يطيب لي أن أتجول داخل لهفة عاشق يتجه لشرب فنجان قهوته معها. ولكن القذائف غيرت طابع اللهفة، وكسرت فناجين القهوة، أو حطمت الصباح فبردت القهوة في الفناجين. أو حولت البلاد إلى مسرح للموت فغاب كل شيء سوى ملامح الجحيم. أثناء دوراني الراهن في الجحيم، يخطر لي أن ثمة ديون لا بد من سدادها قبل أن ندخل، بل لكي ندخل جميعاً ملكوت الحب والحرية الذي يليق بنا بصفتنا من أفراد الجنس البشري. سأعترف هذه المرة، وأعتذر دون أن أجلد نفسي، بل لعلي أتباهى باعتذاري معتبراً هذا جزءاً من سداد الدين. *** في مساء قديم، أنهيت جملي القليلة المنمقة والقاصرة عن طه حسين وعبد الناصر، وحصدت نظرات الإعجاب وعبارات المديح. كنت مراهقاً بائساً مغرماً بارتباط اسمي باسم الزعيم الأسمر الذي سطرت فيه ألقاب التمجيد مثل: رائد القومية العربية وبطل السلام العالمي، أو زعيم العرب. وغنى له كبار مطربي مصر، أغان من بينها:” يا جمال يا حبيب الملايين ماشيين في طريقك ماشيين …صحيت الشرق بحالو ..وديانو وجبالو.. وزرعت الأرض الخضرا أفكار ومباديء حرة” لعبد الحليم حافظ. وفي هذه الأغنية يقول العندليب الاسمر: “وبقينا شعوب حرة قوية”. هل حصل ذلك فعلاً يا حليمو؟. وعندما تنحى عبد الناصر بعد الهزيمة المرة عام 1967 سارعت إذاعة صوت العرب من القاهرة إلى بث أغنية السيدة أم كلثوم التي كانت جاهزة بتوقيع السنباطي، وهي تطالب القائد بالبقاء في موقعه قائلة: ابق فأنت الأمل الباقي.. أنت الخير وأنت النور.. أنت الناصر والمنصور ابق فأنت حبيب الشعب. (الأغنية موجودة على يو تيوب لمن يرغب). ولا أشك لثانية بأن البكباشي ناصر كان نجماً سياسياً، بل لا أشك بأنه كان يحمل مشروعاً قومياً، وأنه تمكن من تحقيق انتصار مهم عام 1956، بصرف النظر عن ملابسات ذلك الانتصار، وعن الحكايا المزورة التي صاغتها مخابرات مصر ودرسناها على أنها حقائق . كان في جعبة ناصر : مشروع وكاريزما وانتصار، الأمر الذي يتيح له أن يكون دكتاتوراً أنموذجياً إن أراد أو مؤسس دولة حديثة، يقدم لمصر ما قدم أتاتورك لتركيا. ولكن عبد الناصر لم يكن أتاتورك مصر المنتظر كما بيّن صديقنا محمد كامل الخطيب. وترتب على ذلك ما عرفناه ونعرفه حتى آخر نسخة من طابع نظام الحكم في مصر، وفي مختلف الوقائع السياسية والثقافية التي تؤكد حاجتنا لانهاض مشروع طه حسين واستكماله. ما أريد الاعتذار عنه اليوم هي تلك الفصحنة المبنية على الجهل حين قلت عن طه حسين متفذلكاً: “كل خلاق أعرج وخلقه عكازته! وأظن أني لطشت هذه الجملة من كتاب أو جريدة ما. كنت تافهاً وأنا أتحدث عنه بصفته كفيفاً ساعده الحظ والشفقة وزوجتُه الفرنسية وعبد الناصر ليكون ما هو عليه. (والحق أن عبد الناصر حطم مشروعه). كان موقفي مبنياً على جهلي، وإن كان يعزيني أني كنت مراهقاً فأي عزاء سيحصده كتاب ونقاد كبار طالبوا حتى بتصفية الرجل؟. استطرد لأقول أن الكثيرين من أبناء جيلي والأجيال السابقة واللاحقة كانوا “كراكوزات” يصفقون لجنرالات وأبناء جنرالات بلا كاريزما وبلا مشروع وبلا انتصارات، كل منهم ليس أكثر من مسخ دكتاتور،بل لقد صفقوا لمن ورث الحكم بل البلاد كما تورث الصناديق والجوارب وربطات العنق وطناجر النحاس. أعتذر اليوم لأني خطبت يوماً ود الأغلبية فصفقت ودهشت بلادراية للزعيم الأسمر واستصغرت بصلف الجاهل صاحب أهم مشروع تنويري، المشروع الذي نحاه الزعيم جانباً وتركه يغيب في واحدة من عتمات الدكتاتورية التي ابتكرها. لن أتحدث عن عداء الأزهر والحركة الدينية المصرية لطه حسين، وعن مباريات المشايخ بمن فيهم الرافعي وسيد قطب للنيل من “الكافر المتأورب”. فكلنا نعرف الدعوى الشهيرة التي حوكم طه حسين بموجبها بتهمة الافتئات على الدين الحنيف في كتابه في الشعر الجاهلي. بل سأتحدث عن دور السلطة الجديدة، سلطة ثورة 23 يوليو في قتل المشروع الذي تداعى المنورون العرب لإيقاظه واسترداده في أوائل تسعينيات القرن العشرين. ولكن ذلك الإيقاظ، وبسبب تجدد الدكتاتوريات واستشراسها أكثر فأكثر، لم يزد على أنه طرح قضية طه حسين، وقدم شهادة مهمة حول مشروعه، شارك فيها كبار مثقفي ومبدعي المشرق العربي ضمن كتاب أصدرته دار عيبال، ضمن سلسلة قضايا وشهادات التي توقفت هي الأخرى. *** في كتابه قصة ثورة 23 يوليو يذكر أحمد حمروش: في 17 كانون الثاني يناير 1953 أذيع بيان للقائد العام للقوات المسلحة يعلن فيه (حل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها لصالح الشعب بدلاً من أن تنفق في بذر بذور الفتنة والشقاق). وتوعد البيان بعدم السماح بعد اليوم بأي عبث أو إضرار بمصالح الوطن، وبالضرب بمنتهى الشدة على يد كل من يقف في طريق الأهداف التي صنعتها آلام الشعب الطويلة. رد طه حسين على هذا البيان الواضح بموقف لا لبس فيه، في مقال بعنوان “تحرير العقل” نشره في مجلة الكتّاب في كانون الثاني عام 1953، وفيه يقول:”فمصر لا تحتاج إلى شيء بمقدار ما تحتاج إلى أن تحرر عقول أبنائها، وهي إذا حررت عقول أبنائها بلغت كل ما تريد في فروع الحياة جميعاً…العقل الحر هو الذي لا يقبل أن يفرض السلطان السياسي عليه رأياً من الآراء ومذهباً من المذاهب، أو سيرة بعينها في التفكير والتعبير والعمل والنشاط. والعقل الحر هو الذي لا يقبل دكتاتورية مهما يكن لونها ومهما يكن غرضها ومهما يكن أسلوبها في الحكم “. في عام 1953 أغلقت مجلة الكتّاب إلى غير رجعة ودعا بعض مثقفي تلك الثورة ممن عملوا في مديح ميثاقها وجعلوا منه ملهماً ودليلاً إلى تصفية طه حسين وأقله تصفية فكره. حيث نشر وقتها د. عبد الحي دياب كتاباً بعنوان: الإقطاع الفكري وآثاره لينبه الدولة إلى ضرورة تصفية الإقطاع الفكري بعد تصفية الإقطاع الزراعي، معتبراً طه حسين أكبر رموزه. وفي مقدمة الكتاب يقول دياب: أن الأحزاب مباءة للفساد ولا يجد وصفاً للديمقراطية أفضل من وصف الميثاق لها فهي مضللة وملهاة مهينة. ويتذكر الجميع الشعار الشهير الذي تيبست في ظله الحياة السياسية: “من تحزب خان”. *** لم يكن غريباً أن يحارب حزب الوفد طه حسين ويمارس عليه أشد الضغوط بصفته من الدستوريين الأحرار، لكن الغريب هو مشاركة المثقفين التقدميين في تهميش طه حسين ومشروعه، فقد انصاع محمود أمين العالم الذي تغير موقفه بعد سنوات، وعبد العظيم أنيس للطروحات الجدانوفية العقيمة والتي ترافقت مع القحط في ميادين الأدب والنقد. لم يتردد العالم وأنيس في كتابهما (في الثقافة المصرية) في ازدراء كتاب طه حسين الصادر عام 1937 تحت عنوان (مستقبل الثقافة في مصر) بل والنظر إليه على أنه مجرد سطور غامضة وغائمة. مع أن الكتاب يقدم مشروعاً شديد الوضوح ، ويتناول فيه طه حسين: الثقافة والعلم بصفتهما أساس الحضارة والاستقلال. والاستقلال والحرية باعتبارهما وسيلة وسبباً من أسباب الترقي. ويتحدث في الكتاب بعقلانية وعلمانية لافتة عن المكونات التاريخية للثقافة، ووحدة العقل الإنساني، وخرافة روحية الشرق ومادية الغرب. ومسؤولية الدولة، والتلاحم العضوي والضروري بين الديمقراطية ومجانية التعليم، ويقدم رؤية تتكامل جوانبها عن التعليم في مختلف مراحله، دون أن يغفل معضلة التعليم الديني ودور الأزهر. ويفرد في كتابه صفحات بل فصولاً، تتناول دور العقل والإبداع والترجمة، ويشير إلى اغتراب الكاتب في بيئة تطغى عليها الأمية ويحكمها سلطان جائر، ولا ينسى طه حسين ما نسيه آخرون في تلك الأيام وهو أهمية حرية الرأي وأثر وسائل الاتصال والثقافة الجديدة المتمثلة بالراديو والسينما في تلك الأيام (لم يكن التلفزيون قد انتشر) على الأدب والإبداع. قدم طه حسين حينئذٍ أول وأهم مشروع ثقافي عربي متجانس ومتكامل. تجاهل العالم وأنيس المشروع بل مسخاه إلى أنه مجرد سطور مبهمة غائمة! وقد مثلا وقتها النسخة المصرية من الجدانوفية العاجزة عن تمثل التنوير الذي انطوى عليه مشروع طه حسين. دفعهما قصور الرؤية – ودفع معهما آخرين- إلى ماسموه الليبرالية الفاسدة. ولكن اتساع مجال رؤية طه حسين دفعه إلى الدفاع عن قيم تلك الليبرالية: كالحرية والديمقراطية والعقلانية، تلك القيم مثلت دفاعاً وحيداً عن الذين اعتقلهم عبد الناصر واستشهد بعضهم تحت التعذيب مثل شهدي عطية الشافعي في مصر وفرج الله الحلو في سورية، والتي لم تجد لها طبقة برجوازية وطنية مستنيرة ترفع من شأنها، لأن الضباط سارعوا إلى قطع الطريق عليها لصالح “القطط السمان” التي سنراها في سبعينيات القرن العشرين. في وقت لاحق تدارك محمود أمين العالم خطأه بحق طه حسين في مقال نشرته الهلال المصرية عام 1966، تحت عنوان “طه حسين .. مفكراً”، حيث كتب :(إن مجموعة كتبه التي صدرت بعد الحرب العالمية الثانية بوجه خاص إنما هي نموذج رائع للتعبير عن المشاركة الفعالة في الحياة الاجتماعية وصياغتها.) ثم تتالت دراسات محمود أمين العالم حول طه حسين. وتؤكد تلك الدراسات أنه لم يكن قد قرأ طه حسين عندما تناوله مع عبد العظيم أنيس بصلف واستخفاف. أتمنى أن أكون قد اعترفت واعتذرت من طه حسين، عما تحاليت به عام 1973 أمام مجموعة من المثقفين والمثقفات القوميين ونلت استحسانهم واستحسانهن، في ذلك العام كان شبح عبد الناصر لا يزال يتجول ليتمسح به حافظ الأسد ومعمر القذافي وهواري بو مدين ومحمد سياد بري وجعفر النميري، وبعدهم صدام حسين، وغيرهم ممن حافظوا على أن يبقى ورثة مشروع طه حسين في الظل أو في عتم السجون وشقاء المنافي. وأتمنى أن ننتصر لمشروع طه حسين ليشرب العشاق في مقبلات الأيام ما يريدون دون أن يكسر الرصاص الفناجين أو يحول الصباحات إلى شظايا ودون أن يغيّب السجن أحد العاشقين أو كلاهما.

Social Links: