صبحي حديدي _القدس العربي
المواجهات المسلحة التي تُشعل غرب السودان اليوم، في منطقتي الجنينة والسريف على وجه خاصّ، يصحّ أن تحمل صفة الصراعات الأهلية، والبؤر القابلة لانفجارات أوسع نطاقاً؛ والتي، وإنْ لاح أنها لا تستعيد تماماً مفهوم الحرب الأهلية، تتجاوز بإيقاعات متسارعة صيغة المنازعات المحلية على أرض أو مرعى أو نفوذ هذه القبيلة أو تلك. إنها، في الجانب الأخطر ربما، قريبة أيضاً من استئناف المقدمات التي أفضت إلى المأساة الدامية في إقليم دارفور، ابتداء من سنة 2003، وأوقعت قرابة 300 ألف قتيل وهجّرت أكثر من ثلاثة ملايين نسمة؛ وليست أعداد القتلى، التي تُعدّ اليوم بالمئات، سوى تذكرة واضحة بحال مماثلة شملت غرب السودان منذ 18 سنة.
يصحّ التذكير، ابتداء، بأنّ السودان ليس دولة/ أمّة إلا بمعنى معطيات ديمغرافية وإثنية ولغوية، فضلاً عن تلك التاريخية والدينية، تفرض على الدوام صياغات جدلية تنازعية غالباً وتوافقية نادراً؛ طبقاً في المقام الأوّل، لطبيعة السلطة الحاكمة في الخرطوم، وطبائع الالتزام بالاتفاقات والمواثيق بين الشمال والجنوب. أي، على نحو أدقّ: حدود التفاهم والتباعد، والتطابق والتنافر، والسلام والخصام… بين 19 مجموعة إثنية مختلفة، تتوزع على 597 فرعاً، وتتكلم قرابة 100 لغة ولهجة، وتبدأ معتقداتها الروحية من الإسلام والمسيحية ولا تنتهي عند طائفة متشعبة من العبادات الوثنيات السحيقة. وإذا جاز التأكيد بأنّ الشروط الاجتماعية والاقتصادية، التي لا مفرّ من تصنيفها في خانات طبقية بالمعنى الكلاسيكي للمفردة، كانت السبب الأبرز وراء انتفاضات أهل السودان الكبرى أعوام 1964 و1985 و2019؛ فإنّ صلة السلطة المركزية بالحقائق الديمغرافية والإثنية آنفة الذكر كان على الدوام في طليعة الأسباب التالية للانتفاض، ثمّ الصراعات والنزاعات والحروب شبه الأهلية تالياً.
وهكذا فإن السلطة الراهنة، على صعيد المجلس العسكري والحكومة المدنية سواء بسواء، مسؤولة مباشرة عما يشهده غرب السودان من اقتتال دموي؛ ليس بالضرورة لأنّ السلطتين، العسكرية والمدنية، متورطة في النزاع الراهن أو مشاركة في أيّ من أطرافه (وإنْ كان الأمر ليس مستبعداً تماماً) بل لأنها صانعة اتفاقيات سلام، وضامنة لصياغات وئام، وحارسة من حيث المبدأ لكلّ وأيّ سلام أهلي في البلد بأسره، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. وفي وسع المراقب أن يبدأ من أولى المعطيات التأسيسية، التي تقول مثلاً إنّ مجموعات الجنجويد هي التي ارتكبت معظم فظائع ما بعد 2003 في دارفور، وهي اليوم الهراوة الغليظة المسلحة في قبضة قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) الآن وقد صارت تُسمى «قوات الدعم السريع».
كذلك فإنّ اتفاقية السلام الموقعة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، والتي توافقت عليها الحكومة المركزية مع عشرات (نعم، لأنها قرابة 80) من الحركات السياسية والعسكرية التي تزعم تمثيل دارفور وغرب السودان عموماً؛ تبدو مجرّد ترجيع صدى لاتفاقيات سالفة قيل عند إبرامها إنها صانعة السلام، فلم تصنع سوى تجميد مناخات الصراع عند نقاط انطلاق أخرى مستجدة. الفارق، مع ذلك، يتوجب أن يبرز إلى صدارة الاتفاقية الراهنة، بل الحال الإجمالية التي يعيشها السودان اليوم، أي طور انتصار الانتفاضة الشعبية وإسقاط نظام عمر البشير والمرحلة الانتقالية التي تمهد للتغيير الجوهري الديمقراطي.
في غمرة الدماء التي تُراق غرب السودان لا يبدو أنّ أحداً من رعاة السودان الجديد، الإقليميين والدوليين، يكاتب جنرالات الخرطوم؛ هذا بافتراض أنّ أياً من هؤلاء يمكن أن يتكاتب، أصلاً، مع رئيس الحكومة أو الفريق المدني فيها
وفي صياغة أخرى: هذه السلطة ذاتها، العسكرية والمدنية، التي تتجاسر على التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ويلتقي حاكمها العسكري مع بنيامين نتنياهو حتى من دون الرجوع إلى الائتلاف الحاكم؛ كيف لا تتجاسر، أو تُلزم في الواقع، بمعالجة الاقتتال الراهن في منطقتي الجنينة والسريف، بل ضبط التطورات الدامية في سائر دارفور؟ السؤال التالي، ولعله الأسبق كذلك، هو ذاك الذي يخصّ النواقص الكثيرة التي اكتنفت الاتفاق ذاته وأعاقت، وتعيق كلّ يوم، محاولات وضعه قيد التطبيق الفعلي؛ ولماذا تقف السلطة المركزية، وكتائب الجيش على وجه التحديد، مكتوفة الأيدي أمام تذليل العراقيل؟
وفي ماضي مأساة دارفور، مثل حاضرها أيضاً، ليس من باب المبالغة، أو الجنوح التبسيطي إلى نظريات المؤامرة، التذكير بعامل النفط وراء صراعات الإقليم، مثل اهتمام قوى عظمى بما يجري فيه من حرب وسلم. لقد ترددت، على الدوام في الواقع، تلك الحكاية المتعلقة بأنبوب عملاق عابر للقارّات، ينقل الذهب الأسود من العراق والخليج إلى ميناء ينبع السعودي، ثمّ إلى ميناء عروس السوداني، مارّاً بإقليم دارفور، وحقول دبا التشادية، وصولاً إلى المحيط الأطلسي. وفي سياقات هذه الحكاية علّمتنا تجارب الماضي أن نرقب باهتمام فائق تطورات التوافق (أو التنازع، غنيّ عن القول) بين شركات النفطية الأمريكية ومنافساتها الشركات الصينية والماليزية، أو حتى تلك الأوروبية؛ بصدد صناعة النفط السوداني التي يمكن أن تبلغ نصف مليون برميل يومياً.
وفي الأساس، من جانب آخر ذي صلة، ألم يكن اكتشاف النفط بمثابة الكاشف الحاسم الذي طرح ورقة انفصال الجنوب، وجعلها بعيدة عن أي حوار سوداني ـ سوداني على نحو عنيف حصد أكثر من مليون ضحية، قبل أن يستقرّ النزاع على استفتاء منح الجنوب هذه الصيغة من استقلال/ دولة ما تزال تفتش عن وجودها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديمغرافي؟ ألا يحتضن الجنوب 70٪ من الاحتياطي النفطي في السودان، وأنّ اتفاقية السلام لسنة 2005 لحظت هذا التفصيل الحاسم؛ الذي يتفوّق، كثيراً وجوهرياً، على اعتبارات مثل الانشطار الديني (لا يدين بالمسيحية إلا 17٪ من أهل الجنوب، مقابل 18٪ من المسلمين، و65٪ أتباع عقائد وثنية شتى)؛ أو التوزّع الجغرافي (ثمة قرابة مليونَين من أهل الجنوب، يقطنون بصفة دائمة في الشمال)؛ أو الخريطة القبائلية (30 قبيلة في الجنوب وحده، بينها ثلاث قبائل كبرى تمسك بزمام السلطة عملياً، كما تحتكر الحقائب الوزارية والغالبية العظمى من مواقع القرار في الجنوب).
غير أنّ تواريخ السلطة المركزية في الخرطوم لا تقود التحليل بعيداً عن حال المرآة العاكسة للتناقضات والتحالفات المؤقتة، الأقرب إلى زجّ النقائض في وحدة مصطنعة، هشة وعابرة. وقد يبدأ المرء من الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق إبراهيم عبود سنة 1958، بعد سنتين فقط على استقلال البلد؛ فلم يتأخر في تعطيل الدستور وحلّ البرلمان وحظر الأحزاب السياسية، بمباركة من زعماء الطرق الصوفية وعلى رأسها عبد الرحمن المهدي عن «الأنصار» وعلي الميرغني عن «الختمية». العقيد جعفر النميري سوف يقود الانقلاب العسكري الثاني، في سنة 1969، بعد الإجهاز على انتفاضة 1964 التي أنهت دكتاتورية عبود؛ فيحظى، للمفارقة، بدعم مبدئي من الشيوعيين، وبمعارضة من الشيخ حسن الترابي الذي كان قيد الاعتقال. ثم انقلبت الأقدار سريعاً، فأعدم النميري عشرات القادة الشيوعيين، قبل أن يهتدي إلى فضائل الشريعة في قوانين أيلول (سبتمبر) 1983، فلا يكتفي بالإفراج عن الترابي بل عيّنه وزيراً للعدل!
لا حاجة، أغلب الظنّ، إلى أمثلة أخرى تمتدّ إلى ما بعد مجزرة فضّ اعتصام القيادة العامة التي أوقعت قرابة 100 قتيل، وكانت بمثابة المناسبة الأبكر كي يكشّر حميدتي عن أنياب الجنجويد التي سُنّت أكثر من أيّ وقت مضى بعد حيازتها شرعية غاصبة لأطوار ما بعد عمر البشير، مؤسسها وراعيها. الثابت، في غمرة الدماء التي تُراق غرب السودان وتستعيد الكثير من أهوال دارفور 2003، لا يبدو أنّ أحداً من رعاة السودان الجديد، الإقليميين والدوليين، يكاتب جنرالات الخرطوم؛ هذا بافتراض أنّ أياً من هؤلاء يمكن أن يتكاتب، أصلاً، مع رئيس الحكومة أو الفريق المدني فيها!
Social Links: