يعيش حياة جديدة ويطوّر أدواته وصيغ انتشاره.. عودة الاستشراق – فخري صالح

يعيش حياة جديدة ويطوّر أدواته وصيغ انتشاره.. عودة الاستشراق – فخري صالح

رغم أن الاستشراق، كحقلٍ معرفيٍّ وتصوُّريٍّ للشرق، وشكلٍ من أشكال تمثيله، قد تلقى ضربة شديدة عندما نشر إدوارد سعيد (1935 ـ 2003) كتابه الشهير “الاستشراق” (1978)، إلا أنه ما يزال يعيش بين ظهرانينا، ويمارس تأثيره في حقول متعددة من الدراسات التي تُكتب حول الشرق، بعامة، والعالمين العربي والإسلامي، بخاصة. إنه يعيش حياة جديدة، ويطوّر أدواته، وصيغ انتشاره، ويغيِّرُ من الوسائط التي يستعملها ليصبح جزءًا لا يتجزأ من الوعيِ الغربي، والتصوراتِ النمطيةِ السائدة التي يرغب صُنَّاع القرار وأصحاب المصالح في أميركا، والغرب عامة، في جعلها مكوِّنًا أساسيًّا من مكونات تصوُّر الإنسان الغربي العادي للعالمين العربي والإسلامي. وقد عمل مستشرقون، ومتخصصون في شؤون العالمين العربي والإسلامي في المؤسسة الأكاديمية الغربية، ورجالُ مخابرات، وعاملون في السلك الخارجي لوزارات الخارجية الغربية، وصحافيون ومراسلون قدموا إلى الشرق لتغطية حروبه وأزماته، في إشاعة الصور النمطية العتيقة نفسها حول العرب والمسلمين، حول الشرق وتخلفه وانحطاطه؛ حول معاداته للحداثة والديمقراطية، وحقده على الغرب، وضرورة التدخل من أجل تعليمه الديمقراطية، ونقله إلى ركب الحضارة الإنسانية التي يمثلها الغرب بقيمه الإنسانية وديموقراطيته وحداثته وتقدمه.

لقد سبق لإدوارد سعيد وصف الاستشراق بأنه ممارسة من ممارسات القوة تخدم، بغض النظر عن الحالات القليلة التي تمثل الاستثناء لا القاعدة، برنامجًا استعماريًا للهيمنة والسيطرة، ولم تكن أهدافه، من ثمَّ، علميةً خالصةً، كما ادعى ممارسوه، وأتباعهم ممن درسوا تاريخ الاستشراق وإنجازه النصي. رأى سعيد أننا “إذا اتخذنا من أواخر القرن الثامن عشر بداية محددة تقريبية للانطلاق منها، فإن الاستشراق يمكن أن يدرس ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق ـ التعامل معه، بإنشاء عبارات وزوايا نظر مفوَّضة حوله، بوصفه وتعليمه وتحديده والحكم عليه: إن الاستشراق، باختصار، هو الأسلوب الغربي للسيطرة على الشرق (…) وامتلاك السيادة عليه(1). عمل سعيد، انطلاقًا من هذا التصور، ومن الحدود الزمانية والمكانية التي رسمها لعمل خطاب الاستشراق، على قراءة أرشيف الاستشراق للتوصل إلى العلاقة المعقدة، ذات الطابع الإكراهي أحيانًا، بين هذا النوع من أنواع الخطاب الغربي وأرشيف المعرفة الغربية والسلطة. ولا شكَّ في أن هذه القراءة الأفقية ـ العمودية للاستشراق قد جرَّت على سعيد كثيرًا من النقد العنيف من قبل ممثلي هذا الخطاب في ثمانينيات القرن الماضي، وعلى رأسهم بالطبع برنارد لويس، وغيره ممن أصبحوا في عداد المحافظين الجدد في إدارة جورج بوش الابن خلال سنوات رئاسته الثماني (2000 ـ 2008). لقد أحس هؤلاء بقدرة كتاب مثل “الاستشراق” على تقويض الصرح الاستشراقي الذي ادعى، طوال قرون، أنه علمٌ خالص لوجه العلم، يسعى فقط إلى دراسة لغات الشرق وثقافاته ونفائسه، وأنه لا علاقة له بالإمبراطورية، والتوسع الإمبريالي، والغايات الاستعمارية، التي تقف وراء المشروع الغربي في الشرق. فباستعمال أدوات المعرفة الغربية، ومفهوم الأرشيف الذي طوره الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 ـ 1984)، عمل سعيد على الكشف عن تضافر خطاب الاستشراق مع القوة الغربية، وكونه، على عكس ما يدعي برنارد لويس (1916 ـ 2018)، وهاملتون غِب (1895 ـ 1971)، وأمثالهما، معرفةً تعمل في خدمة الإمبراطورية، حتى لو كان بعض ممارسيها على غير وعي بذلك. إن شروط الخطاب وإكراهاته، إذًا، هي ما يوجه الاستشراق.

لعل هذه الشروط التي حكمت ظهور خطاب الاستشراق، ووظائفه، في الثقافة الغربية، هي التي جعلت حضوره مستمرًا حتى هذه اللحظة. وقد تنبَّه سعيد نفسه إلى هذه الاستمرارية في كتاب “الاستشراق”، الذي نعى الاستشراق، وأبَّنه، في الوقت نفسه. فالعلاقة المعقدة التي تربط الغرب بالعالمين العربي والإسلامي ما زالت مستمرة، لم تغير من شروطها عمليةُ خروج الاستعمار من المنطقة في خمسينيات القرن العشرين وستينياته؛ إذ استمرت الهيمنة وحضور الاستعمار بطرق أخرى، سياسية واقتصادية وثقافية. ويشير سعيد في الصفحات الأخيرة من كتابه إلى أنه رغم رطانة خطاب الاستشراق التي تدعو إلى الرثاء، وعرقيَّته المستترة المكتومة، وأدواته الثقافية الضعيفة، فقد ازدهر هذا الخطاب في زماننا، وجرى استيعابه وتوظيفه من قبل الإمبريالية الجديدة التي تمثلها الولايات المتحدة الأميركية(2).

يعود إدوارد سعيد إلى توضيح تصوره لاستمرارية الاستشراق في مقالته التي يعلق فيها على كتاب صمويل هنتنغتون (1927 ـ 2008) “صراع الحضارات” (1996). ففي معرض رده على المنظر الأميركي في علوم السياسة، الذي رسم كتابُه المذكور خطوطَ السياسة الخارجية بخصوص العالمين العربي والإسلامي في عهد جورج بوش الابن، يرى سعيد أن “ما يدعى “الإسلام” في أوروبا والولايات المتحدة، في اللحظة الراهنة، ينتسب إلى خطاب الاستشراق، وهو تلفيقٌ مصطنعٌ القصدُ منه إثارةُ مشاعر العداء والنفور ضد منطقة من العالم تُعدُّ ذاتَ أهمية استراتيجية بسبب احتوائها على النفط، ولقربها المنذر بالخطر من العالم المسيحي، ولتاريخها الممتد في التنافس مع الغرب(3).
وهذا يعني أننا نواجه تحولًا في خطاب الاستشراق. فإذا كان وصف “المستشرق” ينطبق على العارفين بلغات الشرق وآدابه وآثاره، والرحالة الذين ارتحلوا إلى ذلك الشرق، والأدباء الذين كتبوا عنه أو تخيَّلوه، أو رسموا له صورة تستمد مادتها من كتاب “ألف ليلة وليلة”، فإن وصف “المستشرق” بدأ يصحُّ إطلاقه على أشخاص يعملون في حقول أخرى لا تتصل بالشرق وعوالمه ولغاته وثقافاته، بل إنهم قد يكونون علماء سياسة (مثل صمويل هنتنغتون) وعلماء اجتماع وصحافيين لا يعرفون شيئًا من لغات الشرق، أو عن ثقافاته. إنهم يستمدون معرفتهم من مصادر ثانوية؛ من الصحف والتقارير الإخبارية، والاحتكاك بأبناء العالمين العربي والإسلامي عبر الرحلة (كما فعل الكاتب البريطاني ـ الترينيدادي ف. س. نايبول (1932- 2018))… إلخ. وهكذا توارت، من ثَمَّ، صورة المستشرق، العلَّامة، المتبحر في لغات الشرق وثقافاته، ككارل بروكلمان (1868 ـ 1956)، ولويس ماسينيون (1883 ـ 1962)، وإغناتس غولدتسيهر (1850 ـ 1921). وإذا كان عمل برنارد لويس قد ظلَّ، وإلى فترة عقد من الزمن، بعد صدور كتاب “الاستشراق”، يتمتع بهذه الصورة الأيقونيَّة في الصرح الاستشراقي المتهاوي، فقد شحبت هذه الصورة خلال تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحادي والعشرين، وحلَّت محلَّها صورة الداعية الذي يوظِّف معارفه حول العالمين العربي والإسلامي لخدمة صانع القرار في البيت الأبيض. وهو الدور نفسه الذي كان يؤديه صمويل هنتنغتون، وكذلك تلميذ برنارد لويس اللبناني، فؤاد عجمي (1945 ـ 2014)، الذي سمح لنفسه أن يكون “مخبرًا محليًّا” Native Informant في وسائل الإعلام الأميركية، يهاجم العالمين العربي والإسلامي، ويردد الكليشيهات والصور النمطية الاستشراقية حول مسقط رأسه.

إننا، إذًا، في مواجهة تشكُّل صيغة من صيغ الاستشراق المعاصر الذي يعتاش على فرضيَّات الاستشراق القديم، وصوره النمطية، وتمثيلاته للشرق، وعلاقته بالإمبراطورية. لكنه في الوقت نفسه لا يتغطَّى بالمعرفة والدور الحضاري، بل يُسفر عن دوافعه الأيديولوجية، ووضعه هذه التصورات في خدمة السياسة الخارجية لأميركا بخاصة، والغرب بعامة.

في تعليقه على كتاب دانيال بايبس، “في سبيل الله: الإسلام والسلطة السياسية” In the Path of God: Islam and Political Power، يقول إدوارد سعيد: إنه “محتشدٌ بالإشارات إلى عجز الإسلام عن تمثيل نفسه، أو فهم نفسه، أو وعي ذاته. كما أنه عامرٌ بامتداح مراقبين من أمثال ف. س. نايبول، الذين هم أكثر فائدة ومهارة في فهم الإسلام. ونحن نعثر هنا على أكثر ثيمات الاستشراق المألوفة لدينا ـ إنهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولهذا ينبغي أن يجري تمثيلهم من قبل الآخرين الذين يعرفون عن الإسلام أكثر مما يعرف عن نفسه(4)؛ أي أن خطاب الاستشراق المعاصر يسعى إلى التأكيد على الثيمات نفسها التي كرسها عبر قرون من الكتابة الغربية حول الشرق. إننا نعرف عنكم أكثر مما تعرفون عن أنفسكم، وليس مسموحًا للتابع أن يمثل نفسه، أو بتعبير سعيد، في موضع آخر، فإنه ليس مأذونًا للآخر، الشرقي، أو المسلم، أو الفلسطيني، أن يتكلم. وإذا حدث أن وقعنا على لغة مختلفة، منصفة، في الكتابة حول الشرق، فإن “تلامذة برنارد لويس، من أمثال مارتن كرامر، صاحب كتاب “قصور عاجية على الرمال: فشل الدراسات الشرق أوسطية في أميركا” Ivory Towers on Sand: The Failure of Modern Eastern Studies in America، وباحثين بارزين، مثل روبرت وود، من جامعة شيكاغو، يرون أن هؤلاء الأكاديميين المتخصصين في الدراسات العربية كانوا يبحثون عن الأعذار للراديكالية الإسلامية(5).
ثمَّة عودة مظفرة لأكثر أشكال الاستشراق عدوانيَّة وشراسة. وبدلًا من أن يتخذ خطاب الاستشراق نهجًا يعيد النظر في إرثه الإمبراطوري، وتواطؤه مع المشروع الاستعماري خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين (وهي الحدود الزمانية التي رسمها سعيد لخطاب الاستشراق)، فإننا نشهد ولادة نوع جديد من الاستشراق يسفر عن دوافعه الأيديولوجية، وانخراطه في المشروع الإمبريالي الأميركي.
يرى الباحث محمد سميعي، في دراسة له تسعى لتعريف “الاستشراق الجديد”، أنه “من السذاجة التفكير بأن الأنماط القديمة من التاريخ والمصير الإنسانيين، اللذين شكَّلا ثنائية الغرب ـ الإسلام، قد اختفت. فعلى النقيض من ذلك، فإن هذه الأنماط قد أُعيد تشكيلها، ونشرها، وتوزيعها من خلال نظام مُعولَم عمل على تشكيل نموذج جديد للمعرفة(6)، وينقل سميعي عن كريستينا هِلميتش(7) Christina Hellmich ما تقول إنه من السمات الأساسية لـ”الاستشراق الجديد”، المتمثلة في إهماله المظاهر المحلية والمحددة للحركات الإسلامية، ومحاولته تصوير تلك الحركات الإسلامية، كعدو إسلامي إرهابي متجانس. ففي هذا النموذج المانويِّ المتأصل من التفكير، تتساوى منظمة القاعدة مع حركة حماس، مع حزب الله، مع حركة الجهاد الإسلامي، مع جبهة مورو، لكونها جميعًا “عدوة العالم المتحضر”. فهؤلاء “الإرهابيون المسلمون” هم “رجال مجانين” تحركهم دوافع سيكولوجية مريضة(8).
وهكذا، وبدلًا من رؤية الأسباب والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية التي تدفع هؤلاء المسلمين ليفعلوا ما يفعلون، يتمُّ وصمهم بالجنون، والحكم عليهم بأنهم يعانون من أمراض نفسية. وهو ما يذكِّر بتأويل برنارد لويس للدوافع التي تقف وراء ما يسميه “جذور السخط الإسلامي(9)، والحقد على الغرب، لأنه أكثر غنىً، وقوةً، وتطورًا، وحداثة، وتقدمًا علميًّا! ومن الواضح أن التأويلين السيكولوجيين، اللذين يمتحان من المعين الاستشراقي نفسه، يصبَّان في الغاية نفسها التي تستدعي التدخُّل، وضرورة نشر الديموقراطية عبر آلة الحرب.
في رده على ما كتبه برنارد لويس في مجلة نيويورك لمراجعات الكتب The New York Review of Books، مهاجمًا كتاب “الاستشراق”، يقول سعيد إن “دارسي الإسلام المبكرين، كما يبيِّن العديد من المؤرخين، كانوا ممن يحاجُّون بهدف صدِّ خطر جحافل المسلمين المتقدمة، وخوفًا من رِدَّة مجتمعاتهم نحو الإسلام. وبطريقة أو أخرى، فإن هذا المزيج من الخوف والعداء قد حافظ على قوته وحضوره إلى يومنا هذا، سواءٌ في العمل البحثيِّ، أو في شؤون الحياة الأخرى، حول الإسلام الذي يُنسَب إلى جزء من العالم، الشرق، الذي يجري وضعه، جغرافيّا وتاريخيّا وتخيُّليّا، في مقابل الغرب وأوروبا(10).

انطلاقًا من هذا التصور، فإن استمرارية حضور خطاب الاستشراق في الوعي الغربي المعاصر، وقدرته على إقامة علاقة وظيفية مع صناعة القرار السياسي، وحتى العسكري، في الغرب، وأميركا خاصة، يمكن ردُّها إلى المواجهة المستمرة التي يغذِّيها الحضور الأميركي، السياسي والعسكري، في الحياة العربية والإسلامية، وإلى الموقع والأهمية الاستراتيجيين اللذين يمثلهما العالمان العربي والإسلامي بالنسبة لأميركا والغرب. إن الإسلام ليس مجرَّد دين، بل هو جغرافيا تخيُّليَّة، بتعبير سعيد. وفي سياق سقوط الاتحاد السوفييتي، عام 1990، وانتصار الديموقراطية الليبرالية الغربية، أصبح الإسلام، مرة أخرى، عدوَّ الغرب الأول. لقد تمَّ إيجاد بديل للشيوعيَّة، من أجل تأكيد الثنائية نفسها: الغرب ـ الآخر، كنوعٍ من تظهير صورة الذات المتقدمة، العقلانية، التي تمثل الحضارة الإنسانية في أجلى مظاهرها، في مواجهة الآخر الذي يمثل نقيضَ ذلك كله. وكما يرى ضياء الدين ساردار، فإن “من غير المستغرب أن يعلن فرانسيس فوكوياما عن “موت التاريخ”…. لقد أصبحت مبادئ الرأسمالية الليبرالية الغربية الشريعةَ العقلانية الكونية الوحيدة. وإذ نتفحص العناصر الأساسية لهذا المنطق نجد أنه غير عقلاني ومضاد للتاريخ. وتتقبَّل ورقة صمويل هنتنغتون “صراع الحضارات”، القليلةُ الأهمية والذائعة الصيت في الوقت نفسه، انتصارَ التقدم الغربي. لكن هذا الانتصار لا يستنفِدُ، على كل حال، إمكانات الصراع، والنزاعات الممكنة في المستقبل بين الحضارات، وبين تلك الحضارات المعادية للغرب، في جوهرها، من جهة، والغرب من جهة أخرى. من السهل إذًا توقعُ المرشح المفضل لبدء هذا النزاع، أي “الإرهاب العالمي” الذي ينتظرنا في المستقبل. ولا بد أن تصريح هنتنغتون بأن الإسلام هو ذلك المرشح الذي بدأ يهزُّ الغرب لافت للانتباه(11).
وإذا كان الإسلام هو العدوُّ البديل للغرب، كما كان في مراحل صراع سابقة، مثل الحروب الصليبية، فإن من الضروري تبني تصورٍ للإسلام والعالم الإسلامي يضع الدينَ ومعتنقيه في مواجهة دموية مع الغرب. ورغم أننا لا نستطيع نفي التوتر الحاصل بين الإسلام والغرب، لأسباب سياسية وثقافية، وفي ما يتصل كذلك بمنظومات القيم لدى هذين القطبين الحضاريين، وبالهيمنة الغربية على العالمين العربي والإسلامي، ودعم الولايات المتحدة غير المحدود لإسرائيل (وهو الأمر الذي يتعاظم يومًا بعد يوم، وصولًا إلى منح إسرائيل صكَّ ملكية فلسطين كلها تقريبًا في ما يسمى “صفقة القرن”)، فإن خطاب الاستشراق الجديد يسود في أوساط المحافظين الجدد ومؤيدي إسرائيل في الغرب. وكما يقول سليم كربوعة، فإن هذا الخطاب قد اشتد عوده وأصبح أكثر قوة، بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وهو يستلهم أعمال كل من برنارد لويس، وصمويل هنتنغتون، ويرسم صورة للمسلمين المعاصرين، لا بوصفهم متأخرين وفي مرتبة أدنى فقط، بل بوصفهم يتسمون بالعنف، ويشكلون تهديدًا للعالم الغربي(12).
وينقل كربوعة عن جاكوبس، الذي يصف الباحثين المتخصصين في الدراسات الشرق أوسطية، ممن عاشوا في الولايات المتحدة، خلال القرن العشرين، بأنهم يشكلون شبكة من الخبراء العابرين للقوميات، ممن يتشاركون رؤية العالم، والاهتمامات والمخاوف المشتركة فيما يتعلق بالعالم الإسلامي. كما أن عملهم البحثي حول الشرق الأوسط ذو غايات تتصل بتوجيه صناعة القرار(13).
يعرف كربوعة الاستشراق الجديد في القرن الحادي والعشرين بأنه: “مجموعة من المعارف والأخبار والتحليلات، والتعليقات على الشؤون المعاصرة، التي تنتجها مجموعة واسعة من المثقفين، والخبراء، وصُنَّاع الرأي، وبدرجة أقل السياسيين، وتقوم بنشرها في الأوساط الغربية العامة التي تقيم علاقات خاصة ومؤثرة مع إسرائيل والصهيونية. وهو بهذا المعنى، ذو دوافع أيديولوجية(14). ويعيدنا هذا التعريف إلى صلات برنارد لويس الوثيقة مع المحافظين الجدد في إدارة جورج بوش الابن، وكذلك صلاته الحميمية مع ساسة إسرائيل على مدار عقود من الزمن(15). ثمَّة هذا البعدُ الإسرائيلي ـ الصهيوني في هذا النسل من المعارف الاستشراقية الجديدة، حتى إن هنالك عديد من الأكاديميين الذين يعملون في الجامعات الإسرائيلية، أو العاملين في وزارة الخارجية الإسرائيلية، أو رجال المخابرات الإسرائيليين، الذين يمكن أن نطلق عليهم وصف “المستشرق” بالمعنى الجديد الذي أشرنا إليه من قبل. وهو ما يلقي ضوءًا غامرًا على مثلث برمودا الذي يربط الاستشراق الجديد بصانع القرار في البيت الأبيض، في إدارة بوش، وكذلك إدارة دونالد ترامب، والعامل الإسرائيلي، في ما يتصل بالمنطقة العربية، عمومًا، والقضية الفلسطينية، بصورة خاصة. وإذا تذكرنا أن ما دفع إدوارد سعيد إلى كتابة “الاستشراق” هو رغبته في معرفة كيف استطاعت الصهيونية أن تجعل روايتها للصراع العربي ـ الإسرائيلي، والفلسطيني ـ الإسرائيلي، وتصويرها لعلاقة اليهود بفلسطين من جهة، والفلسطينيين بفلسطين، من جهة أخرى، جزءًا من الوعي الغربي المعاصر، فإن من السهل علينا فهم اهتمام إسرائيل، والصهيونية، بتوجيه شكل من أشكال الاستشراق يخدم معركتها في محو الفلسطينيين وإنهاء قضيتهم، عبر التأثير على صانع القرار الأميركي. فبتشويه صورة العرب والمسلمين، ومن ثمَّ الفلسطينيين، بتهمة الإرهاب، نعود مجددًا إلى صورة الفلسطينيين التي رسمها بعض الإعلام الأميركي، والغربي، للإرهابي الذي يرتدي كوفية مرقطة. وقد وصفت مجلة كومنتَري Commentary الصهيونية الأميركية إدوارد سعيد من قبل بأنه “فيلسوف الإرهاب”. فما أشبه الليلة بالبارحة.
إن الاستشراق في عهد ترَامب “يتحدث بلغة الصفقات، بل وأكثر من ذلك، بلغة القوة والقمع.” إنه “استشراق في أزمة، لا يسعى إلى المعرفة، بل إلى الانتقام؛ إنه قاسٍ وشرير تحركه الكراهية(16).

الهوامش:
(1) انظر: Edward W. Said, Orientalism, Western Conceptions of the Orient, Penguin Books, London, 1995, p. 3.
(2) المصدر السابق، ص: 322.
(3) انظر: Edward W. Said, Reflections on Exile and Other Essays, Harvard University Press, (Cambridge, Mass.), 2000, p. 586.
(4) المصدر السابق، ص 206.
(5) انظر: Michael Hirsh, Bernard Lewis Revisited, Washington Monthly, November, 2004.
(6) انظر: Mohammad Samiei, “New-Orientalism? The relationship between the West and Islam in Our globalized World”, Third World Quarterly, Vol. 31, No. 7, 2010, pp 1145–1160. Routledge.
(7) الإشارة إلى ما كتبته هلميتش في:
C Hellmich, ‘Creating the ideology of al Qaeda: from hypocrites to Salafi–Jihadists’, Studies in Conflict
& Terrorism, 31(2), 2008, pp 111–24.
(8) سميعي، المصدر السابق، ص 1149.
(9) انظر: فخري صالح، كراهية الإسلام: كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين، الدار العربية للعلوم – ناشرون، بيروت، 2016، ص: 25.
(10) انظر: Edward Said, “In Response to: The Question of Orientalism from the June 24, 1982 issue”, The New York Review of Books, (New York), August 12, 1982.
(11) ضياء الدين ساردار، الاستشراق: صورة الشرق في الآداب والمعارف الغربية، ترجمة: فخري صالح، كلمة، أبو ظبي، 2012، ص: 151.
(12) Salim Kerboua, “From Orientalism to neo-Orientalism:Early and contemporary constructions of Islam and the Muslim world”, Intellectual Discourse, 24:1 (2016) 7–34, IIUM Press.
(13) المصدر السابق، ص: 10. ويمكن مراجعة المصدر الذي يشير إليه كربوعة في:
Jacobs, M. F. (2011). Imagining the Middle East: The building of an American foreign policy. Chapel Hill: The University of North Carolina Press.
(14) المصدر السابق، ص: 22.
(15) انظر: فخري صالح، مصدر سابق، ص: 51.
(16) انظر: Adam Shatz, “Orientalism,” Then and Now, The New York Review of Books, May 20, 2019.

  • Social Links:

Leave a Reply