لا يتوجب أن يطول الزمن قبل أن يتضح أكثر، أو بمقادير كافية على الأقلّ، المحتوى الفعلي العملي لنوايا إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حول تخفيض، أو حتى وقف، دعم الولايات المتحدة للتحالف العسكري الذي تقوده السعودية في اليمن؛ تنفيذاً للخطّ الذي أعلنه بايدن بنفسه، في خطاب تعمّد أن يلقيه من مبنى وزارة الخارجية.
ولا يُساق تفصيل الحاجة إلى اتضاح المزيد من المحتويات الفعلية لسياسة بايدن إلا لأنّ الغموض يكتنف القليل الواضح حتى الساعة أيضاً، أي تقليص الدعم اللوجستي والاستخباراتي الأمريكي للتحالف السعودي، وإخضاع صفقات الأسلحة لطراز من «مراجعة» تفرز السلاح الهجومي عن ذاك الدفاعي. وهذه الحال، التي تقترب أكثر فأكثر من صيغة الـCatch-22 الأمريكية الشهيرة حيث الإطار العالق هو الظاهر وهو القاعدة أيضاً، لا تسري على مراقب أو محلل أو صحافي، فحسب؛ بل تشمل رجلاً مثل تيموثي لندركنغ، الذي عيّنه بايدن مؤخراً مبعوثاً خاصاً إلى اليمن: «لستُ في الصورة المفصلة»، يقول الرجل أمام لجان الكونغرس المعنية بشؤون السياسة الخارجية والدفاع، وينتظر مثل سواه من المنتظرين استكمال الحدود الدنيا من «المراجعة» إياها!
في الانتظار، حيث لا أحد سوى بايدن وحفنة من مستشاريه يعرف موعداً للإفصاح عن نتائج «المراجعة»، لا يخفي الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية أنّ صفقة مع الإمارات بقيمة 23 مليار دولار، تتضمن طائرات F-35 وطائرات مسيّرة مسلحة، سوف يتمّ الوفاء بها. فهل هذه أسلحة دفاعية حقاً، أم هجومية، أم في منزلة تجمع الغرضّين معاً؟ وهل الإمارات غير موجودة، حتى إشعار آخر، في قلب حروب اليمن وعلى جبهات الجنوب وعدن وسوقطرة؟ ألن ينضمّ المزيد من آلاف الضحايا المدنيين الأبرياء إلى مئات الآلاف ممّن سقطوا جراء تسليم أسلحة مماثلة إلى جيش منخرط، تماماً، في الحرب على اليمن؟
لن يعثر المرء على إجابات تصدر عن ناطق هنا باسم الخارجية الأمريكية، أو ناطق هناك باسم البنتاغون، فما بالك بالمبعوث الخاصّ المعيّن لتوّه؛ ليس، أغلب الظنّ، لأنّ الإجابات متعسرة أو معقدة أو غير متوفرة، بل بسبب من العكس تماماً: أنها شديدة الوضوح، ذاتية التأكيد، قديمة/ متجددة، أقرب إلى تحصيل الحاصل! هنالك صفقات اعترض عليها في الكونغرس ممثلو الحزب الديمقراطي بصفة خاصة، لكنّ الرئيس السابق دونالد ترامب وضع الفيتو الرئاسي على الاعتراض؛ وأمّا الرئيس الديمقراطي، الذي توجع ضميره مآسي اليمن، فقد أجاز بعض ما اعترض عليه أبناء حزبه الديمقراطيون، وسار في ركب سلفه الجمهوري؛ ولا جديد، في هذا السلوك، تحت شموس الإدارات الأمريكية المختلفة.
في الانتظار أيضاً، قبلئذ ودائماً، تتفاقم أكثر فأكثر أعداد «جيوب المجاعة» التي تحذّر منظمات الإغاثة الدولية من انتشارها في طول البلاد وعرضها، وتُستعاد مجدداً أشباح مجاعة 2018 التي جرى تفادي وقوعها بما يشبه معجزة عصية على التكرار، كما يقول العاملون على الأرض من ممثلي الهيئات الدولية، وكما يؤكد دافيد بيزلي المدير التنفيذي لـ»برنامج الأغذية العالمي». تقول مؤشرات البرنامج إنّ 24 مليون يمني بحاجة إلى مساعدات مختلفة، و20,1 مليون يواجهون الجوع، و16,2 مليون يعانون انعدام الأمن الغذائي، وتحتاج 1,2 مليون امرأة حامل و2,3 مليون طفل إلى علاج من سوء التغذية الحاد، ويتعرض 400 ألف طفل لخطر الوفاة بسبب نقص الغذاء…
وفي روايته، التي صدرت سنة 1961 بعنوان Catch-22، كرّس الأمريكي جوزيف هيللر عبارة مفتاحية استقرت في اللغة الإنكليزية كمعادل أقصى لمفارقة موقف لا مهرب منه ولا منفذ في آن معاً، بسبب من تضارب الحدود وتناقض الإرادات. وحتى تتضح قرارات إدارة بايدن بصدد اليمن، لجهة الفعل على الأرض وليس النوايا والتصريحات، تظلّ العبارة سارية منطبقة، وتظلّ الكارثة في اشتداد وعتوّ وفظاعة، وعلى منوالها تتواصل حال المفارقة الشاملة.
Social Links: