كنت في رحلة من أكسفورد إلى لندن في صيف تموز ٢٠٠٦ لألتقي بصديقة. لا أتذكر تفاصيل ذلك اليوم إلا عندما طلعت في تلك السيارة…
قالت لي أننا سنذهب مع صديقها للعشاء في مكان جميل. لم أسألها عنه أو عن أي شيء. ضحكت و قلت :طبعاً المهم يكون مهضوم و صحبته حلوة متلك. ربما جلست في المقعد الخلفي، لكن حالما دخلت السيارة ، لم أعد أشعر أنني في لندن أو في إنكلترا الغريبة جداً حتى ذلك الوقت. قال لي :مساء الخير. نورتي لندن كلها. و كان عبد الوهاب يصدح كأنه يغني في القاهرة و نحن معه: “قللي كم كلمة يشبهوا النسمة في ليالي الصيف”، كانت من أغلى الأغنيات عندي. لم أكن اسمع صديقتي و هي تعرفنا على بعض. كنت أصغي إليه و إلى لهجته المصرية الحلوة و هو يضحك و أنا أجيبه بالمصرية و أحكي له أن بابا عاش في مصر أربع سنوات و كان يسجل كاسيتات بصوته لأمي و يرسلها لها أيام الخطوبة باللهجة المصرية غالباً: وحشتيني يا ميدو. كنت أقص له و كان يضحك.
سهرنا معاً نحن الثلاثة و عرفت أنه سيصبح صديقاً قريباً ،أقرب روحٍ في ذلك البلد البعيد. كان شهري الثاني هناك و لم يكن لي أصدقاء بعد.
أتذكر تماماً يوماً آخر عندما تعرضت للأذى من شخصٍ سوري حقير كان يعمل للمخابرات السورية في لندن و يلاحقني و يرسل لي رسائل تهديد بمنعي من دخول سوريا و عمل المستحيل لإخراجي من إنكلترا. لم يكن هناك أحد ألجأ إليه أو اشاركه همي و خوفي. ذلك المخبر كان بالصدفة جار صديقتي فلم أستطع مشاركتها بما حدث. كان هو أول من فكرت به. كان الضوء الذي غطى العتمة التي ملأتني لأيام، كنت أريد الهرب من كل شيء و لا أعرف إلى أين. أنا التي كنت قد فقدت ثقتي بكل الناس عندما غادرت سوريا تلك الفترة. كنت أمسك ذراعه و أمشي معه في كل مكان يخطر على بالي في الخريطة التي كنت أحملها أو دونها. كان جدياً في عمله و حياته و أخبرني أنه لم يضحك بهذا الشكل في حياته من زمان إلى أن التقينا. ذات مساء، قلت له “جاي عبالي أرقص. خدنا نرقص” . “يا بنتي انا مش راقص من مية سنة” .”معلش عايزة ارقص و خلاص” . ذهبنا إلى نايتكلب كبير. دي جي و موسيقا و زحمة و لا أتذكر كم شربت او ان شربت حتى. امسكت يديه و رقصت معه و خلعت جرافته كي يرتاح في الرقص. رقصنا رقصنا رقصنا حتى الصباح و لم نبالي بحركاتنا التي لم تنسجم مع الموسيقا الغربية. رقصنا شرقي و غربي و هندي.
لا أعرف كيف غمرته إلى صدري و أحببته.
كان حبيبي و صديقي ورفيقي القديم الذي يضحك لنكاتي و قصصي العجيبة و يحكي لي و أنصت إليه لساعات دون أن انتبه للوقت و للأشياء حولنا و لفيزتي التي اقتربت على الانتهاء.
حلمنا كثيراً و خططت للبقاء في لندن و الدراسة بها و أن نبقى جنب بعض مهما كان الوضع صعباً. مرةً ذهبنا إلى منطقة ريشموند وإلى النهر الذي كانت تذهب إليه فيرجينا وولف ، مشينا في طرقاتها و قرأت له من كتابها “الأمواج”، “لو كانت فيرجينيا بتعرف انّا حنوقف بمكانها و نقرأ لها و نغني و نحكي للصبح ، كانت ضلّت و قعدت معنا و سكتتنا نحن التنين و قعدنا نسمعلا بدال ما نحكي” . كنا نقرأ في تلك الطرقات الشعر، و قصائد شكسبير، و نكتشف المكتبات القديمة معاً. أحضر له الكتب و اسطوانات الموسيقى و يحضر لي الشوكولا و المشاوير الساحرة.
في لقائنا الأخير أعطاني عقداً فضياً جميلاً في منتصفه قلب أزرق شفاف، قال لي أنه لفّ لندن كلها باحثاً عن شيء مميز يهديني إياه قبل أن أعود لسوريا. كان علي أن اعود لفترة قصيرة . ألبسني العقد بيديه و قبل ذلك قال لي “شايفة القلب ده؟ دا قلبي .اتركيه ديمن في رقبتك و ما تنسنيش”…لم استطع الرجوع، لكن بقي العقد في رقبتي حتى ٢٠١٢..كنت اتضايق كلما رأيت قلبه في رقبتي بعد ان تركنا بعض بسنين.. اليوم أردت أن اكتب لك و اطمئن عليك…لأعرف أنك تركت الحياة مبكراً جداً… أيها الجميل، اسألك ان ترقد بسلام ، قلبك لا زال في عنقي حباً حنوناً كان أكبر من وقتنا و مكاننا و أكبر من خصامنا و هجرنا. سأتذكرك دائماً و أفرح ، كي تضحك معي كما كنت تحب.
Social Links: