اعتاد نقاد الإسلام عموماً وعبر السنين ولربما القرون على وصمه بأنه دين انتشر بالقوة، وهذه المقولة ، على رغم صحتها ، إلا أنها تخفي في طياتها إشارة إلى أن غير الإسلام قد انتشر سلماً في أصقاع الأرض. وغير الإسلام هنا لايقصد به فقط الأديان الأخرى، وإنما أيضاً الحركات الأيديولوجية غير الدينية التي تربعت على مشهد التاريخ في المائتي سنة الماضيتين.
في الواقع لاتوجد حركة أيديولوجية كبرى في التاريخ لم تنتشر بالقوة !! وإذا كان لابد لنا من التخصيص فإن حركات كالبوذية والهندوسية والمسيحية والإسلام والشيوعية والفاشية كلها حركات بدأت أفكاراً محضة، بقوتها الذاتية تمكنت فقط من الولوج إلى صدور عدد قليل من الناس، إلى أن استقرت في ضمائرهم . لكن هذه الأفكار ماكان لها أن تشهد هذا الإنتشار الكبير لولا نشرها بالعنف والقوة بكافة مظاهرهما من مادية ومعنوية، والتي مثلتهما الدول والإمبراطوريات. وبالتالي مقولة انتشار الإسلام دون غيره بالقوة هي مقولة زائفة تكذبها الوقائع التاريخية العديدة التي سنناقشها فيما يلي.
فعندما بدأ بوذا دعوته في القرن الخامس قبل الميلاد لم يجد سوى بضعة أشخاص يتبنون دعوته ، وبعد وفاته انتشر مذهبه بشكل محدود جداً، فاقتصر بدايةً على الكهنة المأخوذين به، وظل الأمر على هذه الحال مدة قرنين من الزمن إلى أن تناهت هذه الدعوة الى ملك هندي كبير اسمه ” أشوكا ” الذي تبناها لاحقاً ووضع مقدرات دولته كلها تحت تصرفها. أرسل ” أشوكا ” المعلمين والكهنة الى كل البلاد ومدهم بأسباب القوة ، ورعت دولته انتشار البوذية في التيبت وشرق الهند وصولاً إلى الصين وغيرها. كان ” أشوكا “هو المؤسس الحقيقي للبوذية كأيديولوجيا كبرى في التاريخ ولولاه لكان البوذيون اليوم مجرد مجموعة هامشية في التاريخ من بضعة ملايين من الأتباع.
وبدورها كذلك المسيحية، التي بدأت فكرة حملها يسوع الناصري، فآمن بها واعتنقها قلة من الجمهور لكنها لم تظهر على مسرح الفعل العالمي إلا بعد تبني الإمبراطور الروماني ” قسطنيطين ” لها وإيمانه بها في عام 312 للميلاد، والذي من ثم أعلنها ديناً رسمياً للإمبراطورية. مذ بدأت المسيحية مع يسوع الناصري وحتى تبني الإمبراطور قسطنطين لها، لم تكن
المسيحية سوى حركة هامشية جداً، لها قليل من الأتباع المضطهدين والكهنة والرسل المأخوذين بها، و الذين أفنوا أعمارهم في خدمة انتشارها لكنها استحالت ظاهرة بشرية إلا مع تبني دولة – إمبراطورية لها وفرضها ديناً رسمياً للبلاط الروماني. فبعد العام 312 للميلاد بدأ الصعود التاريخي والحقيقي للمسيحية، فكثرَ أتباعها ومؤيديها ومؤمنيها، وكيف لا وهي قد باتت دين الإمبراطورية الرسمي ، حيث سُخرت مقدرات الدولة من عسكرية ورمزية لتنفيذ هذا الإنتشار.
أما الإسلام، والذي هو أكثر الأديان الموسومة بالعنف وبأنه انتشر بحد السيف لا بالقوة الذاتية للفكرة، فإنه بدوره لم ينتشر إلا مع تأسبيس الدولة. فقبل دولة المدينة المنورة، كان أتباع محمد بن عبدالله فئة هامشية في مكة والجزيرة العربية. وعلى الرغم من عمل هذه الفئة على نشر الإسلام في مجتمعهم ومحيطهم إلا أنهم فشلوا وبقوا مجموعة صغيرة مضطهدة وذلك لغياب عناصر القوة من إقتصادية وعسكرية ورمزية وخلاف ذلك.
مع نشأة الدولة الإسلامية في المدينة عام 622 م بدأ صعود الإسلام وانتشاره، فماقبل المدينة شئ ومابعدها شئ أخر. إذ أخذ الإسلام ينشر فكرته بين القبائل العربية متسلحاً بالقوة والهيبة … أي متسلحاً بالدولة.
إن هذا الكلام لايقتصر على الأديان، إذ لا ننسى أن الدين في النهاية هو أيديولوجيا بشكل أو بأخر، وبالتالي ماينطبق عليه ينطبق على سواه ممن تشملهم صفة الأيديولوجيا. فقبل العام 1917 لم يكن تأثير كارل ماركس وفريدريك أنجلز على العالم كما هو بعد 1917 والثورة البلشفية في روسيا التي وضعت دعائم دولة قوية ومهيمنة وطموحة.
قبل ثورة 1917، كانت الماركسية محدودة الإنتشار والتأثير ، وكان جل أتباعها هم من المثقفين في أوربا وأميركا، وكانت واحدة من عدة تيارات يسارية متنافسة. لكن بعد قيام دولة الإتحاد السوفياتي تحولت الماركسية إلى ظاهرة مؤثرة في حركة التاريخ أزاحت حتى منافيسيها الأقرب لها فكرياً كالفوضوية والإشتراكية الديمقراطية، فازداد الأتباع في كل أصقاع المعمورة ، وتأسست الأحزاب وقامت الثورات، وكل ذلك كان بدعم مباشر مادي ومعنوي من الإتحاد السوفياتي . كان الإتحاد السوفياتي بمثابة دولة المدينة المنورة بالنسبة لانتشار الإسلام ، مثلما كان أيضاً ” قسطنطين ” وامبراطوريته بالنسبة للمسيحية ، ومثلما كان أيضاً ” أشوكا ” بالنسبة للبوذية.
في كل تلك الحركات التاريخية المعتبرة كان للدولة الفضل الرئيسي في صيرورتها وانتشارها وحضورها الوازن على مسرح التاريخ. فبدون الدولة ماكان لكل تلك الحركات أن تنتشر في أصقاع الأرض أو أن تتجذر في نفوس وقلوب وعقول ثقافات شعوبه. والدولة هنا هي ذلك المارد القوي الذي يكفي وجوده ومايفرضه من هيبة على محيطه حتى يولّد رغبة في نفوس الناس للتماهي معه للشعور بالأمان الذي يؤمن توازناً روحياً من جهة ، والشعور بالإنتماء من جهة ثانية الذي يؤمن استقرراً نفسياً . ذاك أن الدولة عندما تكون مهيوبة الجانب فارضة نفسها على محيطها من خلال قوتها الرمزية والحضور الكاريزمي لقادتها، فهذا يكفيها كي تجلب لنفسها الأتباع والمريدين دون فرض ذلك بالقوة المباشرة.
قبل عقود ، كانت شخصية الرئيس الراحل حافظ الأسد والهيبة التي صنعها لسوريا كفيلةً كي تكون السبب في انضمام الكثيرين من موريتانيا واليمن وغيرهما إلى صفوف حزب البعث (أيديولوجيا الدولة السورية)، وكذلك الأمر بالنسبة للرئيس الراحل صدام حسين (عراق وبعث صدام حسين ) وقبل ذلك عبدالناصر، فما بالك وكل الدول التي تبنت إحدى تلك الحركات الفكرية المذكورة أعلاه قد مارست العنف ترغيباً أو ترهيباً كي تنشر أفكارها ودياناتها التي باتت هي الدولة والدولة هي.
طبعاً إن الكلام والإستنتاجات أعلاه ليست متطابقة في تفاصيلها بين تلك الحركات الدينية والأيديولوجية الكبرى ، فلكل حالة ولكل فكرة حيثياتها الخاصة وتفاصيلها التي لاتشبه تفاصيل الأخرى ، هذا بالإضافة الى اختلاف الزمان والمكان والثقافات الشعبية المستقبلة بين تلك الدول التي تبنت تلك الأفكار الدينية والوضعية. فالإستنتاج الثابت الوحيد هو ارتباط انتشار تلك الحركات الدينية والأيديولوجية بوجود دولة ما تتبناها وترعاها وتنشرها بقوتها، و ماعدا ذلك هي تفاصيل واختلافات وحيثيات خاصة تختلف من حركة فكرية إلى أخرى، ومن دولة الى أخرى، ومن زمان إلى أخر.
فالإسلام يتشابه مع الشيوعية في أن كل منهما قد أوجد دولته الخاصة به، في حين نجد أن البوذية والمسيحية لم يوجدا دولتيهما الخاصتين بهما، وإنما جرى تبنيهما من قبل دول قائمة. فبالنسبة للإسلام كانت الحاجة للدولة تنبع أساساً من أن للإسلام رسالة ابتدائية تتمثل بتوحيد عرب الجزيرة ونقلهم من حالة القبائل المتفككة المتصارعة الفقيرة إلى حالة الدولة الموحدة القوية والغنية التي تجعل للعرب مكاناً بين الأمم. لذلك نجد أن العنف ارتبط بالتأسيس الفكري للإسلام نتيجة ارتباطه بفكرة وتأسيس الدولة، بينما لانجد هذه الظاهرة في التأسيس الفكري للمسيحية مع يسوع الناصري إلا بشكل طفيف ، وذلك لأنه لم يكن للسيد المسيح دولة أساساً. إذ لو تسنى للمسيح أن يكون له دولة لكان ارتكب العنف، إذ لادولة بلا عنف. ومايدلل على ذلك أن دعوة الإسلام في سنينها الأولى في مكة لم تكن تتسم بالعنف ولم تكن تؤصل له فكرياً ، وذلك لأنها كانت دعوة بلا دولة. ويسجل التاريخ هنا مفارقة مذهلة، إذ أن محمد بن عبدالله وأتباعه في فترة اللادولة في مكة لم يسجلوا حالة عنف واحدة ضد أحد، في حين نجد ( وعلى عكس ما هو شائع) أن يسوع المسيح في فترة اللادولة ،كان قد مارس بعض مظاهر العنف في دعوته، والذي تجلى في تكسير الأصنام وضربه الناس بالسوط ساعة دخوله الهيكل كما يروي الإنجيل. على أن العنف الذي مارسته كل من المسيحية والإسلام كان مع تحولهما إلى دين الدولة ، الأولى بعد عام 312م والثانية بعد تأسيس دولة المدينة، مع فارق مهم هو أنه كون الإسلام مذ بدايته قد تسنى له بناء دولته الخاصة ، فإن العنف فيه امتزج بالتأصل الفكري له. بينما كون المسيحية لم توجد دولتها الخاصة وإنما جرى تبنيها من قبل دولة قائمة وبعد ثلاثة قرون من الزمن، فإن العنف لم يتأصل فيها فكرياً. وبالفعل نلاحظ وعبر التاريخ علاقة طردية بين وجود الدولة الدينية وانتشار الدين وكثرة أتباعه. هذه الحالة بدورها يؤكدها انتشار الشيوعية أيضاً بعد عام 1917 بعيد الثورة البلشفية في روسيا، ويؤكدها انتشار البوذية الكبير بعد ” أشوكا ” في القرن الثالث قبل الميلاد.
من المفيد القول أن هذا الكلام ينطبق أيضاً على المذاهب والتيارات ضمن نفس الدين أو نفس الحركة الأيدولوجية، إذ ماهو تفسير محدودية وجود التيارات التروتسكية في العالم وقلة أعضاءها وتأثيرها قياساً بالستالينية أو الماوية. فبعد الإنشقاق الرهيب في الإتحاد السوفياتي في عشرينيات القرن الماضي، سيطر التيار الستاليني على الدولة السوفياتية وبات هو مذهب الدولة العمالية الأولى في العالم، في حين باتت التروتسكية أيديولوجيا بلا دولة تحميها وترعاها وتنميها. هذا تماماً ماجعل كل الأحزاب الشيوعية الكبرى في العالم تصطف وراء المذهب الفائز في موسكو فهو الدولة والدولة هو، وهذا أيضاً ما أحال التروتسكية إلى جزر متناثرة من المريدين قليلو العدد والعدة.
في الإسلام، نجد دائماً أن المذهب الأكبر هو مذهب الدولة الرسمي (مذهب الخلفاء)، لذلك كان السنة دائماً اكثر عدداً وأكثر حضوراً من الشيعة باستثناء الشيعة الإسماعيلية، الذين استطاعوا بناء دولة هي الدولة الفاطمية، والذين سرعان ماتراجع حضورهم بغياب الدولة الفاطمية. وفي أيامنا المعاصرة لايمكن فصل ازدياد حضور أتباع المذهب الشيعي في المنطقة دون النظر إلى الدولة الإيرانية على اعتبار أنها دولة المذهب وحاميته وراعيته.
كذلك الأمر نجده في المسيحية ، إذ أن الإصلاح الديني في القرن السادس عشر ما كان له أن يتمتع بهذا التأثير الكبير والإنتشار دون تبني الإمارات الألمانية له بدايةً، ودون تبني التاج الإنكليزي له بشكل خاص ورئيسي. ذاك أن قدرات مارتن لوثر الخطابية والقوة الذاتية لدعوته لاتكفيان لتحقيق هذا الإنتشار والحضور والتأثير. من هنا نلاحظ أنه لطالما ارتبط الإصلاح الديني (البروتستانتي) في أذهان العامة بإنكلترا أكثر من غيرها على الرغم من أنها لم تكن مهد هذا الإصلاح. ذاك أن تبني هنري الثامن لهذا الإصلاح ، وهو الملك القوي المعتبر ملك انكلترا الدولة القوية، وتحديه لسلطة بابا روما ، قد جعل من البروتستانتية فكرة قابلة للحياة وللدفاع عن وجودها وتواجدها وانتشارها.
نخلص للقول بأن الفكرة مهما كانت قوية بذاتها، محقة في قضيتها، فإنها تستعصي ظاهرةً في التاريخ ولاعباً كبيراً ورئيسياً على مسرحه دون وجود دولة ترعاها وتأخذ بها. فالعلاقة بين أن تكون الفكرة ، أوالمذهب الأيديولوجي، ذات انتشار هي علاقة طردية تتناسب و صعود وقوة الدولة التي تتبنا هذه الفكرة أو تلك الأيديولوجيا. فالإنتشار الكبير والتوسعي لا يحدث لقوة ما ذاتية في الفكرة.
من الجدير الإشارة أخيراً، إلى أن فاعلية هذه الإستنتاجات قليلة في زمننا المعاصر قياساً بالعصور السابقة. على أنه يمكن الأخذ بها لتفسير ظواهر فكرية هي أقل صلابةً من الأيدولوجيا والدين، كحال المُثل التي تتبناها مثلاً الولايات المتحدة والدول الغربية وتعمل على ترويجها.
* هذا المقال مهدى إلى روح أستاذي الدكتور سمير اسماعيل ، عميد كلية العلوم السياسية بجامعة دمشق، والذي تحل ذكرى وفاته الثالثة في أيلول المقبل.
Social Links: