“الكيانات الوظيفية”: قراءة في عالم عربي لم يستقل بعد!

“الكيانات الوظيفية”: قراءة في عالم عربي لم يستقل بعد!

فيصل درّاج – ضفة ثالثة :

بعد كتابات في الشعر والقصة القصيرة، نشرت في أكثر من كتاب، وترجمت إلى أكثر من لغة، انتقل الأردني د.هشام البستاني إلى حقل التفكير السياسي، وأصدر كتابًا من جزأين، يقع في خمسمئة وخمسين صفحة عنوانه: “الكيانات الوظيفية” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ـ عمّان، 2021). يحمل الكتاب عنوانًا أساسيًا ينقصه الوضوح، ربما، تشرحه عناوين فرعية واضحة المعنى. تتلو عنوان الجزء الأول جملة سياسية مكتملة: “حدود الممارسة السياسية في المنطقة العربية ما بعد الاستعمار”. تضيئها جملة لاحقة بخط أصغر: في الفرق بين الدولة والكيان الوظيفي: الجذور، الهوية، التبعية. أما الجزء الثاني، فله عنوان الجزء الأول، وإضافة مختلفة: الأزمة التاريخية في مواجهة السلطة: التيارات السياسية وآليات استدامة السيطرة.

يتكشّف الأساسي في عنوان الكتاب الكبير في مفاهيم ثلاثة: ما بعد الاستعمار، الذي لا يقول بالاستقلال الوطني، بل بواقع آخر يختلف عنه جوهره الفعلي: التبعية، ومفهوم: الأزمة التاريخية المحدّثة عن “منطقة عربية” تحكمها سياسة لا تتصرّف، وطنيًا، بواقعها ولا تسمح ببديل عنها، كما لو كان اختصاصها إدارة أزمة لا خروج منها، ومفهوم: آليات استدامة السيطرة، الذي يتضمن بُنية الأنظمة العربية المسيطرة التي تحدّد الوظيفة والممارسة.

عمد المؤلف في مقدمة كتابه إلى التفريق بين الدولة والكيان الوظيفي، إذ الأولى تبني وطنًا ومجتمعًا موحدّين يحققّان الأهداف الوطنية المتمثّلة، جوهريًا، بمواطن له حقوق وواجبات ينتج تحققهما “الوطن”، المختلف عن الأرض، إذ لا وطن بلا مواطنة، ولا مواطنة إلا بحقوق تؤكد إنسانية الإنسان، وتسعى إلى اطمئنانه وارتقائه.

عاد د.هشام البستاني في جهده النظري إلى اجتهادات ماكس فيبر، التي تعيّن الدولة “بقدرتها على احتكار العنف”، وإلى الماركسية، التي “لا تقدّم تعريفًا واضحًا ومحددًا حال فيبر”، وإلى جهده الذاتي الذي يتقاطع في حدود معينة مع مفهوم الإيطالي غرامشي، الماركسي الذي جاء بمفهوم “الهيمنة”، حيث قدرة الدولة من “توحيدها” بين المجتمع السياسي (الإكراهي)، والمجتمع المدني، أو “الإغوائي” بلغة المؤلف.

استفاد البستاني من جهود غيره، من دون أن يذيب تصوراته النظرية في غيرها، مدركًا أنه يتعامل مع “منطقة عربية” اختلف مآلها، بعد الاستعمار، عن غيرها، ما فرض “تمييزها” نظريًا من غيرها. اندرج جهده، في التحديد الأخير، في جهد الماركسي اللبناني الراحل، مهدي عامل، الذي اغتالته قوى ظلامية لبنانية في 18 أيار/ مايو 1987، و”نظريات التبعية” في أعمال ماركسيين من أميركا اللاتينية، ومساهمات المصري الراحل سمير أمين.

جمع البستاني بين النظري والتطبيقي، وبين السياسة والفلسفة والتاريخ. يتكشّف ذلك في القسم الأول من الفصل الأول الذي عنوانه: التبادل الوظيفي للكيانات الوظيفية: إسرائيل، فلسطين، الأردن. ما يستعيد، لزومًا، اتفاقيات سايكس ـ بيكو ووعد بلفور، ويجعل منهما مرجعًا تاريخيًا، لا يمكن وعي الحاضر من دون الرجوع إليه. بقدر ما يربط واقع المسألة الفلسطينية بمآل الكيانات العربية “الوظيفية”، ويلقي ضوءًا على مطالب “سلطوية” فلسطينية غايتها ما يشبه الدولة، أو “أبعاض منها”، تنصاع إلى بنود “وعد بلفور” وتتجاوزه، كما لو كان ما بعد الاستعمار، في علاقته بفلسطين، حقبة صهيونية متكاملة.

انطلاقًا من طموح ذاتي في تأسيس منظور عربي تحرري، عمد البستاني إلى توليد مصطلحات نظرية جديدة، قد يقبل بها البعض، ويراها غيره تزيّدًا لا ضرورة له، مثل: الدولة المواطنية، المجموعة الحاكمة و”أطر إدارة السلطة والموطني والموطنية”،…. وصولًا إلى الكيان الوظيفي الذي يعني “سلطات بالوكالة”، تحقّق مصالح قوى أجنبية وتحقّق بها مصالحها الذاتية، بعيدًا عن المصلحة الوطنية ومصالح المجتمع بعامة، وتلجأ إلى وسائل عنيفة كي تنجز هاتين الغايتين منتهية إلى مجتمع تسيطر عليها “سلطات فاقدة الشرعية” تؤمّن استمراريتها باستمرارية العنف والإكراه وإلغاء القوانين… تنتج “الكيانات الوظيفية” أزمتها المستدامة، وتحيل الأزمة على “قوى داخلية متآمرة”، أو على قوى خارجية غير محددة الصفات والهوية.

تفضي الممارسة السياسية لـ”الكيانات الوظيفية العربية” إلى مصادرة التطوير الطبيعي للمجتمع، ذلك أنها تستبدل بالسياسة العنف والإكراه، وبالهيمنة، التي تعبّر عن وفاق السلطة والمجتمع، بهيمنة مضادة قوامها التخويف والعقاب والإفقار المعنوي والأخلاقي. ولهذا تمثّل، نظريًا وعمليًا، “سلطة” لا تتحوّل إلى دولة، لأن الأخيرة تنهض على احترام القانون، وتوطيد المؤسسات، واعتراف متبادل بين السلطة والمواطنين، تكون فيه السلطة “دولة شرعية” والمواطنون لا يكونون “رعايا” أو كتلًا بشرية تُمنع عنها حقوق القول والرأي، وقد يُمنع عنها “الحق بالرغيف”، كما نشهد الآن في أكثر من بلد عربي.

لن تكون السياسة في “الكيانات الوظيفية” إلا تداولًا متوارثًا للسلطة، أو احتكارها من قبل تحالف حاكم متجانس الغايات والممارسات. ولن تكون، الأحزاب، كما الانتخابات، إلا لعبة موسمية تحدّد أجهزة الأمن قواعدها وغاياتها. وفي بنية حاكمة كهذه تقوم الأجهزة المدرسية “بمحو الأمية” القائم على ثنائية التلقين والاستظهار، بعيدًا عن التعليم في معناه الحقيقي الهادف إلى تهذيب للعقل والروح وبناء “الإنسان ـ المواطن” القادر على الرفض والقبول.

تصوغ هذه الممارسات التابعة، التي يترافد فيها القهر والتجهيل، وتداعي المحاكمة السليمة، والحرمان الاقتصادي، اللواذ الضروري بالدين، وأشكال التصور الديني: فالسلطة المفتقرة إلى الشرعية “تدّين لغتها”، وتكاثِر المظاهر الدينية، لا اعترافًا بالدين كموروث ثقافي يهذب الإنسان، ويحفظ سلامة اللغة، كما هو في الإسلام، بل كحجاب خارجي تؤوّل مقولاته بما يناسبها منتهية، كما هو معروف في حالات كثيرة، إلى “دين سلطوي” شكلاني المضمون. فإذا أضيف إليه القهر والتجهيل تحوّل إلى إيديولوجيا تلغي العقل وتسوّغ القدرية، وإلى جماعات تنشد التدمير، بعد أن نسيت معنى الفعل السياسي والبرامج السياسية. وحال المثقفين، غالبًا، لا تختلف عن مآل الدين، تدفع بهم السلطة إلى الصمت، أو إلى انتقائية مبتذلة، كأن ينسوا الجوع، ويتحدثوا عن العلمانية، علمًا أن الأخيرة علاقة مركبّة تتضمن القومية وحقوق المواطنة والحوار المجتمعي والتفريق بين الوطن والأرض، وبين المقدس والدفاع عن المقدسات، كالقدس وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة. كما إنكار تلك الصيغة الدينية الزائغة التي تساوي، في حالات تداعي الوعي السليم، بين الدين والوطن، ولكن بمعنى مختل يقول: إن وطن الإنسان المؤمن هو دينه، علمًا أن دلالة الدين لا تنفصل عن السياق والتاريخ والجغرافيا…

تبدّد الكيانات الوظيفية معنى القومية، فلا قومية إلا بوعي ديمقراطي حداثي، بقدر ما تهدر معنى الدين الذين يحضّ على المساواة والعدل والصلاح. لا غرابة، في شرط كهذا، أن تختزل الحداثة إلى “الاستهلاك التابع”، إذ استعمال السيارة أمر حداثي، وكذلك استعمال التلفزيون والفيديو، ناهيك عن اللغة الهجينة المضحكة، “لغة البزراميط”، بلغة لويس عوض، رحمه الله، حيث المتكلم لا يتقن لغته ـ الأم، ولا اللغات الأجنبية التي يلتقط منها “مفردات على الموضة”، وهو أمر دارج في وسائل الإعلام العربية إلى حدود المسخرة والاحتقار.

ماذا يتبقى في هذا الكتاب الكبير لفلسطين والمسألة الفلسطينية؟ يتبقى ما يتبقى من كل قضية عادلة في سياق عابث تساقطت قيمه. تصبح القضية الفلسطينية عبئًا “قوميًا”، ويغدو تسخيفها والتفريط بها أداة “ثمينة” للتقرب من إسرائيل، و”عطاءات الولايات المتحدة”، والسخيف في الموقف “التابع” أن إسرائيل تأخذ ولا تعطي. وأن الولايات المتحدة تلهو بالعجز العربي الذي يتأسس على قمع الشعب العربي “بلا هوادة”، وإغداق العجز العربي على الذين لا يعترفون بالحقوق العربية.

ابتعد البستاني، في حديثه عن مأساة فلسطين، عن لغة الإعلام السلطوية المتحدثة عن “حلول مرغوبة”، حل الدولتين، القريب اليوم من الكلمات المتقاطعة، واستجداء تطبيق وعد بلفور الذي لم يعد قابلًا للتطبيق، و”السلام المتوازن بين العرب وإسرائيل”، أي الاعتراف بإسرائيل كيانًا شرعيًا، له الحق في الوجود حتى لو التهم الحق الفلسطيني منذ عقود.

عثر هشام البستاني على الأفق العربي المنشود مؤكدًا: حلم الثورة الشعبية، مقتربًا بقدر من قول سمير أمين: الثورة الثقافية، الذي إن كان ممكنًا عطّلته وصادرته الكيانات الوظيفية، التي تقايض مصائرها بمصائر الأوطان كافة، كما لو كانت “السلطات العربية” تقف فوق المنطق والجغرافيا والتاريخ. استضاء المؤلف بموروث نظري تحرري مديد وحاوره أيضًا: كتابات الروسي لينين، والبولونية روزا لوكسمبورغ، والإيطالي غرامشي، وتقدم إلى الزمن الراهن، واتكأ على كتابات وندي براون، وجاك رانسفيير، وآلان باديو، الذي يدعم الحق الفلسطيني، ويصف العالم الذي نعيش فيه: “إن عالمنا تحكمه مجموعة من الزعران”.

جمع البستاني بين المعرفة والخبرة الاجتماعية، والموقف السياسي، ووضوح الرؤية، والتحق بمثقفين مزجوا بين النقد الجذري، وإرادة التغيير، واحترام الإنسان والحلم بتحريره. كل هذا يجعل كتابه جديرًا بالقراءة، وإضافة نوعية إلى “العلم السياسي”، الذي يحتاجه العالم العربي اليوم أكثر من أي وقت مضى.

  • Social Links:

Leave a Reply