حنا مينه: قصة الرجل الذي أبطل مفعول القنبلة – أحمد عمر

حنا مينه: قصة الرجل الذي أبطل مفعول القنبلة – أحمد عمر

حنا مينه: قصة الرجل الذي أبطل مفعول القنبلة
أحمد عمر

لست أنوي مديح حنا مينه، لم يبق من سوريا سوى “بقايا صور”، وصارت تشبه “المستنقع”، وبلا شراع في العاصفة، وأعترف أني أحببت “قصة الرجل الذي أبطل مفعول القنبلة”. لقد كنت دائما مشدودا إلى الفضيلة والبطولة، مثل أكثر الناس.

وكانت القصة مقررة في كتاب الأدب الحديث على طلاب شهادة الثانوية العامة. وسألخص القصة للسادة القراء بعد الوقوف نصف ساعة صمت على روح الشاعر محمد وليد المصري، وليس على روح جون مكين، الذي لم يبطل مفعول أي قنبلة سقطت على سوريا.

لا أعرف لمَ يصرّ محبو راوية البحر السوري جعله بطلا وطنيا مثل سيمون بوليفار، أو غيفارا؟ ذكر محاسن الموتى عند الموت محمودٌ في التقاليد العربية. يقول المثل الكردي: الأصلع بعد موته أبو جدايل.

المرحوم كان رائدا في كتابة الرواية السورية، ونأتلف في هذا ولا نختلف، بل إنه أهم روائي سوري في القرن العشرين، وله سبعة كتب في النقد والدراسة، وأربعون رواية، تذوب في أمواج سردها ذكرياته، مثل الملح في البحر. أحد الزملاء الكتّاب، هجا حنا مينه بأنه حكواتي، ظنا منه أن الحكواتي وصف مرذول. رفيق شامي، وهو كاتب سوري معروف في ألمانيا أكثر من غونتر غراس، يتباهى بأنه حكواتي، وليس روائيا. وكان الناقد صلاح صالح قد ألّف كتابا قبل سنوات عنوانه “ممكنات النص”، وجد فيه أن رواية “حكاية بحار” منسولة من حرير قصة سوفياتية، صدرت عام 1966 عن “دار التقدم” في موسكو، تحت عنوان “في الطريق إلى المرسى”، ومؤلّفها روائي سوفياتي يدعى فكتور كوينتسكي. وذكر في الكتاب 53 فقرة من حكاية بحار تحذو حذو قصة في الطريق إلى المرسى، حذو النعل بالنعل، ووقع الزعنفة على الزعنفة.

ولم أجد في ذلك ضيرا، ولا في زعم تأثر راويته الشهيرة الشراع والعاصفة، برواية فكتور هيجو، ولا بهيمنجواي، ووجدت حكاية بحار رواية جميلة، ولدي صديق صحفي معروف، كان يسخر من حنا مينه، ويصفه بأنه حلاق، ما العيب؟ بل إن بطولته هي في أنه ارتقى في معارج الحلاقة من الشعر إلى الكلام. الجميع يعلم أن حنا منيه اشتغل بائعا للصحف، وحلاقا في الثكنة العسكرية، وكتب قصصه الأبنوسة البيضاء على الأكياس، وعاش حياة حافلة بالمسرّات والآلام، ويبدو أنه ظل يخاف الجوع، وهو ما حدا بالمستعرب الياباني نوبواكي نوتوهارا أن يزدري أدبه، ويفضّل عليه أدب حيدر حيدر، وهاني الراهب، لسبب عجيب هو أن حنا مينه موظف في وزارة الثقافة! لعله محق، الموظف عبد خصي، خاصة في بلد مثل سوريا.

ناضل الرجل ضد فرنسا، التي يحنُّ كثيرون إلى أيامها، وسجن عدة مرات، وهو سجن لا يقارن بسجون الأسد، لكنه ليس بطلا بالمعنى الوطني الذي يطلب هذه الأيام. وقرأت لشوقي بغدادي ثناء عليه، فجعله أبا للجدايل، قال في منشور على فيسبوك: “وداعا يا صديق العمر، أنا لاحقٌ بك قريبا.. سيبقى المستبدّون وحدهم وسيشعرون بالضجر، لأنك ستغيب عنهم. وأنا أقول لهم مُطَمْئِنَا إياهم إن حنّا مينه لا يحبّكم، بالرغم من أنكم كنتم راضين عليه. سأعيد قراءتك، كي أقول لهم إن حنّا مينه لم يمت بعد، ولن يموت”.

لا أعرف إن كان المستبدون سيشعرون بالضجر، القتل فسحة كبيرة لدحر الضجر، وأميل إلى أن حنا مينه ليس من شعب “منحبك”، بيد أن قول شوقي بغدادي ذكّرني بقول لإميل لحود عن حافظ الأسد، الذي زعم أن الأسد مات، وهو يحادثه هاتفيا، فقال: “قدرنا أن نبني لأولادنا مستقبلا يطمئنون له، وواجبنا أن نورثهم أفضل مما وُرثنا”، ثم ساد صمت مفاجئ، وانقطع الاتصال. وقال لحود: أدركت بعدها أنه سلم الأمانة وبلغ الرسالة”. في هذه صدق الأسد ولم يصدق في غيرها.

كنت أتمنى أن أسمع رأي حنا مينه في الطغاة منه، أو أقرأه في وصية حنا مينه الصوفية الشهيرة، والمكتوبة بثقافة إسلامية عربية واضحة، فلن يمسه أذى بعد الموت،” فالشاة لا يضيرها السلخ بعد الذبح”، وكنا نحسب حنا مينه كبشا.

قرأت منشورا لإعلامية سورية تذكر حوارا أجرته في التلفزيون السوري مع حنا مينه، فطالبتْ بإذاعته، لكنها علمت من الجهات المختصة أنه ضاع في كراجات تلفزيون المقاومة والممانعة. كانت براميل كثيرة تتساقط على الثقافة السورية، لكن ليس من الحوامات. لقد ضاع شعب كامل يا “أبلة”. تصوروا حوارا وحيدا أجراه تلفزيون سوريا الرسمي مع أهم روائي سوري. يا هم لا لي، ومعناها: طوبى لنا.

وسرّني خبر لا يسرُّ العدو ولا الصديق، أن حنا مينه عرض مقتنياته الصينية ليعيش من ثمنها، ولو كان حنا مينه كاتبا غربيا من أوروبا الغربية أو الشرقية، لبيعت مقتنياته في مزاد علني، أو أودعت المتاحف، وأخذت بجوارها الصور التذكارية، ويعني أن سلطة الأبد أهملت أهم روائي سوري، وهو من الأقليات، وهذه خصيصة كان النظام ليتباهى بها ويغازل بها الغرب الديمقراطي. لكن يبدو أن الأقليات رتب ودرجات، أما الأكثرية، فهي شعب وحسب. يقول حنا مينه في حوار، إنه لم يتعرض إلى السجن سوى في العهد الفرنسي، وليس له سوى هذه الشكاة:

“غير أن وزارة التربية السورية آنذاك تكرمت علي، فسحبت اثنتين من رواياتي من مكتبات المدارس الإعدادية والثانوية، هما “الثلج يأتي من النافذة” و”الياطر”، وتلطفتْ، فحذفتْ مقتبسا من إحدى رواياتي (الشراع والعاصفة)، وقصة قصيرة عن حرب تشرين، عنوانها “الرجل الذي أبطل مفعول القنبلة” من كتاب “الأدب العربي” للشهادة الثانوية (البكالوريا) دون إبداء الأسباب، أو لسبب مزاجي احتفالي لا أعرفه. ويمكن أن نقّدر سبب سحب الروايتين، ونرده إلى أسباب سياسية وأخلاقية وإيديولوجية”.

لن نعجب من حذف قصة “الرجل الذي أبطل مفعول القنبلة”، وهي عن حرب تشرين، التي قُتل أبطالها في السجون. مثل هذه القنابل يجب ألّا تبطل، فقد نصبت لتنفجر.

في القصة التي تعود وقائعها إلى حرب تشرين، وقد بحثت عنها في الشبكة العنكبوتية فلم أجدها، وفيها رجل يرى زحاما في الحي، ثم يعلم أن قنبلة قد سقطت، وأن أهل الحي بانتظار المهندسين لتفكيكها، وخوفا من أن تنفجر، يقرر الرجل أن يحلَّ المشكلة، وتنتهي القصة بلحظة تنوير مبهرة، عند مجيء فرقة الهندسة: كان الرجل قد جلس على القنبلة، وأشعل سيكاره، وراح يدخن.

عمدة هذا المقال، أن قلّة نادرة من كتابنا كانوا يشبهون كتاباتهم العظيمة، وهم الذين اختشوا فماتوا، الأصح أنهم قتلوا تحت التعذيب في السجون السحيقة. كنت أتمنى لو أن يوسف إدريس عندما رفض جائزة صدام حسين، أن يعيد قيمتها المالية، وأن يرفض نجيب محفوظ جائزة مبارك، وأن يقف صنع الله إبراهيم، الذي رفض جائزة الدولة التقديرية مع الثورة المصرية، وأن يقف راوية الصحراء الليبي، الذي كان يعمل في سفارة ليبيا خادما لمخابرات القذافي، مع شعبه، وأن يختار الماغوط حزبه ليس من أجل الصوبيا… الصرخة الوحيدة التي سمعناها “للرجل الذي كتب على الأكياس”، كانت ضد علي عقلة عرسان. كان النظام سعيدا بأن يعادى رئيس اتحاد الكتاب، وكأنه رئيس جمهورية!

اليساري الذي ناضل ضد فرنسا، لم يقل شيئا عن “سوخوي زرقاء في السحب”، ولم يقل شيئا في “سوريا ونصف مجنون” وحسن جدا أنه لم يقل شيئا مثلما قال أدونيس، لقد صمت، وهذا حسنٌ في عين الرب.

تتمة قصة الرجل الذي أبطل مفعول القنبلة، هي أنه اعتقل، وقتل تحت التعذيب.

  • Social Links:

Leave a Reply