الرأسمالية الروسية الجديدة

الرأسمالية الروسية الجديدة

الرأسمالية الروسية الجديدة

يعتبر انهيار ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي ومن ثم تفكك الاتحاد السوفييتي من أهم الأحداث التي حصلت في القرن العشرين.هو بالنتائج يعادل الحرب العالمية الثانية (39-45).

كان من أهم عوامل هذا الانهيار عجز المعسكر الشرقي عن مجاراة التقدم الرأسمالي، وفشل رأسمالية الدولة الحاكمة في الشرق تحت تناقضاتها الداخلية المتمثلة في مجتمع يحتاج للتقدم وبين شكل يعتبر سداً حاجزاً أمام ضرورة التقدم فرض سباق التسلح في مرحلة ريغان على الاتحاد السوفييتي الدخول في مفاوضات أذعن فيها السوفييت ومن خلفهم لشروط أفصحت عن الواقع الحقيقي لهذا المعسكر وكانت بمثابة إعلان لانهيار دراماتيكي.

نريد في هذه الدراسة الموجزة أن نؤكد على أمرين أولهما أنه رغم محافظة روسيا على مقعدها الدائم في مجلس الأمن كخليفة للاتحاد السوفييتي ورغم الدور العالمي الطاغي خاصة في منطقة الشرق الأوسط نقول رغم ذلك فإن دور روسيا في واقع الحال لا يُعبر عن إمكاناتها الحقيقية ولا أنها دولة ذات سيادة.

والشق الآخر الذي نريد إثباته أنه يجري من السبعينات إعادة انتاج للهيمنة الدولية وفق حاجات النظام الرأسمالي المستجدة.

حاول الروس في يناير 1992 القيام بعملية الانتقال نحو رأسمالية وطنية تملكه وتتحكم به طبقة من المنظمين الروس، يتم مساندته كما في الدول الرأسمالية الكبرى من قبل سياسات الدولة الاجتماعية والاقتصادية ولكن الغرب كان يخطط للصيغة المثلى لإخضاع الدب القطبي. أي كيف يستولي على الموهبة العلم التكنولوجيا، كيف يشتري الرأسمال البشري وكيف يستحوذ على حقوق الملكية الفكرية.

كان الغرب يرى أن الرأسمالية هي العدو وليس الاشتراكية.

وإذا كان العلاج الاقتصادي يعزز مصالح التجار الروس. و”مافيات” الأعمال فإنه عملياً يؤدي إلى قتل المريض، ويدمر الاقتصاد الوطني، ويدفع منشآت الدولة إلى الإفلاس، من خلال التلاعب المقصود بقوى السوق.

حددت الإصلاحات قطاعات النشاط الاقتصادي التي سيسمح لها بالبقاء.

لقد أوضحت الأرقام الرسمية حدوث انخفاض بلغ (27) بالمائة في الإنتاج الصناعي خلال العام الأول من الإصلاحات. وقُدر حجم الانهيار الفعلي للاقتصاد الروسي في العام 1992 بنحو 50%.

تعتبر الإصلاحات التي قام بها البنك الدولي في عهد يلتسين، أداة لإضفاء طابع العالم الثالث. إنها نسخة كربونية لبرنامج التكييف الهيكلي الذي يفرض على بلدان أمريكا اللاتينية وإفريقيا جنوب الصحراء.

مع أن البرنامج كان معداً لتثبيت الأسعار، لكن الأسعار الاستهلاكية زادت في العام (1992) بأكثر من مائة مرة كنتيجة مباشرة لبرنامج مكافحة التضخم، حيث وجهت العملية التضخمية إلى حد كبير من خلال دولرة الأسعار المحلية وانهيار العملة وارتفع سعر الخبز (بأكثر من مائة مرة) من (13-18) كوبيك في ديسمبر 1991 قبل الإصلاحات إلى أكثر من 20 روبل في أكتوبر 1992، في المقابل زادة الأجور ما يقرب من عشر مرات – أي إن الدخول الحقيقية انخفضت بأكثر من 80 بالمائة.

إن انهيار مستوى المعيشة الموجه نتيجة سياسة الاقتصاد الكلي لم يسبق له مثيل في التاريخ الروسي “كان لدينا طعام أكثر أثناء الحرب العالمية الثانية”

وبمقتضى المبادئ التوجيهية لصندوق النقد الدولي – البنك الدولي كان على البرامج الاجتماعية أن تصبح ممولة ذاتياً: وصدرت تعليمات للمدارس والمستشفيات ودور الحضانة (بالإضافة للبرامج المدعومة من الدولة في مجالات الرياضة والثقافة والفنون) أن تولد مصادر إيرادات من خلال اقتضاء رسوم استخدام. وأصبحت أعباء إجراء عملية جراحية في المستشفى تعادل ما بين دخل شهرين وستة أشهر، مما يعني أنه لا يجريها سوى الأغنياء الجدد، ولم تدفع المستشفيات وحدها إلى الإفلاس بل كذلك المسارح والمتاحف، وتحلل وتغلق مسرح تاجانكا الشهير في العام 1992 ولم يعد لدى الكثير من المسارح الصغيرة أموالاً لتدفع أجور ممثليها. وأدت الإصلاحات إلى انهيار دولة الرعاية وقضي على الكثير من إنجازات النظام السوفييتي في مجالات الصحة والتعليم والثقافة والفنون (والتي يعترف بها المثقفون الغربيون).

ومع ذلك بقيت الاستمرارية مع النظام القديم، فتحت قناع الديمقراطية الليبرالية استمرت الدولة الشمولية دون أن تمس: مزيج دقيق من الستالينية والسوق الحرة وبين ليلة وضحاها أصبح يلتسين وأصدقاؤه أنصاراً متحمسون للنيو-ليبرالية، وحلت عقيدة شمولية محل أخرى وشوه الواقع الاجتماعي، وزيفت الإحصاءات.

فقد زعم صندوق النقد الدولي أواخر 1992 أن مستوى المعيشة قد ارتفع، منذ بداية برنامج الإصلاح وادعت وزارة الاقتصاد الروسية أن الأجور تزيد بسرعة أكبر من الأسعار، لكن الناس ليسوا أغنياء فقد قالوا نحن لا نصدقهم فقد ارتفعت الأسعار مائة مرة.

كان مبدأ تراكم الثروة في الاتحاد السوفييتي قائماً على “الأموال السريعة” السرقة من الدولة والشراء بسعر والبيع بسعر آخر. كانت بداية ولادة رجال الأعمال الروس من أيام بريجينيف حيث نمت وتطورت رأسمالية الأبارتشيك! “أكل آدم التفاحة، وسقطت الخطيئة الأصلية على رأس الاشتراكية”

حظي برنامج صندوق النقد الدولي بمساندة سياسية غير مشروطة من قبل “الديمقراطيين” أي أنه تم دعم المصالح الضيقة لطبقة التجار الجديدة حيث دافعت حكومة يلتسين عن مصالح هذه الطبقة المدولرة حيث أدت إصلاحات صندوق النقد الدولي إلى سرعة إثراء فئة صغيرة من السكان وأدت الدولرة إلى فقدان الروبل لكونه مخزناً مأموناً للقيم. كل هذا أدى إلى تفكيك اقتصاد أمة مهزومة، ولم تكن غاية الإصلاحات كما يدعي الغرب بناء رأسمالية وطنية وإنما يريد تحييد عدو سابق. وهذا ما كان فقدتم الاستيلاء على كل شيء من قبل مافيات مدعومة من الغرب حيث تم الاستيلاء على الممتلكات العامة من خلال المزادات. وأدى ذلك إلى انتقال جزء هام من ممتلكات الدولة إلى الجريمة المنظمة وحسب التقديرات كانت هذه المافيات تشكل لوبي يتخلل جهاز الدولة حيث كانت نصف بنوك روسيا التجارية بحلول عام 1993 تحت سيطرة المافيات، ونصف العقارات العامة وسط موسكو في أيدي الجريمة المنظمة.

كان انهيار الروبل هو الأداة في نهب موارد روسيا الطبيعية: فالنفط والمعادن غير الحديدية والمواد الأولية الإستراتيجية يمكن أن يشتريها التجار الروس بالروبل من مصنع الدولة ويعاد بيعها لتجار من الجماعة الأوربية بعشرة أمثال سعرها كما أن أعضاء بارزين في المؤسسة السياسية كان يقومون بنقل مبالغ كبيرة عبر التجار.

تمت عملية الإصلاح في روسيا في ظل أزمة عالمية وسوق عالمي منكمش، حيث كان يجري إغلاق المصانع في أوربا وأمريكا الشمالية

لم تجد الرأسمالية الروسية مكاناً لها في هذا الوضع العالمي وأدت الإصلاحات إلى دعم التصدي الحر غير المقيد للسلع الأولية، بما فيها النفط والسلع الإستراتيجية والمواد الغذائية الأساسية، في حين يتم الاستيراد بحرية للسلع الاستهلاكية بما فيها السيارات الفاخرة والسلع المعمرة، في ظل غياب أية حماية للصناعة المحلية، أو أية تدابير لإصلاح القطاع الصناعي، أو تحويل المواد الأولية حيث جُمّد الائتمان لشراء المعدات ومن ثم تحرير أسعار النفط والطاقة، وأسعار الشحن. كل ذلك أدى بالصناعة الروسية على الإفلاس.

لقد وضعت خطط محكمة من قبل الغرب لإضعاف الاقتصاد الروسي رفيع التقنية، حيث وضعت شركة لوكهيد للصواريخ والفضاء، وشركة بوينغ، وشركة روكويل أنترناشيونال وغيرها من الشركات أبصارها على صناعات الفضاء والطيران وتمكنت شركات التقنية الرفيعة المستوى، الأمريكية والأوربية (ومقاولو وزارة الدفاع) من شراء خدمات كبار العلماء الروس في مجالات الألياف البصرية. وتصميم الحاسبات الآلية، وتكنولوجيا التوابع الاصطناعية والفيزياء النووية وغيرها بأجور أقل من (100) دولار شهرياً كما أن المجمع الصناعي العسكري الذي يقع تحت ولاية وزارة الدفاع والتي نفذت برنامج التمويل تحت إشرافها والتي تفاوضت مع الغرب بشأنها قد أدت إلى تفكيك هذا المجمع مع ذراعه المدنية. ومنعت روسيا من أن تصبح منافساً في السوق العالمية.

وتعني خطط التمويل مادياً تفكيك قدرات روسيا الإنتاجية في المجالات العسكرية والطيران والتقنية الرفيعة مع تسهيل استيلاء رأس المال الغربي وسيطرته على قاعدة المعرفة الروسية (حقوق الملكية الفكرية) ورأس المال البشري بما فيه العلماء والمهندسون، ومعاهد الأبحاث، وبمقتضى صيغة تحويل معينة حول العتاد العسكري والأصول الصناعية إلى خردة بيعت في السوق العالمية، ثم أودعت حصيلة هذه المبيعات في صندوق تابع لوزارة الدفاع يمكن أن يستخدم في استيراد السلع الرأسمالية، أو في سداد خدمة الدين، أو الاستثمار في برامج الخصخصة.

تبع ذلك الانهيار في الصناعة انهيار بالبنوك الدولية حيث لم يصمد سوى أقوى البنوك والمرتبط بالبنوك الدولية وبتشجيع هذا الوضع تغلغلت البنوك التجارية الأجنبية والبنوك المشتركة في النظام المصرفي الروسي واستولت على كل شيء.

تلي تلك العملية وعن طريق صندوق النقد الدولي إلغاء منطقة الروبل وتقويض التجارة بين الجمهوريات السابقة حيث صكت عملاتها الخاصة وأقامت بنوكها المركزية بمساعدة فنية من صندوق النقد الدولي وعززت هذه العملية من البلقنة الاقتصادية وتفتحت القوى الاقتصادية الإقليمية التي تخدم المصالح الضيقة للطواغيث والبيروقراطيين المحليين وفي حين حررت التجارة مع العالم الخارجي أقيمت الحواجز داخل كومنولت الدول المستقلة.

انهار كل شيء ووقعت روسيا فريسة للغرب أغلب إنتاجها يذهب لخدمة الدين الذي دُمرت به وتحولت إلى دولة من العالم الثالث تعيش على ريع النفط والخشب وسواه وأعيد إنتاج النظام السياسي ليصبح نظاماً وظيفياً توكل إليه المهمات المطلوبة كما نرى.

لقد تمت عملية إعادة التكييف والهيكلة لمعظم دول العالم بما فيها العالم المتقدم. ولكن ما جرى في الدول الضعيفة إنها كانت عاجزة عن استيعاب هذه المتغيرات وأدى هذا ببعض الدول إلى الانهيار والحروب الأهلية كما جرى في الصومال، ورواندا ودول أميركية اللاتينية أما الدول المتقدمة استطاعت استيعاب الصدمة. كل ذلك تم لصالح نظام عالمي يقود العالم ويعمل على دوام مصالحه واستمرار هيمنته على الكون ومقدراته.

  • Social Links:

Leave a Reply