ثورات عربيّة وحرير

ثورات عربيّة وحرير

محسن بوعزيزي – العربي الجديد

كنت أرغب بقوّة أن أعنون هذا النصّ بـ”ثورة وغنج”، لتجاوز النّظرة السّطحيّة التي تمّ تداولها بنوع من السّخريّة عن التعبيرات الاحتجاجيّة في بعض الشّوارع الثّائرة، وخصوصاً في لبنان. ولكنّي غيّرت لفظ الغنج أو الدلال (Coquetry) بالحرير، تجنّبا لإساءة الفهم، وابتعادا عن الغموض والالتباس. وكلّ ما يُراد إظهاره هنا قدرة الغنج، كتقنية ثوريّة غير مألوفة، على إحراج السّلطة وإرباكها. ما يدفعنا باتجاه أخذها مأخذ الجدّ وتحليل أبعادها من حيث هي تقنيّة احتجاجيّة مؤذية وخطرة على خصومها. الحرير دلاليّا يمكن أن يعوّض الغنج، لأنّه يرمز إلى الإظهار والإيضاح، وأمدّ المعنى قليلا من الإيضاح إلى الفضح، فضح السّلطة الغاشمة وخنقها بخيوط من حرير. والحرير نقيض الإخفاء ومنه الحياء، الأوّل جماليّ أمّا الثّاني فإيتيقي (أخلاقي). ولماذا هذا النّص؟ لأنّ الشّارع العربي ينتبه، لأوّل مرّة في تاريخ الاحتجاج، إلى المظهر بوصفه تقنية ثوريّة، يقدّم فيها بعض العرب عن أنفسهم إلى العالم صورةً مختلفةً ومثيرة، فيستخدمون التجلّي أو التّمظهر شكلا من أشكال التعريف والتموقع في العالم.

الجسد الاجتماعي اللّبناني، حين يحتجّ ويثور لا ينسى سحر جمال طبيعته وغُنج أنوثته، فالغنج فيه جزء من عقيدته المنسجمة مع ثقافة المجتمع وتاريخه وجغرافيته. وقد نحتاج إلى مقاربة سوسيولوجية للإغراء لنفهم كفاءة الغُنج (Coquetry) في إيجاد الحدث الثّوري. ولعلّها خاصّيّة لبنانية تاريخيّة، فقد كان لبنان، في حربه الأهليّة، ينتج الكتب من تحت الأنقاض، ومواطنه يخرج بين قصف وقصف ليرقص ويغنّي، ويشتغل أكثر من مهنةٍ ليستمتع بالحياة نهاية كلّ أسبوع. هذا الشّارع يتحوّل منذ شهرين إلى نصّ سيميائيّ يقاوم السّلطة بالتجلّي، بالتّمظهر السّاخر. هناك علاقة مثيرة بين اللّعبة السّاخرة والرّهان تلعب فيها الأنثى الجميلة “لعبة جحيم”: امرأة تحتجّ لأنّها لن تستطيع الإنفاق على عمليات تجميلية ضرورية لإخفاء التّجاعيد، احتفالات بالزّواج على قارعة طريق ثائر، فيختلط اللّهو بالجدّ، وتمتزج الثّورة بطابع كوميدي، يعتمد الإغراء شكلا من أشكال “الغضب السّاطع”: “بدنا نرقص بدنا نغنّي بدنا نسقط النّظام”. فتاة حسناء تجلس على الأرض ليُلتقط لها صورة وخلفها حريق. هكذا يبتدع الشّارع اللّبناني تقنية السّخرية موقفا ثوريا يشير، في الحدّ الأدنى، إلى إعادة ترتيب الأوضاع، وتغيير موازين القوى، فإظهار مفاتن الشّارع بكيفيّة ساخرة بإغرائيتها إنّما هي من تقنيات الاحتجاج استخفافا بعمل السّلطة. هنا الثّورة تختال كأنثى لاذعة. تخال حركاتها غنجا وهي لهيب. إنّها “لعبة جحيم”، بلغة الأنثروبولوجي الأميركي، كليفورد غيرتز، تنقلب فيها موازين القوى هذه المرّة. كيف ذلك؟ لطالما برّرت سلطة النّظام عنفها الشّرعي بوجود خصمٍ صلف، فوضويّ، متجاوز للقانون بقلّة احترامه القانون وهمجيته. أمّا هذه المرّة، فقد أبطل المتظاهرون هذه الحجّة ببلاغة الجسد ونسقيّة الألوان وجاذبيتها التي ترسل إشارات وطنيّة موحّدة للبنان ومتجاوزة للطائفيّة. المخيال الذي صنعته السّلطة لعدوّ متوحّش تمّ تحطيمه، بمشهدٍ بليغ قائم على الغنج اللاّذع وتناسق الألوان مع العلم اللّبناني. تتدعم هذه البلاغة بمسيرات منظّمة قائمة على توزيعية جديدة للألوان، بحسب الانتماء الاجتماعي المهني، وليس الطائفي: الأطبّاء يتظاهرون بزيّهم الأبيض، المحامون بزيّهم الأسود.

وإنّها “للعبة مجتمع” تثور فيها شوارعه على السّلطة بالتمظهر. وكأنّ هذا التّمظهر فضاء عقائدي يتوقّع فيه الفاعل، وهو يلعب، أن يُؤخذ مأخذ الجدّ وأن يتمّ تصديقه، وأن يُتفاعل معه في ذلك. هناك غنجٌ احتجاجي ضارّ ومحرج، يسعى إلى أن يفكّ السّحر عن السّلطة وإحراجها، ولكن بكيفيّة جماليّة مؤذيةٍ لسلطةٍ غاشمةٍ بطائفيتها المخلّة بحلم التقدّم وتحقيق التنمية. السّخريّة هنا بواسطة دلال الأنثى وغنجها يفكّ السّحر عن شرف السّلطة وهيبتها التي انتهكت جمال لبنان بأكداس القمامة وتنامي الحاجة والفقر. وثمّة في لبنان أيضا نزعةٌ نحو اللّغة البيضاء، المحايدة، القريبة من وصف الواقع كما هو بلا مجازاتٍ كثيرة، مسطّحة وشفّافة في تشخيص الفاسدين أو التمييز بينهم. يبدو هذا الخطاب التّطهيري الشّفاف مناسبا لعدم تورّط احتجاجات الشّارع يمينا أو يسارا، أو مع هذه الطائفة أو تلك. كأنّ بنفي الطائفيّة لا يكون إلاّ بلغة تطهيريّة واضحة وبيضاء، محايدة، وغير قابلةٍ للاختراق أو التّصنيف لفائدة طائفة دون أخرى. وتتدعّم هذه الحياديّة وهذا البياض ببروز نمطٍ من الكتابة على المسودّات، وعلى قارعة الطّريق، وبخط اليد، مؤشّرا على بعدها غير الرّسمي، خلافا للّغة الرّسميّة المطبوعة، لغة الأحزاب والطوائف. ثمّ مخترقة قواعد اللّغة الشّرعيّة، بما فيها من أخطاء مقصودة أو عفويّة. هذه التعبيرات الثّوريّة التي تستعمل تقنيات الجسد تنتشر كذلك في شوارع أخرى كالشّارع السّوداني، فهذه آلاء صلاح وأغنية حبوبتي كنداكة في السودان، وظهور لغة مختلفة من قبيل “بدل الطّلقة وردة”، لغة جعلت الجيش ينصاع لهذه الرسائل. وفي العراق، فتاة تعزف على العود في النّجف الأشرف. هذا يدفع إلى القول أنّ ما يميّز الثورات العربيّة ليس قيمها فقط، وما تدافع عنه من مضامين أغلبها معروف في ثورات أخرى، كالثّورة الفرنسيّة منذ 1789، بل سيميائيتها أيضا، على معنى كيفيات التعبير عن رسائلها. إنّها ثورة المظهر، ثورة المعنى الذي يتجلّى مظهرا يعبّر عنه الفاعلون الاجتماعيون من الشّباب في الشّارع بطريقة مسرحيّة. مسرح جادّ يؤدّي كلّ فرد دوره في العرض، وعالمٌ يشاهد ويتفاعل بهذه الطّريقة أو تلك.

تشعر في السّودان أنّك إزاء فاعلين ثائرين يستعجلون الواقع، فترتفع أصواتهم منادية بتقدّم المجتمع وعقلنته، ولكن بروح حالمة وديعة، سورياليّة أحيانا، فوق واقعيّة، على أرض محترقة بالحروب الأهليّة والقبليّة المستمرّة والانقسامات. تبدو هذه اليوتوبيا وظيفيّة وفعاّلة، من جهة أنّها، وعلى الرغم من يوتوبيتها قد حقّقت بعض مقاصدها بما أحدثته من وعي أخلاقي، تستعيد المثال لتخجيل المستبدّ وإقصائه، وتدفع باتجاه ضرورة التقدّم والتّغيير. الحجّة للتّقدّم هو المثل الأعلى الذي يذكّر بما كانت عليه السّودان. هذه العقلانيّة الطوباوية معجونة بنفسٍ صوفيّ مهدويّ يذكّر بأسطورة مجيء المخلّص الذي سيملأ الأرض عدلا، بعد أن امتلأت جورا.

تسمع أهازيج الشّارع السّوداني بإيقاعاته وتمازج قيمه، وتوتّر مشهده ومرجعياته بين الواقع والخيال، فتقتحمك رغبة الإنصات إلى نداء الأقاصي البعيدة في نصوص النّفّري وابن عربي. بنتٌ سمراء ترتدي البياض، ومن فوق إطار سيّارة، وعلى طريق غير معبّدة في قلب مدينة، وأمام مقرّ الجيش، تهتف بـ: “حبّوبتي الكنداكة”، لتردّد وراءها الجموع كأنّها تصحو لتوّها من سبات ثقيل. تقنيات جسدها وحركاته، على الرغم من تناغمها مع الكلمات، تبدو أكثر جاذبية وتأثيرا من المقول نفسه، خصوصا في حركات اليد وما تشير إليه. وتظلّ حركات الجسد وإيماءاته موضوعا يحتاج تفكيرا معمّقا، فقد كان لهذه “الأيقونة”، ولهم بما ردّدوا وبلّغوا ببلاغة صدى له أثر إنجازيّ. ما ينقله الشارع السّوداني إلينا مثير من جهة إنجازيته، من جهة فعالية القول وقدرته على التغيير وتحقيق ما يصبو إليه، ولكن أيضا من جهة إنشائيّته وانزياحاته المدهشة الصّادمة للواقع باستعمال فعل الأمر، واستدعاء الأسطورة وتجديد لاوعي التّاريخ وروحيته بيوتيوبيا شابّة مختلفة، تنفتح على تمظهرات العولمة بقدر ما تتجذّر في روحيّة الماضي التّليد.

 

  • Social Links:

Leave a Reply