المصادر الكبرى للتمرد على الديمقراطية – فالح عبد الجبار

المصادر الكبرى للتمرد على الديمقراطية – فالح عبد الجبار

 

تكشفت المجتمعات الصناعية الحديثة الولادة عن ثلاث مشاكل رئيسية: أولا، التوزيع غير العادل للثروة في المجتمع مشفوعا بتصدعات وانقسامات اجتماعية حادة؛ وثانيا، علاقات مختلّة آو غير متوازنة بين الدول القومية يفرزها إلى رابحين وخاسرين، وثالثا، التوسع الامبراطوري، اي نشوء المستعمرات (الكولونيالية)، التي اذكت النزعات القومية الكارهة للأجانب.

وسنناقش ادناه هذه المظاهر بالتتابع.

أكدت الليبرالية الكلاسيكية على الحريات الاقتصادية والسياسية الفردية- بوجه الدولة الأوتوقراطية التدخلية (زمن الإقطاع). وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان المفكرون

الاقتصاديون الليبراليون، مثل آدم سميث، او الفيزيوقراطيين الفرنسيين، يدعون إلى حرية التجارة والاقتصاد، لكنهم لم يدافعوا عن حرية التجارة فحسب، بل دعوا أيضأ إلى حكومة الحد الأدنى. وقد وضع سميث حجم الحكومة تحت رحمة قوانين العرض والطلب. ومنذ مطلعي القرنين السابع عشر والثامن عشر، راح المفكرون السياسيون الليبراليون يشددون على حقوق الإنسان الجوهرية (مثال ذلك فلاسفة العقد الاجتماعي)، ويشددون على كوابح وتوازنات لمنع الحكم الأوتوقراطي (حكم الفرد الواحد). إن أطروحات جون لوك في الحكم لا تزال تمثل المبادئ الأساسية للحكم الديمقراطي: الحكم بالرضى وحكم الأكثرية، أما تقسيم السلطات والمؤسسات الوسيطة التي بحثها مونتسيكو فإنها تؤلف المكونات البنيوية للحكم الديمقراطي.

أدى تقدم الليبرالية إلى منح حق الانتخاب للطبقات المالكة أول الأمر، بينما أفقر التقدم الصناعي طبقات الفلاحين والحرفيين. وبالتوافق مع الفكر الليبرالي ولكن أيضا على الضد منه، وسعت المدارس الجماعية (الاشتراكية) الكلاسيكية في القرن التاسع عشر على نحو راديكالي (وربما قبل الأوان)، المبدأ الليبرالي في الحرية السياسية والمساواة ونقلته إلى المجال الاقتصادي، مؤكدة تعايش وتصارع الأضداد بين الفرد

والجماعة أو بين المصلحتين الخاصة والعامة. كما هاجمت الجماعية القاعدة الاجتماعية الضيقة لديمقراطية القرن التاسع عشر، التي استبعدت الطبقة الرابعة، من الفئات الحضرية وغير المالكة كما استبعدت النساء عن المشاركة السياسية. كانت المدارس الديمقراطية مهتمة بتوزيع السلطة السياسية وتنظيمها. أما المدارس الجماعية فكان اهتمامها ينصب على توزيع السلطة الاقتصادية (الثروة). وكانت علاقات السلطة السياسية قائمة على توزيع الثروة الاجتماعية بحيث أن حكم الأغلبية والحكم بالرضى فقد معناه لصالح المتحكمين بالثروة. سعت المدرسة الجماعية إلى علاج راديكالي طوباوي: إلغاء الملكية الخاصة والدولة، بالمعنى الماركسي أو الفوضوي. وحين نسترجع هذا التاريخ نرى آن نقد المدرسة الجماعية للرأسمالية في القرن التاسع عشر وتمردها ضدها في القرن العشرين (الثورة الروسية في 1917) قد أجبر الليبرالية الصناعية على تعديل بعض قواعدها مثل إقامة نظام الضمان الاجتماعي (ما يسمى: دولة الرفاه) وتدخل الدولة في

الاقتصاد كما حصل ايام الرئيس الأميركي روزفلت صاحب “الصفقة الجديدة”، وذلك قبل أن تنظم الكينزية (نسة للاقتصادي الإنكليزي كينز 1882 – 1946) وتشرّع الحرب فيما بعد درجة من الحماية والتدخل الحكومي المنظم على النطاقين الوطني والعالمي. إن مبتكرات (كينز) وهي البنك الدولي (WB) وصندوق النقد الدولي (IMF)، لاتزال معنا حتى هذا اليوم. كذلك حال نظام الضمان الاجتماعي (دولة الرفاه) وحق الاقتراع الشامل وحكم القانون.

هناك تيار آخر مناوئ للديمقراطية جاء من مصدر آخر. انه الاشتراكية القومية الدَوْلَتيّهْ في القرن العشرين، المتمثلة في النازية والفاشية ذات الطابع العنصري القومي العدواني التي كشفت بضراوة عن مظهر محتدم في العصر الصناعي الليبرالي: إن النظام العالمي المؤلف من دول قومية يرتكز على توازنات قوى مختلة، حافلة بالتنافس الاقتصادي الشرس والتنافس السياسي والحروب التجارية. وسبب ذلك ان العصر الصناعي

مستحيل من دون وجود أسواق دولية وتجارة عالمية. وهو نمط عالمي واقع في شرك الحاجة الماسة إلى وحدات قومية باعتبارها وسائل فاعلة للتنظيم والتحكم. ولكن العلاقات بين الدول كانت أبعد ما تكون عن

الديمقراطية وعبر الكثير من التاريخ الحديث، لا يكاد يكون ممكنا أن توصف هذه العلاقات الدولية بأنها ديمقراطية. ولعل هناك الآن الكثير من القيود والتوازنات التي تقلل من التصادمات في العلاقات الدولية، لكن هذه كانت غائبة على نحو مروع في مستهل القرن العشرين.

كانت هذه مفارقة، وهي لا تزال قائمة إلى حد ما. لقد عمم العصر الصناعي نظام الدولة – الأمة باعتبارها كيانات سياسية قابلة للديمومة الاقتصادية. ولكن العصر الصناعي لم يكن ولم يستطع ان يوفر الشروط اللازمة للسير الهادئ لهذا النظام. كانت بعض الأمم أقوى وأكثر تقدما من الأخرى؛ وليست هناك سوى دول قليلة تسيطر على الأسواق العالمية ومصادر المواد الأولية، كي تلبي حاجات الإنتاج الرأسمالي المتوسع باطراد. ان ولادة ضرورة الدولة – الأمة أطلق النزعة القومية ووضع في خدمتها أنظمة الاتصال الهائلة للتعبئة في المدينة وحتى التعبئة في الريف. كانت الأمم المهزومة (مثل المانيا) او الدول المقصّاة (مثل إيطاليا) في الحرب العالمية الأولى قد عملت سريعأ على الانتقام. لقد شكّلت

فكرة “المجال الحيوي” الألمانية أو سعي إيطاليا إلى استعادة مجد الامبراطورية الرومانية حافزين لاندلاع الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة اكثر من 50 مليون إنسان.

إن هذا النمونج (الألماني والإيطالي) من النزعة القومية المتطرفة هو في جانب منه احتجاج ضد اللامساواة في النظام العالمي للدول القومية كما انتجته المرحلة الصناعية المبكرة. وكان ذلك أيضا تمردا نخبويا ضد نقاط ضعف النظام السياسي الليبرالي، الذي كان، من وجهة نظر خصومه من انصار أولوية الدولة -الأمة، قد أضعف إرادة الأمة، وسمح لفئات الطبقة المؤيدة للجماعية بأن تمزق الوحدة الوطنية. ان الازدراء الذي نظر به (بنيتو موسوليني) و (أدولف هتلر) إلى “الأرقام المحضة للدهماء” يشير إلى مقدار نفورهما من الحكم الليبرالي او من الصراع الطبقي للمدرسة الجماعية.

أخيرا هناك ميدان آخر للصراع الذي نتج عن قيام العصر الصناعي الليبرالي وهو الكولونياليه: إن مبدأ قيام الأمم، المبني على أساس اللغة والدين أو الإرادة السياسية الجماعية، قد أطلق العواطف القومية والحركات الاجتماعية بين الكثير من الجماعات المرشحة لأن تؤلف أمة بذاتها، ضد الامبراطوريات الأوتوقراطية

القديمة المتعددة القوميات (مثل الامبراطورية |لعثمانية) او ضد الحكم الكولونيالي في العالم. لقد بدأ هذا التوجه في المستعمرات خلال القرن التاسع عشر، ولكنه لم يتطور كليأ قبل حلول القرن العشرين.

توجد في العالم اليوم نحو 8000 مجموعة لغوية وهذا يعني ان ثمة 8000 كيان قومي يمكن ان ينشأ نظريا؛ على ان لدينا اقل من 200 دولة، ولا نكاد نجد دزينة من الدول ممن تدعي التجانس الاثني – العرقي” او “القومي” (رغم ان الأسد في سوريا يصر على اضافة دولة متجانسة الى القائمة) لا بد من التذكير أن القرن العشرين قد دشن سياسة ما بعد الحرب العالمية الأولى بتعميم مبدأ الأمم، او مبدا القوميات: وهو حق تقرير المصير.

مثال ذلك أن الرئيس الأمريكي (وودرو ويلسون) والرئيس السوفييتي حينها (فلاديمير إلتش لينين)، تبنيا هذا المبدأ من وجهتي نظر متناقضتين، الأول نحو دعم الديمقراطية الليبرالية والآخر نحو تعزيز الثورة الجماعية باعتبارها صيغة من الديمقراطية الاجتماعية.

لم تكن حروب المستعمرات جديدة. كانت الحرب الأمريكية من اجل الاستقلال او النضالات الأمريكية اللاتينية من اجل الاستقلال في القرن التاسع عشر قد سبقت منذ وقت طويل الموجات الآسيوية والأفريقية في الثورة ضد الكولونيالية٠ لكن العالم بات أكثر تعقيدا. إن النزاعات العرقية والدينية تطوق العالم

الثالث الآن. واوروبا نفسها لم تكن بمنأى عن الأزمة. ذلك ان يوغسلافيا السابقة والاتحاد السوفييتي السابق تفككا إلى مكوناتهما القومية مؤخرا ليس إلا. غير أن “الامم” الجديدة التي تشكلت في اغلب دول العالم الثالث فاقدة للحيوية الاقتصادية والنضوج المؤسساتي والتكوينات الاجتماعية – الاقتصادية (اي الطبقات الفاعلة) او

القيم الثقافية الضرورية للحكم المستقر ناهيك عن الحكم الديمقراطي.

تفكير جديد

إن المشاكل الأساسية التي اطلقت هذه الاتجاهات والميول الثلاثة المناهضة لليبرالية خلال القرن العشرين لاتزال تعيش معنا إلى حد ما : وهي تضاد المصلحة الخاصة للفرد مقابل المصلحة العامة للجماعة، وتضاد الفرد مقابل الدولة، وتضاد الأمة مقابل الأمة، وتضاد الأمة مقابل العالم. وحتى يومنا هذا فإن ثمة من يفضل مثال دولة الرفاه (الخدمات الاجتماعية) ودولة التنمية على دولة الحريات اي الدولة الديمقراطية، كما ان هناك من يضع الأولوية للأهداف القومية على بناء الديمقراطية كما هو الحال في الكثير من بلدان الشرق الأوسط.

ترى هل اقترب العالم من معالجة تلك المشاكل الني أشعلت الكثير من الحروب والنزاعات الأهلية والتطهير ١لعرقي وبقية الكوارث التي قد تصنع الأمم او تحطمها؟ ثمة ألوان عدة من الكتابات النقدية تفيد ان العالم يعاني من مشاكل اساسية عدة هي: أولا، تعزيز الديمقراطية حيث البنى السياسية هشة، تسلطية أو غير ليبرالية (اي الدعوة إلى إصلاح سياسي)؛ ثانيا، تطوير اقتصاديات سوق مدعمة بشبكات ضمان اجتماعي لتخفيف الفقر (إصلاح اقتصادي)؛ ثالثأ، التحرك إلى الأمام نحو قيام حكومة عالمية لتجاوز فوضى العولمة. وهذه الدعوات والمظاهر متداخلة. إن العالم يكبر ويصغر في الوقت نفسه. إنه يصغر لأن العولمة قد ضغطت

السلسلة الكاملة للكيانات القومية في وحدة منفردة من التحليلات: العالم.

وهو يكبر لأن العولمة تستمر في زيادة عدد الوحدات القومية وتعزز التجمعات العرقية وحتى الهويات الاجتماعية لأصغر من ذلك.

إن الموجة الجديدة لبناء الديمقراطية في تسعينيات القرن الماضي، المشار إليها من قبل، قد خلقت نقطة بداية مفيدة من اجل دفع هذه الجوانب المتعارضة إلى نوع من الوفاق. ولعل توسيع وتعزيز الديمقراطية توفر قاعدة نحو الحل السلمي للنزاعات. إن الديمقراطية لم تمنع الحرب بين الأمم، لكنها اوقفت الحروب بين الديمقراطيات. إن انتشار الأسواق الموحدة القائمة على قواعد قانونية تقدم مثل هذه الفرصة. ولكن الأسواق الحرة تماما ليست هي البداية. إن شبكات الضمان الاجتماعي، التي يهاجمها الآن بعض الليبراليين الجدد، ضرورية ولا يجوز استبعادها.

لقد أنتح التوسع السريع في نماذج واجراءات الديمقراطية في عالم ما بعد الحرب الباردة غزارة في الأدب المكتوب حول الديمقراطية وبناء الديمقراطية. إن النقاش حول التنميط السياسي قبل التسعينيات كان يركز على الاختلافات بين الأنظمة التسلطية والعسكرية والسلطانية والشمولية. أما الآن فإن السجال ينحصر

كليا تقريبا حول أنواع الأنظمة الديمقراطية.

ويعرض (ديفيد هيلد) في كتابه (نماذج الديمقراطية- David Held, Models of Democracy) على سبيل المثال تسعة أنماط من الديمقراطية يتفرع بعضها إلى أجناس فرعية، وهي عموما قائمة طويلة بما يثير الدهشة وقابلة للتوسيع : الديمقراطية الناشئة (أي الجديدة والضعيفة) والديمقراطية الانتخابية والديمقراطية اللاليبرالية، والديمقراطية النخبوية وما إلى ذلك.

ثمة كثرة من الكتابات تركز على ماهية الديمقراطية من عدمها. لكن من المؤكد أن تنوع الإجراءات والترتيبات الديمقراطية يحتم علينا تعريف وتشذيب فهمنا لماهية الديمقراطية وكيفية عملها. وقد ابتكرت المؤسسة الأمريكية للديمقراطية سلسلة من المعايير لتحديد البلد الذي هو حر سياسيا او حر جزئيا او ليس حرا. إن النقاش الآن هو ضمن الديمقراطية، وإن الغزارة في الأدب الذي يركز على الديمقراطية لا يقارن الا بالغزارة المشابهة حول نظام العولمة ومذاهب العولمة. وهذه علامة صحية. إن الدعوات لبناء حكومة كونية او تنظيم أسواق كونية او علاقات دولية تمس بعدا جوهريا من ابعاد التحول الديمقراطي وإن طبيعة

العلاقات بين امة واخرى، لا تزال تحمل الكثير من سمات الماضي الاستقطابي التصادمي، وليس سمات عالم ديمقراطي او بانٍ للديمقراطية. ويبدو أننا ننسى ان المصطلح الإنكليزي “International ” اهو في الحقيقة

مكون من مقطعين الأول “inter” ويعني (ما بين)، والثاني ” national ” اي (قومي). وعليه فإن هذا

المصطلح يشير إلى ان لدينا عالما مبنيا من دول قومية؛ وأن الديمقراطية ضمن كل واحدة منها مشروطة بعوامل تقع داخل هذه الوحدة، وعوامل اخرى تقع خارجها. وينبغي ان نفهم دعوة (اتزيوني) “Emitai Etzioni, From Empire to Community ” حيث يطرح المقاربات الجديدة للعلاقات الدولية وكيفية

قيام شكل معين من الحكومة العالمية على هذا الأساس، وكذلك النقاشات عن تأثير العولمة على الدولة – الأمة. هذان المظهران من العالم الحديث معروفان جيدا منذ القرن الثامن عشر. لقد درس (عمانوئيل كانط) الفيلسوف الألماني في بحثه “انحو سلام دائم” منطلق الحرب والسلام بطريقتين: كونه نتيجة للمنافسة الشرسة بين دولتين قوميتين أو أكثر، وكونه خيارات ديمقراطية للشعوب القاطنة في وحدة قومية، اي الرعايا الذين يذهبون إلى الحرب ويتحملون أعباءها الدموية. إن الدول عند (كانط) تبدو أشبه ب (توم سوير) للروائي (مارك توين): صبي عاق سيئ السلوك. ومثل هؤلاء الصبيان بحاجة الى ضبط، وزجر او حبس ان اقتضت الحاجة. اقترح (كانط) انشاء هيئة عامة للضبط سماها: عصبة للأمم، أي مؤسسة عالمية لمراقبة الحرب والسلام، واستغرقت البشرية أكثر من قرن كي تصل الى هذا المثال. وقد تداعت عصبة الأمم الأولى بعد الغزو الايطالي لأثيوبيا عام 1936 ولا تزال الأمم المتحدة التي تشكلت في اتفاق (سان فرانسيسكو) عام 1945 حاضرة حتى اليوم، على الرغم من تعطلها في أيام الحرب الباردة. ان نظاما ديمقراطيا كونيا يتطلب وجود حكومة عالمية، ولا يزال علينا انتظار تحولات ديمقراطية في الصين وكوريا الشمالية والشرق الأوسط. اما الجانب الآخر الذي ناقشه (كانط) فهو المظهر الداخلي للدولة -الأمة، أي المسؤولية والاختيار في الأمم نفسها. لقد أكد ان لاختيار الحر سيحدّ من فرص الحرب. ومهما تبدو هذه الفكرة مثالية، فان فيها شيئا من الحقيقة. هذان الجانيان يتمم أحدهما الآخر دون فكاك.

  • Social Links:

Leave a Reply