هكذا رئيس يستحق هكذا منافسين –  مالك داغستاني

هكذا رئيس يستحق هكذا منافسين – مالك داغستاني

رشّح “وحيد.م” جارنا في الحي، نفسه كمستقل لانتخابات الإدارة المحلية عام 1976. وحيد رجل بسيط يقود دراجته الهوائية صباح كل يوم للذهاب إلى عمله، كمستخدم في إحدى دوائر الدولة، ومساء يعود إلى بيته، وقد حمّل في “خُرج البسكليت” ما أوصته عليه زوجته وأمه من مستلزمات البيت. لم يأخذ أحد في الحي هذا الترشيح على محمل الجد، فالرجل طيب وبسيط جداً، ولا يمتلك أية مؤهلات لاحتلال هذا الموقع، بل وأكثر من ذلك تحوّلت حكاية الترشّح إلى طرفة انشغل بها رجال الحي تلك الأيام.

بعد تجربة انتخابات الإدارة المحلية الأولى عام 1972 والتي فازت بها قائمة “الأحرار” بكامل أسمائها في مدينة حمص، وهزمت قائمة الجبهة الوطنية التقدمية المتشكلة حديثاً، بدا أن المخابرات في الدورة التالية، لم تكن تريد تكرار التجربة، فتقرر فوز قائمة الجبهة بالتزكية دون انتخابات. طُلب من المرشحين المستقلين الانسحاب، فانسحبوا جميعاً باستثناء الجار “وحيد.م”. فما كان منه إلا أن اختفى من الحيّ، وسرت شائعة أن دوريات للأمن السياسي تبحث عنه، لتطلب منه الانسحاب. بعد أيام من البحث سيجدونه، وربما يكون هو من ذهب إليهم، ولكنه للمفاجأة، رفض الانسحاب، وكانت حجته أن الدعاية الانتخابية قد كلّفته الكثير من المال. كان وحيد طبع لنفسه نسخاً من صورة له بالأبيض والأسود، يظهر فيها وهو يضع ربطة عنق، وعنونها بشعاره الانتخابيّ “أعطِ العامل حقّه قبل أن يجفّ عرقه”، وألصقها بنفسه في حيّنا والحي المجاور، كما ألقى كلمة يشرح فيها برنامجه أمام باب فرن الحيّ، فصعد إلى المصطبة وخاطب جمهور المنتظرين على دور الفرن. في النهاية، بعد مفاوضات بدت لوحيد أن نتائجها عادلة، سحب الرجل ترشيحه، وقيل إن المخابرات السياسية عوّضته بمبلغ مجزٍ من المال، بمقاييس تلك الأيام، ربما بلغ الألف ليرة.

أحداث حكاية وحيد جرت في فترة ما قبل الثمانينات، حين كانت أجهزة مخابرات الأسد ما زالت تهتم بمراعاة بعض الشكليات. بعد عقود، وقد جرى في النهر السوري ماء الأسد الذي لا يشبه أي ماء، وانقلب كل شيء بشكل كارثيّ، في العام 2014، وعلى العكس من حالة وحيد.م، كان النظام/المخابرات يحتاج لمن يترشح لمنصب الرئاسة إضافة للأسد، بعد تعديل الدستور، الذي صار يقتضي إجراء انتخابات بدلاً من الاستفتاء على اسم واحد كما جرت العادة، هذا الواحد كان على الدوام هو “الأسد”، بل ويتصادف أن بشار الأسد وقبله أبوه لم يهزموا أو يفشلوا بالفوز في أي استفتاء منذ خمسة عقود. مرشحون للرئاسة؟ إنه الأمر الذي لم يكن أي سوري يتجرأ على مجرد التفكير فيه خلال عقود حكم الأسدين. مع ذلك، استطاعت المخابرات في تلك الدورة تأمين ترشيح 24 من معارفها، استوفى اثنان منهم، إضافة لبشار لأسد طبعاً، شروط الترشّح، بحسب المحكمة الدستورية العليا. حسان النوري عضو مجلس الشعب عن دمشق، وهو وزير دولة سابق لشؤون التنمية الإدارية، وماهر حجار عضو سابق في حزب الإرادة الشعبية الذي يقوده قدري جميل حليف موسكو، وعضو مجلس الشعب عن مدينة حلب. وهما وجهان معروفان إلى حدٍّ ما، أقله لدى المهتمين بالشأن العام. ومضت اللعبة بسلاسة.

تغيير الدستور عام 2012 على ركاكته، أجبر النظام على ألعاب جديدة لم يكن مضطراً لها قبلاً. كل الاستفتاءات السابقة كانت تسير بيسر وبدون أيّ جهد إخراجي. في مرّة واحدة احتاج النظام لهذا الجهد. عام 1991 تم تغيير موعد الاستفتاء الرئاسي من آذار 1992 إلى كانون أول 1991، وكان سؤال السوريين، لماذا؟ فانتخابات مبكّرة يمكن أن تحدث في بلدان أخرى، وهي جزء من الألعاب السياسية لترجيح فرص الفوز على الخصوم. ولكن في سوريا حيث لا خصوم، لماذا يتم تغيير موعد الانتخابات؟ في موسم الانتخابات، وقد نالت ذاك العام تكثيفاً إعلامياً خاصاً، اكتشف السوريون أن تغيير الموعد كان فقط لتغيير موعد موسم العطايا والمكرمات التي يمنحها الأسد للرعية في مثل تلك المواسم. فقد حصل موظفو الدولة على زيادة في الرواتب بلغت 500 ليرة، وتم الإفراج عن حوالي 3000 سجين سياسي، وهي سابقة تاريخية لم تحدث أبداً في حكم الأسد، وبذات الوقت انعقد مؤتمر مدريد المقرر منذ بداية العام، وكانت المرة الأولى التي يجلس فيها علناً، وفد سوري مع وفد إسرائيلي، وهذه كانت من المحرّمات، وتجاوزها يدعو للعار الوطني في وجدان السوريين، فاختلط حابل الفوز بنابل الجلوس وجهاً لوجه مع الإسرائيليين. في ذاك الاستفتاء الرئاسي فاز حافظ الأسد بنسبة 99.99 بالمئة. ستعتقدون هنا، أنني أورد النسبة التهكمية المعتادة التي يتداولها السوريون بمعرض السخرية؟ لا، إنها النسبة التي أعلنها النظام حقيقةً في حينه، مع اعترافه بأن 396 ورقة احتوت عدم الموافقة على اختيار الرئيس، وكانت هناك 753 ورقة باطلة.

في دورة عام 2014 وجدوا اسمين معروفين إلى حد ما، ارتضيا لنفسيهما هذا الدور الذي ينطوي على الكثير من الركاكة الشخصية والهزال الأخلاقي، لكن يبدو أنهم في هذه السنة، حتى الآن على الأقل، لم يحظوا بعد بمتطوعين معروفين قابلين للانخراط في المهزلة التي ستُشعِر أحفاد المرشحين بسوء المنبت. فأن نرى 21 مرشحاً، حتى لحظة كتابة هذه المادة، يمجّدون خصمهم الانتخابي، ويضعون صوره في مكاتبهم، فهذه سابقة في التاريخ، ولو شاء أعظم كتاب الأدب الساخر في العالم أن يُحيكها، لما تأتّى له إنجازها على هذا النحو. جارنا وحيد.م كان لديه من عزّة النفس والكرامة ما جعله يوزّع صورته، ولم يوزّع صور منافسيه.

ولكن، إذا كانت لعبة انتخابات رئاسة سوريا مكشوفة للجميع، إلى هذه الدرجة أو تلك. إذا لماذا يلعبونها؟ إنها “عُدَّة الشغل”. فبماذا سيجيب إعلاميو النظام ودبلوماسيوه، خلال السجالات في بعض المحافل حول شرعيّة الأسد، إن لم يكن لديهم ما يروونه عن انتخابات بين متنافسين؟ بل وبماذا سيجيب حتى أصدقاء الأسد من أمثال لافروف وزير الخارجية الروسي، حين يبرر دفاع بلاده عن الأسد؟ وأساساً، متى كان الهدف من أية انتخابات سورية غير ذلك؟

لا يحدث في دولة أخرى، بما فيها دول العالم الأكثر ثالثيةً، أن يتقدم لانتخابات موقع الرئاسة أناس بلا أي ماض في العمل العام، وبخاصة السياسي. وإن حدث هذا الأمر أحياناً، فسوف يكون خبراً صحفياً بارزاً، تشوبه الطرافة غالباً. والمفارقة الأكبر اليوم هو موقف عموم السوريين، فالموالون لا يهاجمون خصوم الأسد من المرشحين لهذه الانتخابات، والأدهى أنه حتى السوريون ممن يحلمون أن تخرج سوريا من الأسر الأسدي، لتعود للتاريخ والحركة، وللحياة الطبيعية، هؤلاء أيضاً يكتفون بالتندر، ولسان حالهم يشي بما يشبه الطرفة الشهيرة: “هكذا رئيس، يلزمه هكذا منافسين”.

  • Social Links:

Leave a Reply