حبيب عيسى
( 1 )
الدستور هو أبو القوانين ، ومرجعية دستوريتها ، وهو الذي يحدد مجال عمل السلطات والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وأي خلل في الدستور سواء في ديباجته ، أو في مادة من مواده سيؤدي إلى خلل ينخر في جميع مؤسسات المجتمع والدولة ، وبالتالي ، فأن الخلل في القضاء السوري بدأ من العوار الذي أصاب الدستور ، وتقويم الخلل بالتالي لا بد أن يبدأ من الدستور .
لذلك نبدأ بتقديم لمحة تاريخية عن التحولات الدستورية في سورية ، ولا نقول التطور الدستوري ، لأن ذلك التطور الدستوري الذي كان بمنحى تصاعدي من دستور 1920 وحتى دستور 1950 لم يتوقف ، وحسب ، عند دستور الخمسين ، وإنما أعقب ذلك سلسلة من الانتكاسات الدستورية عبر دساتير مؤقتة وانتهاء بدستور1973 المعدل بدستور 2012 .
لقد شهدت دولة سورية سلسلة من الدساتير المؤقتة والدائمة منها دساتير تمت صياغتها على عجل لمواجهة تحديات طارئة ، ومنها دساتير صاغها الانتداب الفرنسي وخضعت لتعديلات تحت الضغط الشعبي ومنها دساتير صاغها الانقلابيون العسكريون للتغطية على التفرد بالسلطة ، وربما يمكن استثناء دستور 1950 نسبياً الذي جاءت مواده محكمة دستورياً من ناحية الفصل بين السلطات ، والذي عطلته الانقلابات العسكرية المتلاحقة ولم يعتمد فعلياً إلا لمدة أربعة سنوات من عام 1954 وحتى عام 1958 ولفترات متقطعة بين 28 أيلول 1961 و8 آذار 1963 .
( 2 )
ويمكن التأريخ للمسيرة الدستورية في سورية مع انتهاء الحرب العالمية الأولى حيث انتهى الاحتلال العثماني وتم تشكيل أول حكومة وطنية في سورية في الأول من تشرين الأول : 1918 برئاسة علي رضا الركابي ، حيث ، وفي 8 آذار 1920 أعلن المؤتمر السوري العام دون التنسيق مع الحلفاء استقلال “دولة سورية” وتم إعلان قيام “المملكة السورية العربية” وتم إعلان “فيصل الأول” ملكًا عليها ، غير أن هذا الكيان لم يحظ بأي اعتراف دولي (1) ، ورغم ذلك فقد شكل المؤتمر السوري العام لجنة خاصة برئاسة هاشم الأتاسي مهمتها صياغة دستور المملكة الوليدة ، وبالفعل جاء دستور 1920 بإثني عشر فصلاً و147 مادة (2) .
أهم ما جاء في دستور 1920 : أن سوريا “ملكية مدنية نيابيّة”، عاصمتها دمشق وكفل الدستور المساواة بين جميع السوريين وحرية إنشاء الجمعيات والأحزاب والمشاركة في النشاط السياسي والاقتصادي وسلامة الأفراد وتجريم التعذيب والاعتقال التعسفي، كما نص على الحريّة الدينيّة ونشر المطبوعات ومنع النفي والعقاب دون محاكمة وحدّ من صلاحيات الملك بإلزام أي قرار يتخذه بتوقيع رئيس الوزراء والوزير المختص، وبيّن أن المؤتمر العام يتكوّن من غرفتين هما مجلس النواب المنتخب من قبل الشعب على درجتين ومجلس الشيوخ المنتخب من قبل مجلس النواب بمعدل ربع عدد أعضاء نواب المقاطعة الواحدة في مجلس النواب أما المحكمة الدستورية العليا فتتألف من 16 عضوًا نصفهم منتخبين من قبل مجلس الشيوخ والنصف الآخر من رؤساء محاكم التمييز ، ونشر هذا الدستور في 13 تموز من العام ذاته(3) ، ولم يعمّر ذلك الدستور طويلاً فقد تم تطبيقه لمدة 15 يومًا فقط، وفعليًا لم تطبق الكثير من مواده المتعلقة بغرفتي المؤتمر السوري العام والمحكمة الدستوروية العليا واللامركزية الإدارية بسبب تلاحق الأحداث التي بلغت ذروتها مع إنذار غورو، ومن ثم احتلال الفرنسييين دمشق في 25 تموز 1920 ثم نفي الملك فيصل في : 28 تموز 1920 حيث عطّل الاستعمار الفرنسي الذي جاء تحت أسم “انتداب” العمل بدستور 1920 ، وقسمّوا البلاد في 1 أيلول: 1920 إلى دويلات على أسس مذهبيّة ومناطقيّة .
( 3 )
ولم تتوقف خلال هذه الفترة المظاهرات والمطالبات بوحدة البلاد السوريّة واستقلالها وانتخاب جمعية تأسيسيّة لوضع دستور جديد للبلاد، فاستجاب المفوّض الفرنسي “هنري غورو” وأعلن في : 28 تموز 1922 “القانون الأساسي للاتحاد السوري”، بمثابة الدستور الاتحادي لمقاطعات دمشق وحلب واللاذقية(4) ، وفي 1 كانون الثاني : 1925 تم حل “الإتحاد السوري” ، وتم إعلان الوحدة بين دولتي دمشق وحلب فقط في حين استمرّ فصل السويداء واللاذقية، ودعيت تلك الوحدة “الدولة السورية” وأصدر المفوض الفرنسي الجديد “ماكسيم فيغان” قرارًا آخر اعتبر بمثابة القانون الأساسي للدولة، نصّ على أن عاصمة الدولة دمشق ، ولحلب الامتياز الإداري والمالي ، كما أفرد للمفوض الفرنسي حق التصديق على مقررات رئيس الدولة والوزراء(5) .
ثم في 21 تموز 1925 اندلعت “الثورة السورية الكبرى” وتم اختيار قيادتها في السويداء وكان على رأس مطالبها وحدة البلاد السورية وانتخاب جمعية تأسيسيّة لوضع دستور جديد ، وأدت الثورة أيضًا لاستقالة صبحي بركات وتعيين أحمد نامي رئيسًا للدولة السوريّة وفي عهده قمعت الثورة بالقوّة(6)، وتم التوصل لاتفاق عرف باسم “الداماد – دي جوفنيل” ، الذي نصّ على انتخاب جمعية تأسيسيّة لتحقيق الوحدة السوريّة ، وتحديد الانتداب عن طريق اتفاق صداقة يقرّه مجلسي فرنسا وسوريا التشريعيين لمدة ثلاثين عامًا، غير أن الفرنسيين ، وبعد قمع الثورة ، ماطلوا
في الدعوة لتنفيذ الاتفاق، واستقال أحمد نامي احتجاجًا وتم تكليف تاج الدين الحسيني برئاسة الدولة(7) .
( 4 )
في تلك الأجواء جرت انتخابات جمعية تأسيسيّة في نيسان 1928 انتخبت هاشم الأتاسي رئيسًا لها بالإجماع وفوزي الغزي وفتح الله آسيون نائبين للرئيس(8) ، وتكونت الجمعية التأسيسية من 68 عضوًا منتخبًا يمثلون دولتي دمشق وحلب وحدهما دون السويداء واللاذقية ، ثم انتخبت الجمعية لجنة وضع الدستور برئاسة إبراهيم هنانو ، حيث تم التصويت عليه وإقراره في 11 آب 1928 وقد جاء الدستور متوازنًا في الفصل بين السلطات، واعتبر سورية “جمهورية نيابية عاصمتها دمشق ودين رئيسها الإسلام”(9) وأن “البلاد السوريّة” المنفصلة عن الدولة العثمانية هي وحدة سياسيّة لا تتجزأ، ولا عبرة بكل تجزئة طرأت عليها بعد الحرب العالمية الأولى كما ضمن الدستور استقلال القضاء وحرية المواطنين ومساواتهم أمام القانون وفي الدولة ، وكفل الدستور حرية التعبير وغيرها من الحريات العامة، كما نص على احترام حقوق الطوائف السورية وكفل قوانين أحوالها الشخصية ومدارسها الخاصة ، وقد وجهت له انتقادات بكونه إعادة استنساخ لنظام الملل العثماني، فقد نصّ أيضًا على تمثيل الأقليات الدينية والعرقية بشكل عادل في البرلمان وسائر مؤسسات الدولة وهو ما مهد لكون قوانين الانتخابات السورية لحظت مقاعد لمختلف الطوائف والمكونات، في الانتخابات التي جرت في ظل هذا الدستور ، وبعد أن أقرّت الجمعيّة التأسيسيّة الدستور المكون من 115 مادة رفض “هنري بونسو” المفوض الفرنسي إصداره بحجة مخالفته صك الانتداب وحقوق الدولة المنتدبة .
( 5 )
أصدر “بونسو” قرارًا بتعطيل الجمعية التأسيسيّة، وشهدت البلاد في إثر ذلك مظاهرات واضطرابات أمنية حتى 14 أيار 1930 حين أقر “بونسو” الدستور بعد أن أضاف إليه المادة 116 التي تنصّ على “طي المواد التي تتعارض مع صك الانتداب حتى زواله” لم يهدأ الشارع، واعتبرت المادة مقيدة لحقوق الدولة السوريّة ، ثم تم أنهاء حكم الشيخ تاج الدين الحسيني في 16 تشرين الثاني 1931 وتشكلت حكومة مؤقتة برئاسة “سالومياك نائب بونسو” في دمشق مهمتها الإشراف على الانتخابات النيابية التي أعلنت نتائجها الرسميّة في 9 نيسان 1932 وانعقد أول مجلس نيابي في ظل النظام الجمهوري في 7 حزيران 1932 وانتخب صبحي بركات رئيسًا له ومحمد علي العابد رئيسًا للجمهورية(10)، وفي عام 1936 نظمت الانتخابات النيابية الثانية في ظل الدستور وأوصلت هاشم الأتاسي لسدّة الرئاسة، وفي عام 1939 استقال الأتاسي وعُطّل العمل بالدستور نتيجة نشوب الحرب العالمية الثانية حتى 1941 حين
أعيد العمل بالدستور غير أنه لم تجر انتخابات وعيّن تاج الدين الحسيني رئيسًا للجمهورية، ثم جرت الانتخابات عام 1943 وأفضت لفوز الكتلة الوطنية ووصول شكري القوتلي إلى الرئاسة، وفي عام 1947 عدّل الدستور بتحويل النظام الانتخابي من درجتين إلى درجة واحدة، وعدل مرة ثانية عام 1948 للسماح بانتخاب القوتلي لولاية ثانية مباشرة بعد ولايته الأولى، وفي 30 آذار 1949 انقلب حسني الزعيم عسكريًا على الحكم المدني برئاسة القوتلي وعلّق العمل بالدستور، وسرعان ما انقلب عليه سامي الحناوي في آب 1949 ونظمت انتخابات جمعية تأسيسيّة لوضع دستور جديد للبلاد.وفي اليوم الثاني لانقلاب سامي الحناوي تم تكليف الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي برئاسة الحكومة والتي وضعت على رأس أولوياتها القيام بانتخابات الجمعية التأسيسيّة لوضع الدستور الجديد للبلاد . وهكذا تم الإعداد لدستور 1950 فكيف كان ذلك …؟
( وللحديث صلة )
Social Links: