النزعة القومية العربية والإسلام – التصورات والنظرات الأولية في المشرق

النزعة القومية العربية والإسلام – التصورات والنظرات الأولية في المشرق

 

لا يخطئ السلفيون والاصوليون المعاصرون قط حين يقولون إن مفاهيم |لقومية، والوطنية، والتفرعات؛ المستمدة منها لا أثر لها في الإسلام٠ فهذه المفاهيم كانت غائبة عن حقل الثقافة السياسية العالمية حتى القرن 18، وعن حقل الثقافة السياسية في البلدان العربية خلال الشطر الاعظم من القرن التاسع عشر، عدا عن بعض الاستثناءات الفردية. وبالطبع حين بدأ التنظير لفكرة القومية العربية، كان العرب، عمليا، بعيدين بعد السماء عن الأرض لا عن الدولة العربية الواحدة، بل عن أية دولة قومية.

ان معظم الدراسات عن اصول ومنابع النظرية والفكر القومي العربي (إن لم تكن كلها) تهمل دور واسم ومكانة المصلح الإسلامي الكبير جمال الدس الأفغاني (1839 – 1897) او تحذفه كليا. وان جرى ذكره فلدوره التنويري او الإصلاحي، قدحا او مدحا. وبودي ان اعارض هذا ١لراي السائد بالقول إن إصلاحية الأفغاني ناجمة عن نزوعه القومي، أي مناهضة الغرب الكولونيالي، لا العكس.

ومما يثير الاهتمام حقا ان نجد الكاتبة الأميركية (ن. كيدي- Nikki Keddie) تصدر كتابا عن الأفغاني يحمل هذا العنوان الموحى: “ردّ إسلامي على الامبريالية” إن دراسة متأنية لجوانب شتى من كتابات ونشاطات الأفغاني تبرر لنا القول بانه الأب الروحي لكل من النزعة القومية الإسلامية، والنزعة القومية العربية، أي الأب الروحي للشكلين الديني والاثني من النزوع القومي. لقد تميز الأفغاني بإبراز التضاد بين الاسلام والغرب، في جانب، ودعا إلى استعارة العلم وأشكال التنظيم السياسي والاجتماعي من الغرب ذاته لمقارعته في جانب اخر إن الإصلاح الداخلي للأفغاني، أكان فكريا أم سياسيا أم اجتماعيا، يتوخى وظيفة خارجية: التصدي للغرب المستعمر.

ويلاط من كتاباته خلال الفترة الهندية، شدة تركيزه على النزوع القومي، فهو يقول إن لا سعادة للمرء إلا في جنسه وقومه، ولا وجود لهذه الأخيرة بدون اللغة. ويعترف الأفغاني بوجود رابطتين تشدان البشر، الأولى رابطة اللغة التي تتألف منها رابطة الجنس (القومية)، والأخرى رابطة الدين. ويعترف أن هناك شعوبا تغير أديانها مرات وتحتفظ بلغتها.

لم يكن الأفغاني منظرا بل رجل نشاط وعمل، لذا لم يصوغ آراءه في إطار فكري موحد، بل في ثنايا مقالات متعددة وظرفية في آن.

لقد احتفظ الأفغاني بموقف الثنائية هذه التي تجمع الرابطة القومية بالرابطة الدينية. وفي اعتقادي أن هناك عاملين وراء هذه الثنائية. أولا، ان الأفغاني كان موقنا بالدور الحضاري للدين، فهو برأيه قاطرة التقدم شريطة تنقيته من الشوائب. وثانيا، إن تجربة الأفغاني المتنوعة (عيشه في الهند، أفغانستان، إيران، العراق، مصر) جعلته على تماس عياني مباشر بالمتمايزات الإثنية، ودورها في الصراعات السياسية، المناهضة للبريطانيين. إن إنقاذ العالم الإسلامي (يسميه المشرقي) من السقوط بيد القوى الكولونياليه وبخاصة بريطانيا، كان يستدعي، بحسب رؤية الأفغاني، إصلاح الإسلام من ناحية، ووحدة المسلمين (الباب العالي، إيران القاجارية، ومصر عهد ذاك) من ناحية أخرى.

وإذا كان الأفغاني قد رفع شعار الجامعة الإسلامية، كوسيلة سياسية لمواجهة الغرب، فإنه لم يغفل قط دور النزعة القومية، وبالذات النزعة القومية العربية في مقالات عديدة له.

فدور العرب في فترة صعود الإسلام وانتصاره لا مراء في أهميته وعمقه، بل إنه تأسّى لإهمال الترك رغبة السلطان سليم في تبني اللغة العربية لغة رسمية للدولة، مما كان سيخلق، برأيه، دولة تقوم على أشد وأقوى عوامل الالتحام: الدين والأثنية. ويمكن القول إن ثنائية الديني/ الاثني في أفكاره انحلّت بالتدريج إلى مكوّنيها الأصليين وتلقفتها تيارات متباينة وبمعنى من المعاني يشكل عبد الرحمن الكواكبي استمرارا للأفغاني، في جانب إعلاء العقل والإصلاح والنزعة الدستورية، وانقطاعا عن الأفغاني في ميدان النزعة القومية. فالكواكبي يشدد على البعد العربي أولا، ويضعه في مواجهة العثمانيين ثانيا.

وبقدر ما يتعلق الأمر بالصياغات الفكرية، يمكن القول إن الكواكبي هو مؤسس فكرة القومية العربية (نضع خارج الاعتبار أصحاب النزعة القومية الثقافية من كتاب القرن التاسع عشر من أهل الشام: حيدر الشهابي (1761 – 1835) فرنسيس فتحي (1773 – 1836)، إلى جانب اليازجي، بطرس البستاني، جرجي زيدان، أديب اسحق.

في كتابيه “أم القرى” و”طبائع الاستبداد” يؤكد الكواكبي، من بين أمور عديدة، على وحدة العرب على الأساس الوطني (أي الاثني أو القومي إن شئتم) لا الديني. بل إنه يرى في الاستبداد السياسي امتدادا للاستبداد الديني، وهذا الأخير امتدادا لعقيدة الجبر السلبية.

وبالطبع، فإن الأمة العرية التي يتناولها الكواكبي في حديثه تضم الهلال الخصيب ومصر، ذلك أن المغرب العربي لم يكن يندرج ضمن “البلاد العربية”. في كتابات المنظرين القوميين خلال القرن التاسع عشر وجزء من القرن العشرين.

إلى ذلك، فإن صياغات الكواكبي لم تكن قط خالية من فكرة الخلافة، المفهوم الموروث للحق السياسي. بيد أن الخلافة، عند الكواكبي، ترتكز على قاعدة إثنية: الخلافة للعرب. وترتكز على قاعدة دستورية (الشعب مصدر السلطات، والخليفة ينتخب انتخابا). أضف إلى ذلك ان الخلافة، عند الكواكبي وظيفة روحية لا وظيفة زمنية، اي دينية لا سياسية. هذا الفصل ين الوظيفتين يشكل عماد النزعة الدستورية الحديثة عند الكواكبي، ويجعل من فكرة الخلافة التي طرحها إلغاء لهذه الفكرة عينها. ويمكن فهم أهميتها من ناحيين تاريخية وراهنة. ففي ذلك العهد شكّلت تحديا لفكرة السلطان عبد الحميد الثاني عن الخلافة، وفي عهدنا تشكل اداة لدعاة الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية، أي فصل السياسي عن الديني، واحترام استقلالية الحقلين، لتجنب إضفاء الطابع المقدس على النشاط السياسي البشري على الأقل.

  • Social Links:

Leave a Reply