يحاجج لينين في مقاله الشهير (هل يحتفظ البلاشفة بالسلطة؟) بأن المرتعبين من التغير عادة ما يسلمون بالثورة … نعم، ولكن شرط ألا تسفر عن وضع معقد للغاية. ولكن هل يمكن أن توجد ثورة كهذه؟ والحلم بمثل هذه الثورة لا ينطوي إلا على شكاوى نشأت في بيئة اجتماعية تفضل العيش مع القديم وترتعب من الجديد. فالثورة، وإن بدأت في وضع قليل التعقيد في الظاهر، تسفر على الدوام، خلال تطورها، عن وضع معقد للغاية. ذلك لأن الثورة الحقيقية، العميقة، الشعبية، على حد تعبير كارل ماركس، هي عملية معقدة ومؤلمة إلى أقصى حد، عملية ولادة قيصرية، حياة جديدة لعشرات الملايين من البشر. وقد لا تكون هذه الحياة الجديدة أفضل من سابقتها القديمة لأن السيرورة التاريخية تفيد بأنه يصعب التنبؤ بنتائج الثورة العارمة، وقد تسير بالمجتمع “خطوتان إلى الوراء وخطوة إلى الأمام” لأن الثورة إنما هي كفاح جامح ضار، وما من ثورة في التاريخ تجنبت الحرب الأهلية، وليس غير الرجال المعلبين الخارجين لتوهم من معطف “الرجل المعلب” بطل قصة انطون تشيخوف – هذا النموذج التافه والذي يخشى كل تجديد وكل مبادرة – من يمكنهم أن يتصوروا الثورة الاجتماعية دون وضع معقد. ودون وضع معقد للغاية لن تقوم أيضاً أية ثورة. فمن يخش الذئاب لا يذهب إلى الغاب. وحجتهم لا تنطوي على أية فكرة لا اقتصادية ولا سياسية ولا أية فكرة من نوع آخر على وجه العموم. إنما تنطوي فقط على شكاوى أولئك الذين تملأ الثورة قلوبهم بالأسى والرعب.
أعرف مهندساً غنياً كان فيما مضى ثورياً بل رفيقاً في الحزب الشيوعي. أما اليوم فهو يرتجف خوفاً، ويتململ ضغينة من هؤلاء العوام الغوغاء “أصحابُ الشَّحاطات” الثائرين المتمردين الذين هبوا لاقتحام أبواب السماء كأهل “كومونة باريس” ولا يمكن كبح جماحهم. فهو يقول – والرجل مثقف زار عدة بلدان أجنبية – لو أن هؤلاء الثوار من أهل الريف والأحياء الفقيرة في المدن كانوا أكثر تحضرًا، أكثر تنظيماً، أكثر دراية بما يفعلون. لو كانوا أصحاب برامج واضحة لثورتهم. لو أن ثورتهم كانت أقل همجية، مع إني أوافق معهم على حتمية الثورة الاجتماعية بوجه عام، ولكن عندنا، هذه ليست ثورة، بل هاوية، ومن العار أن أُشارك فيها، لا استطيع ذلك. وها هو يهرب ويترك الرعاع تقود الثورة.
قد يكون صاحبنا المهندس مستعداً لقبول الثورة الاجتماعية لهؤلاء الرعاع الغوغاء, والمشاركة فيها، لو أن التاريخ يوصل إليها بهدوء ونعومة، وملاسة ورقة، مثلما يصل قطار سريع حديث إلى المحطة. وإذا رقيب المحطة يفتح باب العربة بكل رزانة ورصانة، ويهتف قائلاً: محطة الثورة الاجتماعية لينزل الجميع.
لقد شَهِدَ هذا الرجل تمردات واضطرابات متعددة وهو يعرف أية عاصفة من المشاعر المتأججة ترافق على الدوام مثل هذه الاحتجاجات الشعبية الغاضبة حتى السلمية منها. ويقيناً أنه يدرك كم من ملايين المرات ينبغي أن تكون هذه العاصفة أشد هيجاناً حين يستنهض الذل والاستبداد والعسف، السواد الأعظم من الشعب المحكوم بأجهزة أمنية متوحشة. كل هذا يفهمه صاحبنا نظرياً ولكنه لا يقر به إلا من رؤوس شفتيه, فقط بسبب الوضع المعقد للغاية. ويتمنى من كل قلبه أن تكون الثورة ألين في خطوطها وزواياها الحادة ويسأل من جديد: ألا يذهب الوطن إلى وضع معقد للغاية؟ ولكن عوام الخلق التي ثارت ضد الطغيان العسكري لجهاز الدولة يُتابعون تحطيم آلة الدولة البيروقراطية العسكرية – الثورية إن شئت – التي سلبتهم حريتهم وكرامتهم ووضعتهم تحت البسطار العسكري.
Social Links: