين، أن الطابع الشمولي للدين الإسلامي (مخاطبته البشرية جمعاء) يتناقض مع النزعة القومية العربية (الموجهة إلى جماعة اثنية محددة ومحدودة).
أما التاريخ الفعلي لبناء الدول القومية في العالم العربي، وفي تركيا، وإيران، وباكستان، في القرن العشرين، فيقدم لنا أمثلة تقول إن العوائق الرئيسية أمام بناء الدولة القومية الحديثة ليس الإسلام الشمولي، بل الثقافة الصوفية، الجزئية، المتشظية. وأن حركة الإصلاح الإسلامي التي تصدت للتجزؤ الصوفي، عبدت الطريق إلى نشوء الكيانات القومية متجاوزة انغلاق الجماعات الصغيرة. وابتدأت مساعي الإصلاح الديني هذه انطلاقا من مفهوم التوحيد ومفهوم العقل، وحرية الإرادة الإنسانية في الميدان الفلسفي بالطبع.
بالمقابل، ظلت الشمولية الدينية، نظرياً، أداة للدفاع عن ولاءات فوق قومية. وهي الآن الأساس الذي تستمد منه نظريات ودعوات بناء أمة إسلامية عامة.
إن ظهور الدولة القومية يبدو بمثابة تنظيم سياسي جديد ذي حدّين، الحد الأول موجّه ضد الجماعة الكبرى الموحدة شكلياً في إطار امبراطوري، والحد الثاني موجّه ضد التجزؤ الداخلي المنتمي إلى المجتمع الزراعي. وباختصار تبدو العملية بمثابة مركزية -لامركزية، او تكامل – انفصال، او اندماج – التحام في جانب، وانفكاك – انفصال في جانب آخر.
Social Links: