عامان يُمهّدان لاحتلال قد يمتد إلى نصف قرن 1/3

عامان يُمهّدان لاحتلال قد يمتد إلى نصف قرن 1/3

مركز حرمون للدراسات المعاصرة – وحدة دراسة السياسات

مقدمة

مرّ عامان كاملان على بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، والذي كان هدفه المُعلن ضبط الوضع العسكري والتمهيد للعملية السياسية، وطبعًا “محاربة الإرهاب”، بينما كان هدفه الأساس والجوهري دعم قوات النظام السوري، ومنع سقوط رأس النظام، بشار الأسد، وتثبيت أقدام روسيا في شرقي المتوسط، وإنهاء القطبية الواحدة التي تُسيطر على المجتمع الدولي.

 

كان “منع انهيار الدولة ومؤسساتها” ومكافحة “الإرهاب الإسلامي”، هو الشعار الذي رفعته روسيا كمبرر لتدخلها العسكري المباشر في سورية، لكنّ هذه الأسباب كانت غلافًا لأسباب أخرى أكثر أهمية بالنسبة إلى الروس، بدليل أنهم شاركوا خلال سنتين في تدمير بنى الدولة السورية وانهيار ما تبقى من مؤسساتها في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة. كما لم يقوموا بعمليات جدّية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي يُعتبر رأس الإرهاب في سورية وأقوى أعمدته.

 

من الواضح أن محاربة (داعش) لم تكن تعني الشيء الكثير بالنسبة إلى القوات العسكرية الروسية. فمنذ اللحظات الأولى للتدخل، كانت مواقع المعارضة السورية هي المستهدفة من قِبَل الطيران الروسي، وليس (داعش) الذي كان في ذيل الأجندة وآخرَ الهموم.

 

تدخّل الروس في سورية واضعين نصب أعينهم المكاسب العسكرية التي يمكن أن يفوزوا بها، وكذلك الوقائع السياسية التي سيفرضونها في المنطقة والمكاسب التي يمكن أن يجنوها من وراء ذلك، مع تركيزهم الشديد على الفرص الاقتصادية التي توفرها الحرب السورية، فضلًا عن استخدامها كحالة نموذجية لتجريب أسلحتهم الحديثة، ولتصريف الأسلحة القديمة التي انتهت صلاحيتها أو كادت تُشرف على الانتهاء. كما كانوا يأملون بشدّة أن تأخذهم الولايات المتحدة على محمل الجد كقوة دولية ضاربة، خاصة في العالم القديم وشرقي المتوسط؛ وهي الأهداف التي ما زال أمر تحقيقها مشكوكًا فيه على الرغم من مرور سنتين على هذا التدخل.

 

أولًا: حصيلة عامين

خلال عامين، قدّم الروس فوائد للنظام السوري لم يُقدّمها له أيّ طرف آخر، بما في ذلك الإيرانيون. في المقابل، قدّم رأس النظام لهم تنازلات لم يكونوا ليحلموا بمثيلها من قِبَل أي نظام آخر في المنطقة، تنازلات كبيرة وخطيرة، مقابل حمايته وإبقائه على رأس السلطة، وعدم تعريض نظامه لخطر الانهيار والسقوط أو الهزيمة.

 

في البداية تحدثت روسيا بأنها ستستخدم القوات الجوية فقط، ولن يكون هناك أي استخدام للقوات البرية، إلا أنها أرسلت لاحقًا قوات برية، وقالت إنهم خبراء يساعدون القوات السورية. وخلال عامين من الدعم العسكري الواسع والمتنوع، تمكن الروس من جعل النظام السوري يستعيد السيطرة على جزءٍ كبيرٍ من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة.

 

وبفضل استخدامهم أسلحة مُحرّمة دوليًا، وبكثافة كبيرة جدًا، استطاع الروس في كانون الأول/ ديسمبر 2016 السيطرة على الأحياء الشرقية لمدينة حلب، وقاموا على إثرها بعملية تهجير قسرية لمقاتلي المعارضة المسلحة السورية ومن تبقى من السكان، وفق اتفاق عُقد برعاية تركية. كذلك رعَوا عمليات تهجير قسرية في العديد من المناطق السورية نحو الشمال السوري، وقاموا بالسيطرة على مساحة واسعة من البادية السورية وتدمر. ومنذ مطلع العام 2017، عمدت روسيا، بمساعدة دول عدة، على إبرام اتفاقيات لـ “خفض التصعيد” في مختلف المدن السورية التي تُسيطر عليها المعارضة السورية المسلحة.

 

تحدثت منظمات ومراصد حقوقية دولية عن انتهاكات واسعة قام بها الروس في سورية، أسفرت عن سقوط أعداد كبيرة من القتلى في صفوف المدنيين، فضلًا عن تسببهم بدمار كبير أصاب مؤسسات خدمية حساسة مثل الأفران والمشافي ومراكز الإسعاف وغيرها.

 

ووفق تقرير نشرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بمناسبة مرور عامين على التدخل، فإن “أكثر من 5233 مدنيًا قُتلوا منذ بداية التدخل الروسي في سورية، بينهم 1417 طفلًا، و868 امرأة، فضلًا عن ارتكاب 251 مجزرة”، كما سجّل التقرير “707 حادثة اعتداء على مراكز حيوية، منها 109 مساجد، و143 مركز تربية، و119 منشأة طبية”.

 

وخلال عامين “استخدمت القوات الروسية الذخائر العنقودية أكثر من 212 مرة، معظمها في محافظة إدلب، وأكثر من 105 مرات للذخائر الحارقة، معظمها في محافظة حلب”. وجاء في تقرير الشبكة أيضًا أنَّ القوات الروسية “نفذَّت منذ تدخلها مئات الهجمات غير المبررة، التي أوقعت خسائر بشرية ومادية فادحة، تركَّزت في معظمها على مناطق تخضع لسيطرة فصائل في المعارضة المسلحة بنسبة تُقارب 85%”. وأضاف التقرير أنَّ “العدد الأقل من الهجمات كان من نصيب المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة (داعش) بنسبة تقارب 15%. وحتى في مناطق سيطرة (داعش)، فقد تم تسجيل عشرات الحوادث لقصف مواقع مدنية، ما خلَّف وقوع مجازر بحق سكان تلك المناطق”. وقدَّم التقرير إحصائية عن قيام القوات الروسية بـ “قتل 47 شخصًا من الكوادر الطبية، بينهم 8 سيدات، إضافة إلى 24 شخصًا من كوادر الدفاع المدني، و16 من الكوادر الإعلامية”، وأكّد أن الهجمات الروسية “تسببت في تعرُّض ما لا يقل عن 2.3 مليون شخص للنزوح هربًا من عمليات القصف والتدمير”.

 

مقابل ذلك، قالت وزارة الدفاع الروسية، بعد مرور عامين على التدخل، إنها منعت تقدّم (داعش) و(جبهة النصرة)، وإنها قتلت وجرحت آلاف المسلحين، نتيجة الضربات التي نفذتها القوات الجوية الروسية، منهم متشددون جاؤوا من روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق. ووفق تقرير لها بمناسبة مرور عامين على التدخل العسكري، فإن هذا التدخل “مكّن روسيا من تحرير 87.4% من الأراضي السورية من (داعش)” وجرى منذ بدء العملية تنفيذ “أكثر من ثلاثة آلاف طلعة جوية قتالية، شنت خلالها 92000 غارة أدت إلى تدمير 96828 هدفًا، بينها 8330 مقر قيادة، و5370 تجمع مقاتلين، و6770 مستودعًا للذخيرة والمحروقات”.

 

لكن أرقام وزارة الدفاع الروسية، حتى لو كانت صحيحة، قد تسببت بمقتل آلاف المدنيين وتدمير مئات المنشآت والحواضر والبنى التحتية في القرى والمدن التي دكّتها قذائف موسكو.

 

وفق تقرير لمنظمة (إيروارز) التي ترصد وتراقب الخسائر المدنية للغارات الجوية الدولية في العراق وسورية وليبيا، فإن “الضربات الجوية الروسية التي قصفت مناطق يسيطر عليها (المتمردون) في سورية منذ عام 2015 مسؤولة عن مقتل آلاف المدنيين، وقد تُشكّل هذه الهجمات العشوائية على السكان المدنيين جرائم حرب”.

 

ثانيًا: فئران لحقل تجارب روسي

استفادت روسيا من تدخلها في سورية لتجربة أنواع جديدة من الأسلحة في ظل ظروف حرب حقيقية، وهو ما أشار إليه وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، حين أطلقت أربع سفن من بحر قزوين 26 صاروخًا من طراز (كاليبر) على مواقع (داعش) في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، إذ قال إن القصف “جرى لأول مرة، ضمن ظروف حرب حقيقية من على متن قطع في بحر قزوين، وباستخدام صاروخ (كاليبر) لأول مرة”. وبهذا اعترفت روسيا أن سورية صارت ساحة لتجريب أسلحة سوق السلاح الروسي، وهو أيضًا ما أكّده سيرغي غوريسلافسكي، نائب رئيس شركة (أوبورون إكسبرت) الذي أشار إلى “ارتفاع الاهتمام بشكل ملموس في العالم بالأسلحة الروسية بفضل العملية العسكرية في سورية”.

 

وفي بداية شهر أيلول/ سبتمبر 2017، قال أندري تيرليكوف، المدير العام لمكتب الخدمات الهندسية للنقل في (أورال)، “لقد تم اختبار المركبة المقاتلة (تيرميناتور) في سورية”. كما قال رئيس اللجنة العلمية العسكرية التابعة للقوات المسلحة الروسية الجنرال إيغور ماكوشييف “إن الخبراء العسكريين الروس، أجرَوا خلال العام الماضي، اختبارات على استخدام أكثر من 200 نموذج من الأسلحة في سورية، وبفضل ذلك جرى تعديل الخطط اللازمة لتطوير وتحديث نظم الأسلحة”.

 

في تعليقها على مرور عامين على التدخل الروسي العسكري المباشر في سورية، قالت صحيفة (روزفيزنا) الروسية، المقربة من دوائر صنع القرار في موسكو، إن مهمة القوات الروسية في سورية هي “أكبر مهمة عسكرية في عصر روسيا الحديثة”، وأنها “نوع من أنواع الاختبار الحقيقي والفرصة المذهلة لقياس القدرات القتالية للجيش الروسي، وأتيح لروسيا اختبار أحدث الأسلحة في ظروف القتال”، وأشارت إلى أن حجم العسكريين الذين أوفدتهم روسيا إلى سورية لا يمكن مقارنته بما سبق من معارك شنتها في طاجيكستان في التسعينيات، وفي أوسيتيا الجنوبية عام 2008.

 

كذلك اعترفت وزارة الدفاع الروسية في نشرةٍ لها بأن المشاركة العسكرية في سورية سمحت لها بالتحقق من الاستعداد القتالي لجميع الطيارين العسكريين تقريبًا، وأن ما يقارب من 90 في المئة من أفراد القوات الجوية تلقّوا خبرة قتالية في سورية.

 

وجاء في تقرير لوكالة الأنباء الروسية (سبوتنيك) بمناسبة مرور عامين على التدخل العسكري الروسي في سورية، أن روسيا “اختبرت” أحدث أسلحتها منذ تدخلها العسكري، وأحصت الوكالة قيام روسيا باختبار 162 نموذجًا من الأسلحة الحديثة والمتطورة.

 

وفق التقرير، جرّبت روسيا قاذفات القنابل SU24-M والطائرة الهجومية SU25-M، وطائرات SU35-S والطائرة SU27-M3K وأحدث صواريخ جو- جو متوسطة المدى، والصواريخ المضادة للدبابات BTR-80 (شتورم)، والمنظومة المضادة للدبابات (فيخر)، وصواريخ X25-M وL29-T (جو سطح)، والقنابل كاب-500ل وكاب-500كي.آر، والمتفجرة بيتاب 500، والصواريخ المجنحة X101K، ومروحيات MI-8 وMI-24 وMI-28، ومروحيات Ka-25، وصواريخ S300، وS400، والمنظومة الإلكترونية سفيت- كو التي تُستخدم لحماية قنوات الاتصالات اللاسلكية وحماية المعلومات.

 

وتعتبر مرحلة تجريب الأسلحة مسألة في غاية الأهمية بالنسبة إلى سوق السلاح العالمي، خاصة عملية تجريب هذه الأسلحة في ظل ظروف قتال حيّ وحرب حقيقية، من أجل التسويق الأفضل لهذه المنتجات دوليًا، حيث تجد روسيا في سورية أحسن وأرخص حقل لهذه الغاية، ويبدو أنها تتعامل مع المدنيين السوريين كفئران تجارب في عملياتها، ليس أكثر.

 

بحسب تقارير عديدة، سجلت الإحصاءات الأخيرة تزايدًا ملحوظًا في الطلب على الأسلحة الروسية، حتى بلغ أعلى مستوى له منذ عام 1992، وتم التوقيع، في العام الماضي فقط، على عقود لتصدير أسلحة بقيمة تتجاوز 26 مليار دولار.

 

ووفقًا لتقييمات وسائل الإعلام الروسية، أنفقت موسكو حتى الربع الثالث من العام الماضي، نحو نصف مليار دولار على عمليتها العسكرية في سورية، في المقابل حصلت على دعاية درّت عليها أرباحًا تقدر بما بين 6 و7 مليارات دولار.

 

ويُشار إلى أن مشروع الدولة الروسية المُعلن يقضي بتحديث القوات المسلحة، وينص على تجديد 70 في المئة من المعدات العسكرية بحلول عام 2020. ومن المفترض التخلي عن الأسلحة القديمة التي لم تعد تعني شيئًا في عالم السلاح الحديث، ووضع الأسلحة الجديدة قيد الاستخدام بعد إخضاعها لتجارب ميدانية عديدة.

  • Social Links:

Leave a Reply