جلسات يسارية

جلسات يسارية

فهمي محمد عبدالرحمن

عن فكرة اليسار وبعض أعلامه أتحدث 

اليسار في حد ذاته لم يكن ترفاً في عالم الفكر والسياسة ، بل كان وسيظل دائماً فكرة ثورية تعبر عن حاجة المجتمع الانساني للتغيير الجذري خصوصاً بعد أن ابتلع رأس المال ، وقبله النظام التراتبي بنية المجتمعات البشرية واصبح الانسان بما هو مخلوق مكرم، غير قادر على العيش محتفظاً بكرامته وقيمه الإنسانية ، لهذا كان اليسار منذ بواكير تكوينه يعد تعبيراً عن حاجة اجتماعية للتغيير الجذري قبل أن يكون تعبيراً عن حاجة سياسية لحكم المجتمع عن طريق حيازة السلطة .

فالسلطة والسياسة في الفكر السياسي لليسار لم تكن سوى أدوات ثورية الهدف منها تغيير واقع الناس اجتماعياً وسياسياً وليس حكمهم كغاية مطلقة ، من هذه الزاوية نجد الاشتراكية الطوباوية ليست متحمسة للحكم بقدر ما هي منظومة من القيم الفكرية الاخلاقية والانسانية المثالية المتعلقة بالعدالة الإجتماعية، أما الماركسية التي تعد تطوراً علمياً للمفهوم الاشتراكي نجدها تنشد فناء الدولة كقيمة سياسية وكمرحلة أخيرة للتحول بعد انجاز مهام العادلة الاجتماعية كهدف رئيسي في واقع المجتمعات الانسانية ففي ظل الماركسية لا يوجد سيداً ولا مسيود .

الثورة المستمرة وحدها هي الفكرة المركزية لليسار وهي مبرر وجوده النضالي في اي مجتمع إنساني يستغل فيه رأس المال كرامة الإنسان وعرقه ، كما أن اليسار من جهة ثانية هو الجهاز المفاهيمي الذي انتج المثقف والمناضل في كل المنعطفات التاريخية ونفخ الروح في حركة الفعل الثوري عبر التاريخ الكفاحي للإنسان، بما في ذلك التاريخ الاسلامي الذي عرف ثورات يسارية بامتياز قبل أن يتداول مصطلح اليسار في القاموس السياسي الحديث ، أما التاريخ نفسه حسب التوصيف العلمي لليسار ليس سوى سلسلة من التحولات والصيرورات المادية البحته التي تطرد القديم البالي والتقليدي العتيق لصالح الجديد وفق قوانين الجدل المادي أو المادية التاريخية .

لن استرسل في الحديث عن فلسفة اليسار فذلك حديث يطول ويحمل الكثير من التحليل والتعقيد في نفس الوقت ، خصوصاً وأننا هنا بصدد الحديث عن حضور اليسار من زاوية الغاية التي بررت وجوده التاريخي وحضوره النضالي في كل المحطات التاريخية بكونه تيار سياسي فكري يحمل هموم البسطاء والمقهورين ويناضل من أجل الجماهير ويعبر عن تطلعاتهم للمستقبل الذي يجب أن تسوده العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل لدخل والثروة، ذلك ما جعل اليسار عبر التاريخ البشري هو الضمير السياسي والانساني الذي يغذي حركة الجماهير في نضالها اليومي ضد التسلط والاستغلال الذي يمارسه رأس المال في كل زمان ومكان على هذه البسيطة .

قبل أن يعرف اليساريين ، مصطلح اليسار كمفهوم سياسي في العصر الحديث ، كان مفهوم اليسار من حيث المعنى جدل ورموز وفكرة وثورات حاضراً في التجربة التاريخية للعرب المسلمين ،  وقد بدأ ذلك مع تدفق أموال الفتوحات الاسلامية إلى خزينة الخلافة ومحاولة بعض النافذين والمقربين في جهاز الدولة العربية الإسلامية استغلال جزء كبير من هذا المال وتحويله إلى ثروة خاصة بهم ، وكذلك حدوث النمو السريع في تجارة بعض الصحابة الذين اصبحوا قادرين على كنز الذهب والفضة مع اتساع رقعة الفقر والحاجة في المجتمع وزد على ذلك الإثراء بلا سبب عند من نالهم كرم الخليفة دون غيرهم تحت مبرر أن الخليفة صاحب الحق بالتصرف في مال الله دون رقيب عليه من قبل العباد ، وقد صوغ بعض الخلفاء لأنفسهم مثل هذا التصرف بالقول = { إذا لم يكن من حقي التصرف في المال فلماذا أنا خليفة عليكم ؟ }

مثلث هذه العوامل في بواكير الدولة العربية الإسلامية أرضية إنطلاق فكري لدى بعض النخب من الرعيل الأول حيث بدأوا يفكرون ويجادلون ويطرحون الأسئلة المتعلقة بفلسفة المال = هل المال مال الله أم مال العباد ؟

وهل الاصل في المال هي الملكية الخاصة أم الملكية العامة ؟

وإلى أي مدى يتم الأخذ بإحدهما على حساب الآخر عندما يتعلق الأمر في مصلحة الأمة ؟

وفي خضم هذه التساؤلات الجوهرية تزعم تيار أنصار الملكية العامة أبو ذر فيلسوف اليسار الاسلامي وأبو تراب الامام علي ، وعمار وجل جمهورهم من الأنصار ، وتزعم تيار أنصار الملكية الخاصة سيدنا عثمان وعبدالرحمن ابن عوف ، وجل جمهورهم من قريش القبيلة المهوسة حتى اليوم في حب السلطة والثروة حتى عندما قرر الخليفة عمر عدم تقسيم أرض سواد العراق بعد فتحها بين المجاهدين مع وجود النص القرآني الصريح بذلك ، وقف الجمهور القرشي ضد هذا الرأي على اعتبار أن أرض السواد اصبحت ملك خاص للمجاهدين بقوة النص القرآني بعد اخراج الخمس ، ووقف جمهور الأنصار إلى جانب رأي عمر الذي قضاء بتقسيم المنقولات على المجاهدين وتأميم ملكية الأرض للدولة مع الانتفاع كلاً حسب قدرته وحاجته ، وقد قال الخليفة عمر يومها  ” مالي وقريش والله أني لماسك بحلاقمهم خوفاً من أن يتساقطوا في النار ” يعني حرصاً عليهم لكون حبهم للمال  سوف يوردهم المهالك ، لكن المفارقة التي يجب أن نأخذها في الحسبان تقول ” لو أن حاكماً يسارياً اتخذ اليوم موقف الخليفة عمر مع وجود النص القرآني الصريح ماذا سيقول عنه علماء الدين المغمورين حتى شعر رأسهم ببلادة النصوص ، بمعنى آخر هل سينجو من يتخذ اليوم نفس موقف عمر من تهمة الكفر ؟

داخل دائرة الاسلام كان الجدل حول فلسفة المال بين أبو ذر وسيدنا عثمان يتمحور بكون هذا الاخير يرى انه في حال تم اخذ مقدار الزكاة من صاحب المال فلا يلزمه بعد ذلك شيء مهما تكن حاجة المجتمع ، إلا إذا أراد صاحب المال أن يقدم صدقة حسنه يكسب بها ثواب الآخرة مقابل إشباع جائع في الدنيا، فالأصل في فلسفة المال عند الخليفة عثمان هي الملكية الخاصة ، بينما كان أبو ذر يرى جواز اخذ ما فوق مقدار الزكاة ولو بالقوة ، لأن الأصل في المال هو الملكية العامة ، وقد عرف عنه القول ” عجباً لمن بات جائع وجاره شابع ولا يشهر سيفه ويقاتل ” بل وكان يفتي بعدم جواز كنز الذهب والفضة ، مع العلم أن هذا الجدل كان يدور حول المال المكسوب بالحلال فكيف عن المال الناتج عن الإثراء بلا سبب أو عن التلاعب بالمال العام الذي قال عنه الامام علي = { والله لإن وليت الخلافة لاستعيدنها ولو تزوجت بها النساء وتملكت بها الفروج }

وإذا كان اليسار في صدر الاسلام قد بدأ في الظهور على شكل موقف جدلي يتعلق بفلسفة المال على إثر سياسة الخليفة عثمان تجاه المال العام ، فإن هذا الموقف النظري تحول إلى موقف عملي على يد الخليفة على حين اصدر هذا الأخير مرسومه الثاني والمتعلق بإعادة النظر في توزيع عطايا المال العام ، ليخسر بهذا القرار مناصرة الصحابيين طلحة والزبير اللذان كانا يتقاضيا أعلى نسبه من المال حسب الاجتهاد الذي سنه الخليفة عمر والذي قال عنه هذا الأخير نفسه ” لإن عمرت إلى عامي المقبل لألحقت اسفل الناس بأعلاهم ” فالهوة في نظر صاحب الإجتهاد نفسه = { الخليفة عمر } قد اتسعت بين الأغنياء والفقراء والتاريخ يحدثنا عن صحابه أجلاء خلفوا بعد موتهم ذهب تم تكسيره بالفؤوس ناهيك عن العقارات في حين مات أبو ذر وكثيرين من الصحابة لا يملكون قيمة الأكفان ، مع العلم أن موقف عمر المتعلق بأرض سواد العراق كان موقف عملي للفكرة اليسارية في التجربة التاريخية للمسلمين .

داخل دائرة الاسلام قد يبدو للكثير الحديث عن اليسار ={ الإشتراكية } شيء مستغرب أو ليس مقبول لكن ذلك كان بالفعل حقيقة مؤكدة وخير مثال ثورة الزنج بقيادة على بن محمد التي اعلنت الملكية العامة وألغت الملكية الخاصة بكل وضوح ، واستمرت عشرين عام في وجه الدولة العباسية ولم تسقط إلا بعد حشد الخليفة العباسي كل جيوش الدولة العباسية وبعد حصار دام سبع سنوات كما يؤكد ذلك محمد عمارة في كتابه مسلمون ثوار .

منذ زمن أبي ذر الغفاري وإلى زمن المفكر عبدالرحمن الكواكبي الذي يؤكد في مؤلفاته طبائع الاستبداد و أم القرى أن نظام الحكم في الاسلام نظام اشتراكي نيابي ، نجد اليسار داخل دائرة التجربة الاسلامية مشروع انساني يناضل بالسيف والقلم وينحاز إلى صفوف المقهورين والبسطاء الكادحين ، لأن هؤلاء الأخيرين هم مبرر وجوده عبر التاريخ البشري بشكل عام .

وإذا ما خرجنا في الحديث عن دور اليسار داخل التجربة التاريخية لدولة الاسلامية إلى دوره الانساني على المستوى الأممي وحتى الوطني ، سنجد تجاربه وأعلامه ومشروعاته قد خاضت معارك كبرى ضد الإستغلال الداخلي وضد هيمنة القوى الرسمالية والامبريالية المتوحشة بهدف تحرير الانسان من الاستغلال والاستعمار .

على سبيل المثال وليس الحصر ، ما الذي جعل مخيال العالم والداعية الاسلامي عدنان ابراهيم يقول أنه لم يجد مطلقاً في التاريخ بما في ذلك تاريخ المسلمين أنفسهم عالم دين يملك أخلاق ماركس أو جيفارا !؟

ثم يعقب هذا الداعية الاسلامي بقوله ” إن ماركس كان بإمكانه ان يأكل الذهب ويكسب الثروات ، فالرجل حضر شهادة الدكتوره في سن ال24 من عمره وكان بالإمكان ان يجني منها الأموال الطائلة ”

زد على ذلك أن الرجل كان نابغة حقيقية ومثل حالة إستثنائية في الذكاء الخارق والتحصيل العلمي ، قرأ التاريخ والفلسفة والقانون وعلم الاقتصاد والاجتماع وتحول إلى منظر وفيلسوف ، في زمن وفي مكان كان لسلطة أهل الفكر مكانة ووزن كبير في المجتمع الأوروبي ، ومع ذلك اختار الرجل ان يظل مع فقره وأن ينحاز إلى صفوف المقهورين والبسطاء والجياع ويتحدث بلسانهم ولأجلهم مع صديقه انجلز الذي كان أباه يملك الأموال والمصانع .

جيفارا الطبيب ذو الأصل الاستقراطي رمز النضال العالمي والانساني والروح المتحركة داخل الفكرة الثورية لليسار التحرري عبر الأجيال ، غادر منصب وزير الخزانة في كوبا بعد انتصار الثورة هناك وقال لكاسترو رفيق دربه في النضال الثوري  ” لم اخلق للحكم والسلطة ، فأينما يحل الظلم فهو وطني ” ثم ودع رفيق دربه قائلاً سوف اترك أسرتي لا تملك شيئا من المال ولست نادما على ذلك” وفعلاً غادر كوبا تارك أسرته وألتحق بهؤلاء المظلومين والمستعبدين في الأرض ليقاتل إلى جانبهم ومن أجلهم حتى قتل في سبيل مشروعه اليساري الذي لا يعرف الحدود السياسية ولا يؤمن بإختلاف الأجناس أو الأعراق فقط يؤمن بكرامة الإنسان أينما كان وبالثورة المستمرة أينما يستوطن الظلم والاستغلال ، لأنه على حد وصفه يشعر يومياً بألم صفعة المظلوم على خده !

جمال عبد الناصر اخر عمالقة اليسار في العصر الحديث قدم كل شيء ودعم من عرق المصرين وقوتهم اليومي ثورات التحرر العربية ومات دون أن يترك لأولاده ثروة أو منصب بل ترك لهم وللعرب قضية للنضال المستمر ، قادة اليسار في الجنوب اليمني فجروا ثورة ال14 من أكتوبر ضد المستعمر البريطاني وانحازوا في حكمهم للبسطاء وغادروا السلطة دون أن يملكوا مسكن أو رصيد من المال، وبهذا الخصوص نقول على سبيل المثال إبنة المناضل والمثقف اليساري ورئيس الدولة في جنوب اليمن عبد الفتاح إسماعيل لا تملك اليوم تكاليف العلاج ويتم علاجها على تبرعات الرفاق .

فكرة اليسار ستظل دائما وأبدا هي القادرة على إعادة التوازن في مسار الحياة داخل الجماعات الإنسانية خصوصاً حين يتحول المال إلى آلة استعباد للإنسان ، لكن مشكلة اليساريين في العصر الحديث تكمن في تصديقهم للكذبة التي تجعل من هزيمة الاتحاد السوفيتي هزيمة للمشروع اليساري وطي لصفحته ولدوره التاريخي في حين أن اليسار مشروع ثوري وقصة كفاح مستمرة للإنسان في هذه الأرض ، ما يعني أن فكرة اليسار ليست محكومة بمعادلة الصراع الدولي أو بميازين القوى الدولية ، بقدر ما هي تعبير طبيعي عن حاجة المجتمع للتغيير الجذري وإعادة التوازن خصوصاً عندما ينتصر رأس المال على كامل حقوق الإنسان في أي مجتمع .

في الختام نستطيع القول هنا أننا نكون غير مبالغين في تعريف اليسار عندما نقول أن « اليسار -الاشتراكي- هو في الأصل تحول إنسانية الإنسان إلى فكرة ثورية تعمل على إعادة التوازن في واقع الناس حين يتحول رأس المال إلى سيدً يُعبد في الارض من أجل أن ينال المواطن ثواب لقمة العيش » ما يعني أن حاجه المجتمع إلى هذا التحول الثوري تظل دائماً وأبداً حاجه أبدية سرمدية طالما للظلم والقهر والاستغلال بلدان وأمصار تسكنها، ومع ذلك فإن ما هو مؤكد اليوم أن نجاعة إليسار في التحول الحقيقي إلى الفكرة الثورية محتاجه اكثر من أي وقت مضى إلى قيادات يسارية تشعر بالآم صفعة المظلوم على خدها ( كما قال جيفارا ) حتى تستعيد كل الجماهير المطحونة في هذه الأرض ثقتها بدور اليسار التاريخي وبمشروعه النضالي في سبيل التغيير الذي يمنح الإنسان كرامة العيش في الدنيا وليس في الآخرة  .

  • Social Links:

Leave a Reply