عندما وصل الصحافيّون الروس، كيريل رادشينكو، وألكسندر راستورجيف، وأوركان ديزيمال، إلى جمهورية أفريقيا الوسطى مطلع الصيف، أرادوا إجراء تحقيق حول شركة أمن روسية خاصة تعمل بالبلاد، إلى جانب جمع معلومات حول المصالح الروسية في التنقيب عن الماس، والذهب، واليورانيوم في ذلك البلد المضطرب.
على الرغم من تعدّد الروايات المتضاربة، إلا أن الثلاثي غادر العاصمة، بانغي، على ما يبدو في وقتٍ متأخّر من مساء يوم مقابلة ممثّل الأمم المتحدة في مدينة بمباري، والتي تبعد 380 كيلومتر عن العاصمة، ولكنّهم لم يصلوا إلى وجهتهم. يُقال إنّهم تعرّضوا لكمين، وقُتلوا على يد 10 رجال يرتدون العمائم، ويتحدّثون العربية، وفقاً لتصريحات سائق المركبة التي كانت تنقلهم والذي نجا من الهجوم.
وقد صرّحت الأمم المتحدة أن قوّات حفظ السلام الخاصة بها في جمهورية أفريقيا الوسطى، والمعروفة باسم “MINUSCA”،عثرت على جثث الصحافيّين “وفيها إصابات ناتجة عن أعيرة نارية، بالإضافة إلى سيّارة مهجورة، على مسافة 33 كيلومتراً شمال مدينة سيبوت، التابعة لولاية كيمو”، والتي كانت في منتصف الطريق إلى وجهتهم.
أفاد سكان مدينة سيبوت أن الهجوم كان غير اعتيادي، حتى أن المهاجمين كانوا مهتمّين في البداية بالرجل “الطويل قوي البنيان” (المصوّر رادشينكو) وأرادوا تفتيش جيوبه، ولكن الصحافي قاومهم، فأردوه قتيلاً أمام زملائه، وفقاً لوكالة الأنباء الصينية.
“تم نقل الجثث إلى مستشفى تابع للأمم المتّحدة في سيبوت، ثم نُقلت مرّة أخرى إلى أحد المستشفيات المحليّة في مدينة بانغي بواسطة السلطات المحلية”، بحسب تصريح المتحدّث الرسمي باسم الأمم المتحدة “فرهان هاك” للمراسلين في نيويورك. أضاف هاك: “لم نحدّد ملابسات الحادث بعد””
بدأت القصة عندما تلقى الصحافيّون تكليفاً بالسفر إلى أفريقيا عن طريق مركز إدارة التحقيقات، وهو المشروع الذي أُنشئ على يد ميخائيل خودوركوفسكي، أحد أكبر رجال صناعة النفط الروسية السابقين، وواحد من أكثر المعارضين اللامعين للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وقد بدا مدير مركز إدارة التحقيقات، الصحافي الاستقصائي الروسي الكبير أندريا خونياخين، مفطور الفؤاد في حديثه لموقع ديلي بيست، حينما قال: “أنظر الآن إلى عشرات الصور المخيفة لأصدقائي المتوفّين، وجراحهم. يبدو أن شخصاً ما قام بتكديس جثثهم على الأرض، ووجوههم مُغطّاة بالدماء، وأظن أن خاطفيهم قاموا بضربهم أولاً، ثم قتلوهم بتصويب الطلقات النارية مباشرةً على قلوبهم”.
ركز رادشينكو، وراستورجيف، ودزيمال في تقريرهم على أنشطة واغنر، المجموعة الروسية العسكرية الخاصة والمرتبطة بالكرملين، ووكالة الاستخبارات العسكرية المعروفة باسم “GRU”.
بدأ نشاط هذه المجموعة في جمهورية أفريقيا الوسطى منذ مطلع هذا العام، عندما قامت روسيا بنقل أسلحة لأفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى 5 ضباط في الجيش روسي، و170 محاضر مدني، ومن المُرجّح أن العديد منهم كانوا أفراداً سابقين في الجيش الروسي، بهدف تدريب كتيبتين عسكريّتين هناك. وقد نجحت في الحصول على إعفاء من حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، وذلك بغرض توفير الأسلحة الخفيفة والذخيرة لجيش أفريقيا الوسطى المتهالك، والذي كان بحاجة للدعم لإبقاء الجماعات المتمرّدة المسلّحة تحت السيطرة.
لكن مجموعة فاغنر شيء مختلف. البعض يسمّيها الجيش الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يقود المجموعة عضو سابق في القوات الروسية الخاصة يُدعى ديميتري يوتكين، وهو حالياً على قوائم العقوبات الأمريكية لمساعدته الانفصاليّين المدعومين من قبل روسيا في شرق أوكرانيا.
وبحسب تقرير سي ان ان، عمل يوكتين لفترة كرئيس الأمن الخاص بـ “يفجيني بريجوزين”، أحد أثرياء روسيا والذي تربطه علاقات وثيقة بالكرملين. وبريجوزين هو واحد من 13 روسياً متّهماً بالضلوع في التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، وفقاً لعضو المجلس الخاص، روبرت موللر. واشتهر بريجوزين بصفته صاحب مطعم، واكتسب لقب “طباخ بوتين”. وطبقاً لتقرير صحيفة الاقتصاد الروسية “RBC” العام الماضي، فإن اسم يوكتين ظهر في قواعد بيانات أحد شركات بريجوزين بصفته المدير العام لها.
“الطريقة المُثلى لتكريم ذكرى الأموات تتمثل في إثبات أن موتهم في غير موضعه”
كتب خودوركوفسكي من منفاه عبر صفحته على الفيسبوك، بعد إعلان وفاة المراسلين في روسيا، “أن السلطة تحب التغطية على أعمالها الخفيّة عن طريق نسبها لأشخاص مستقلّين”. وأشار خودوركوفسكي، أن انشطة المُرتزقة تُدار في روسيا بمجموعة من القوانين المُبهمة، بل ويمكن أن تصل إلى جرائم جنائية. ورغم ذلك، نجد أقوى رجال الدولة “لا يخجلون من إعلان موافقتهم على هذه الممارسات، وذلك ما يجعل الموقف شديد الخطورة”.
ويحفل تاريخ أفريقيا الوسطى بالعديد من الاضطرابات بعد جلاء الاستعمار، مروراً بالقادة الفاسدين، والمؤامرات الخارجية التي تهدف للحصول على الذهب، والماس، والمعادن الاخرى. (خلال السبعينيات، كانت جمهورية أفريقيا الوسطى تحت حكم الإمبراطور بوكاسا – والذي نصّب نفسه حكماً للبلاد – وكان يخصّ ضيوفه من ذوي المقام الرفيع بهدايا ماسية).
انزلقت البلاد إلى الصراع عام 2013، عندما أسقطت مجموعة من المتمرّدين المسلمين تدعى سيلكا، الحكومة، ممّا دفع غالبية الميلشيات المسيحية – والمعروفة باسم أنتي بالاكا – بالدفاع عن نفسها. وقد تسبّب العنف الطائفي الذي تلا ذلك في مقتل آلاف الأشخاص، ممّا دفع فرنسا – القوة الاستعمارية السابقة – لإرسال قوات عسكرية للبلاد. بعدها قام الفرنسيون بتمهيد الطريق لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة “MINUSCA”.
نعمت أفريقيا الوسطى بهدوء نسبي عقب تنصيب فوستين آركانج تواديرا رئيساً للجمهورية في مارس/آذار 2016، والذي وعد مباشرةً بالعمل على “توحيد البلاد، وإقامة السلام، وجعلها أمّة متطورة”. ولكن ما لبث أن عاد العنف مجدداً بعد فترة قصيرة وحتى وقتنا الحالي.
ومع مواجهة أفريقيا الوسطى للصراع المتصاعد على أراضيها، وعزوف الغرب عن دعمها، وجدت روسيا الفرصة سانحة، وعرضت توفير 5,200 بندقية، والعديد من الأسلحة الخفيفة بنهاية عام 2018. واليوم، يشغل مواطن روسي منصب مستشار الأمن للرئيس تواديرا، بالإضافة إلى 40 روسي آخر على الأقل في الحرس الرئاسي. وينتشر المتعاقدون مع مجموعة فاغنر في العديد من المواقع في أنحاء هذه الدولة الفقيرة.
وكما هو الحال مع كل الاتفاقات الروسيّة مع سلطات جمهورية أفريقيا الوسطى، بما في ذلك الاتفاقيّات الثنائية التي وقّعت عليها الحكومتان، ظلّت تفاصيل عمليّات مجموعة فاغنر تحدث في سريّة مطلقة.
قال لويس كوتي، صحافي حر في بانغي، في تصريح لموقع ديلي بيست: “إذا سألت مسؤولي الحكومة عن الروس، سيطلبون منك الصمت، بل قد يهدّدونك”. واستطرد: “إذا تجرّأت على الذهاب إلى الموقع الذي يعمل فيه أولئك الروس من أجل تجميع المعلومات عنهم، فسيتم مطاردتك للابتعاد عن الموقع”.
Social Links: