يصف حليم بركات المجتمع السوري بأنه مجتمع متعدد الثقافات استطاع أن يحقق اندماجًا وتماسكًا لفترة طويلة من خلال مجموعة من العلاقات الاجتماعية المبنية على عدد من العوامل الثقافية والدينية والاجتماعية والأخلاقية، وعلى الرغم من تعدد الهويات واختلاف المصالح حافظ على هذه الهويات الخاصة مع محاولة التكيف والعمل على إيجاد دولة مركزية وتفاهمات على الكثير من الأساسيات لتحقيق الاندماج الاجتماعي.
وعلى الرغم من ذلك عانى المجتمع صراعًا داخليًا دائمًا عبر التاريخ نتيجة للتدخلات الخارجية أو لسيطرة أقلية أو أكثرية دينية على السلطة والثروة وانعدام الديمقراطية أو الاعتراف الكامل بالتنوع الثقافي والديني والايديولوجي (بركات،1984). بوجه عام أثبتت الاضطرابات السياسية المتلاحقة أن المجتمع السوري هو مجتمع يمر بمرحلة انتقالية، يواجه أزمة مزمنة بين الأيديولوجيات والثقافات التقليدية والسلفية وبين الحداثة، وبين قوى التقسيم والتجزئة وقوى التوحد والاندماج والتكامل، إضافة إلى التدخلات الخارجية. إنه مجتمع في حالة مواجهة وصراع دائم، وقد استثمرت قوى التسلط خلال الأزمة الأخيرة في التناقضات والاختلافات وأججتها خدمة لاستمرار العنف وتحقيق الهيمنة.
يصف حليم بركات المجتمع السوري بأنه مجتمع متعدد الثقافات استطاع أن يحقق اندماجًا وتماسكًا لفترة طويلة من خلال مجموعة من العلاقات الاجتماعية المبنية على عدد من العوامل الثقافية والدينية والاجتماعية والأخلاقية، وعلى الرغم من تعدد الهويات واختلاف المصالح حافظ على هذه الهويات الخاصة مع محاولة التكيف والعمل على إيجاد دولة مركزية وتفاهمات على الكثير من الأساسيات لتحقيق الاندماج الاجتماعي.
التحليل مستند بشكل رئيسي على توصيف وتحليل العلاقات الاجتماعية على مستوى المجتمع المحلي وليس على مستوى الفرد أو الأسرة.
يعاني المجتمع السوري مثل غيره من المجتمعات في المنطقة من عدة عوامل مثل التبعية بالمعنى الذي أشار إليه حليم بركات في كتابه عن الاغتراب (2006)، حيث يفقد المجتمع سيطرته على موارده وقدراته وتسيطر عليه المؤسسات ويخضع لها بدل أن يسيطر عليها. إضافة إلى ذلك فالمجتمع السوري يعاني من مستويات خطيرة من الخضوع إلى الأنظمة الاستبدادية المعادية للإنسان، مما يفقد الإنسان والمجتمع الإرادة والهدف والخطة للتغيير. من جهة أخرى، تبدو العلاقات الاجتماعية متينة، ولكن يغلب عليها الطابع غير الرسمي المبني بشكل كبير على الروابط الأولية التي تتناقض مع العلاقات المدنية والرسمية.
إضافة إلى ذلك، يعاني المجتمع من تعدد الولاءات والانتماءات الإقليمية التي تتغلب في بعض الأحيان على الانتماءات الوطنية وتتفوق عليها، مما يجعله عرضة للانقسام والصراعات والتي تم استغلالها تاريخيًا سواء من قبل الأنظمة والنخب الحاكمة أو من قبل الخارج لخدمة مصالحهم التي لا تتفق مع مصالح المجتمع جماعات وأفراد. إن هذه العلاقات والانتماءات التقليدية المبنية على الثقة والتعاون والتضامن بين أفراد الجماعة الواحدة، والتي استمرت من خلال الرجعية والرؤية الميتافيزيقية والسلطوية السياسية والطبقات الهرمية للأفراد والجماعات الطائفية والقبلية والقومية الذين تجمعوا ضد الآخرين وفقًا للثروة والسلطة، تحمل في طياتها تناقضًا، إذ أن العوامل التي تزيد الثقة على مستوى الجماعة سُخرت لتكون في خدمة الأنظمة على حساب المصلحة الوطنية العامة (بركات، 2006).
في هذا الإطار يقوم البحث على محاولة تحليل العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع والقيم والعادات التي تحكم هذه العلاقات والتي تؤثر في قيم التعاون والتضامن والثقة بين الأفراد والجماعات من خلال استخدام مفهوم رأس المال الاجتماعي كمقاربة للتحليل وفهم جانب أساسي من ديناميكيات الأزمة الاجتماعية. وتجدر الإشارة على أن التحليل مستند بشكل رئيسي على توصيف وتحليل العلاقات الاجتماعية على مستوى المجتمع المحلي وليس على مستوى الفرد أو الأسرة. تتطرق الأقسام اللاحقة إلى تقديم تحليل توصيفي للمؤشرات الفرعية التسعة التي تم استخدامها لبناء دليل رأس المال الاجتماعي، ومن ثم مناقشة الدليل الكلي.
أوًلا: الشبكات والمشاركة المجتمعية
استخدمت الأدبيات عددًا متنوعًا من المعايير للتعرف على طبيعة الشبكات والمشاركة المجتمعية مثل معايير حياة المجتمع التنظيمية كالخدمة في منظمات محلية أو نواد أو العضوية في عدد من الجماعات، إضافة إلى معايير الارتباط بالشؤون العامة مثل معدل التصويت في الانتخابات أو الاجتماعات العامة التي تم حضورها على المستوى التعليمي أو الثقافي أو الخدمي ومعايير التطوع المجتمعي كالعمل في مؤسسات غير ربحية أو عدد مرات العمل التطوعي (بوتنام، 2000). واعتبرت بعض الدراسات أن العمل التطوعي هو جزء من مكون القيم المشتركة وليس ضمن الشبكات (نصر وهلال، 2007) وبعضها اعتبره مكون منفصل عن مكونات رأس المال الاجتماعي (بوتنام، 2000).
اعتبرت الدراسة أن مكون الشبكات مؤلف من أربع معايير أساسية وهي مشاركة الأفراد في اتخاذ القرار والعمل التطوعي والتعاون على حل المشكلات ومشاركة المرأة. وينطلق التقرير من هذا التحديد من التعرف على طبيعة الشبكات من خلال تفاعل الأفراد في المجتمع من خلال المشاركة في اتخاذ القرار على المستوى المحلي وتعاونهم لحل المشكلات ودرجة انخراطهم في العمل الطوعي ودور المرأة بشكل خاص في المجتمع.
المشاركة في اتخاذ القرار
وُيعنى هذا المؤشر حسب دليل الباحث الذي تم اعتماده في مسح حالة السكان 2014 بالسؤال على مدى إتاحة المشاركة لجميع الأفراد وبفعالية ودون استثناء أحد في عملية اتخاذ قرار يتعلق بمصالح أبنائها داخل المنطقة المدروسة، يتراوح المؤشر بين خمسة خيارات هي أبدًا، ونادرًا، وأحيانًا، وغالبًا، ودائمًا. وهذه المشاركة تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار على المستوى الرسمي الحكومي وعلى المستوى المحلي غير الرسمي
تظهر النتائج تراجع دليل المشاركة في اتخاذ القرار داخل المنطقة وسطيًا على مستوى سوريا من 0.59 قبل الأزمة إلى 0.44 في أثنائها (الشكل 1)، كما يلاحظ التباين في النتائج حسب المحافظات والمناطق المختلفة قبل الأزمة وأثناءها، حيث تشير نتائج قبل الأزمة إلى أن مؤشر المشاركة في فئة “مرتفع” في محافظات القنيطرة والسويداء والرقة قبل الأزمة وتتميز هذه المحافظات بأنماط من العلاقات والروابط الأولية الذي يغلب عليها نفوذ العائلة والعشيرة والقبيلة (بطاطو، 1999)، وتم اعتماد الكثير من هذه العلاقات قبل دولتية، التي تتميز بقوتها وثباتها، في المشاركة في المؤسسات الرسمية. بالمقابل نجد أن الحسكة هي الأضعف أداءًا (0.50) والتي لها خصوصية من حيث التنوع القومي والإثني وقد عانت من تحيز ضد الأكراد. كما عانت العاصمتان السياسية والاقتصادية دمشق وحلب من أدنى النسب في المشاركة في اتخاذ القرار وتتميز هاتان المحافظتان بأشكال أكثر مدنية وتخف فيهمها العلاقات والروابط الأولية التقليدية لتصبح أكثر تنظيما، مما يشير إلى ضعف المشاركة المدينية المبنية على العلاقات الأفقية وهيمنة أجهزة الدولة التسلطية هناك.
يلاحظ التباين في النتائج حسب المحافظات والمناطق المختلفة قبل الأزمة وأثناءها، حيث تشير نتائج قبل الأزمة إلى أن مؤشر المشاركة في فئة “مرتفع” في محافظات القنيطرة والسويداء والرقة قبل الأزمة وتتميز هذه المحافظات بأنماط من العلاقات والروابط الأولية الذي يغلب عليها نفوذ العائلة والعشيرة والقبيلة
يلاحظ بأن المشاركة في اتخاذ القرار كانت متدنية قبل الأزمة في ظل الاستبداد السياسي وتدهورت بشكل حاد في أثناء الأزمة الحالية وخاصة في مناطق النزاع العسكري حيث غيبت القوى العسكرية والأمنية إمكانيات المشاركة، وساد الاضطهاد وإخضاع المواطنين. إذ تراجعت مؤشرات المشاركة في كافة المحافظات حيث تعرضت المؤسسات الرسمية وغير الرسمية إلى تغير جوهري في الأدوار وغابت المؤسسات العامة في الكثير من المناطق وحلت محلها سلطات محلية غير تابعة للحكومة، كما أن النزاع غير دور الكثير من المؤسسات إلى أداة لإقصاء وإخضاع الناس كجزء من آلة الحرب. ونلاحظ أن أكثر المحافظات تأثرًا كانت الرقة والحسكة ودير الزور وإدلب وحلب؛ الأمر الذي يدل على دور النزاع المسلح والآثار الكارثية التي لحقت بآليات المشاركة في القرارات التي تهم القاطنين في المنطقة المدروسة. وبالسؤال عن أسباب انخفاض المشاركة التي لحظها المسح تم التأكيد على تحكم قوى التسلط بالقرارات وتراجع الثقة بالمؤسسات وعدم الشعور بالأمان والنزاع المسلح. إذ أشار العديد من المناطق في دمشق أن “القرارات لا يشارك فيها أحد وهي بيد أصحاب النفوذ وتخضع لتدخلات اللجان الشعبية والحزبية” وفي أحياء من حلب “المسلحون هم أصحاب القرار” أما في إدلب فإن المشاركة في اتخاذ القرار “كانت خاضعة للتمييز والمحسوبيات قبل الأزمة وسيطرة المسلحين في أثنائها”. يذكر بأن الكثير من المناطق مع انطلاق الحراك المجتمعي شهدت تحسنا في المشاركة والذي انعكس في نشوء تجمعات ومبادرات مدنية خلصت إلى ترتيبات مرتبطة بانتخابات على مستويات محلية غير رسمية لكن مع اندلاع النزاع المسلح عرقلت قوى التسلط هذه الخطوات وعاد الإقصاء من المشاركة لمعظم السوريين.
تطرح هذه النتائج العديد من التساؤلات حول أسباب التباين في مستويات التعاون، وتعزي بعض الدراسات ذلك إلى عوامل عديدة مثل بنية المجتمع المدروس وطبيعة العلاقات والشبكات والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إضافة إلى درجة الثقة بين أفراد وجماعات المجتمع وفيما بينهم (فيلد 2003)، إضافة إلى دور الشبكات والعلاقات والروابط الاجتماعية والنشاطات الأهلية والمؤسساتية وتوقع العمل الجماعي (ادواردس، 2001). يعتبر ساكوني وأنتوني (2010) أن تراكم رأس المال الاجتماعي يعتمد على مجموع العوائد المتوقعة من التعاون في الشبكة الاجتماعية لأي فاعلين يحاولان التعاون. ويرى ادواردس (2001) أن الروابط التنظيمية والفردية من جهة والنشاطات الأهلية والمدنية من جهة أخرى تلعب دورًا رئيسيًا في التنبؤ بقابلية العمل الجماعي والعائد الاجتماعي منه. لذلك فإن التعاون والفعل الجماعي بين الأفراد لتحقيق هدف محدد يحتاج إلى مستوى مرض من الثقة المتبادلة من جهة، واندماج وتكامل في البنية الاجتماعية كي تسمح للشبكات والعلاقات بين الأفراد أن تتفاعل بطريقة فعالة. وهو بالنتيجة يراكم على التجربة المتكررة بين الأفراد والجماعات التي تعزز بدورها الثقة المتبادلة وقيمة التعاون المتبادل والفعال فيما بينها.
لقد تهشمت العلاقات بين الأفراد وقيم التعاون والثقة المتبادلة أثناء الأزمة في الكثير من المناطق. ويعتبر ذلك من أهم العوامل التي أظهرتها النتائج حسب المسح والتي ساهمت في تفكيك الروابط والعلاقات الاجتماعية وخلقت جوًا من فقدان الثقة نتيجة انتشار وسيطرة القوى المسلحة والأمنية التي اخترقت المجتمع وفرضت نظم اجتماعية واقتصادية وسياسية مبنية على الخوف والإخضاع وكراهية الآخر وتسييس الهوية، كما هو الحال في الرقة وحمص وحلب.
Social Links: