نتابع اليوم الجزء الثالث والأخير من المقالة القيمة عن دور المسيحيين المشرقيين في الحضارة العربية للأستاذ المحامي ادوار حشوة
دور المسيحيين في الحضارة العربية
كان العرب المسلمون نتاج مجتمع رعوي وأمي، وما عدا الإيمان العميق بالرسالة الإسلامية المشبعة بروح الجهاد، فإن المسلمين لم يمتلكوا الأساس العلمي لبناء الدولة، ففي قريش كلها في بداية الإسلام لم يكن فيها سوى ( 17 ) شخصاً يعرفون القراءة والكتابة.
كانت الحضارة في اليمن وفي الشام وما بين النهرين حيث الاستقرار والحياة الحضرية والزراعة والمدارس . حركة التعليم في هذه المناطق كانت بقيادة المسيحيين ومن مدارسهم في الرها ونصيبين والمدائن وجنديسابور وبصرى الشام والبتراء وأنطاكية وتدمر وحمص والاسكندرية وبيروت ، ومن الأديرة المنتشرة على امتداد الشرق .. كانت تتخرج جموع المثقفين في المنطقة وتترجم الكتب وتظهر الإبداعات في فن الرسم وفن البناء .
مسجد الرسول في المدينة بناه معماريون مسيحيون ، وأول مئذنة في الإسلام والتي أقيمت محل برج كنيسة يوحنا المعمدان في المسجد الأموي بدمشق بناها معماريون مسيحيون … وحتى مسجد خالد بن الوليد بناه معماري من نصارى حمص ومن أهالي الحميدية .
هذا التعاون بين المسيحية الشرقية والإسلام لم يكن بسبب ظلم الروم وفارس لهم فقط . إن سببه هو الانتماء العربي لهذا الوجود بوجهيه السرياني والعربي . وسببه أيضاً اللغة العربية التي هي جزء من اللغات السامية السائدة في المنطقة كالآرامية والسريانية. والتقارب بين هذه اللغات ساعد في التقارب الشعبي أيضاً .
فما هي مظاهر هذا الدور ؟
ـ في الحيرة : قامت الحيرة بدور رائع في نهضة اللغة العربية ، ففي هذه المنطقة تفاعلت المسيحية الآرامية مع المسيحية العربية الوافدة ، فأنتجت علماً كثيراً ونقلت إلى العرب ثقافة اليونان وعلومهم .
يذكر أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني أن المرقش الأكبر أبو عمر الشيبان قد درس الكتابة على يد نصراني من الحيرة وأن أول من كتب باللغة العربية هو زيد بن عدي من أهالي الحيرة وكان موظفاً في ديوان كسرى، وأن أول من كتب باللغة العربية في الحجاز هو حرب بن أمية بن عبد شمس وتعلم العربية من أهل الحيرة التي تعلم أهلها العربية من أهل الأنبار، كانت اللغات في الحيرة للعامة هي العربية … أما الطقوس المسيحية فكانت بالسريانية.
استعان المرقش بالحروف السريانية التي كان مسيحيو الحيرة والأنبار يستعملونها فحورها، فأصبحت اللغة العربية الحالية. هذه اللغة التي نكتبها ونعتز بها اليوم هي بحروف سريانية محورة ونتاج حركة علمية قام بها نصارى الحيرة، وخاصة العباد الذين هم أول من استعمل الخط العربي.
فاللغة العربية لغة سماعية وتحولت إلى لغة مخطوطة بفضل الحركة العلمية في الحيرة، وكان هذا إنجازاً مدهشاً وأساساً في بناء الحضارة العربية قبل الإسلام، إذ لا يمكن تصور قيام حضارة بدون لغة مكتوبة.
ـ في بلاد الشام : حين جاء الإسلام إلى بلاد الشام لم يكن الهدف مجرد غزوة قبلية جاهلية بل إقامة دولة، لذلك استعان المسلمون العرب بالمسيحيين الأكثر علماً وتحضراً لإنجاز هذا المشروع في بناء الدولة ، وساهم هؤلاء في هذا الإنجاز بصورة أدهشت المؤرخين.
لم يكن في بلاد الشام سجلات بالعربية وكلها باللغة اليونانية لغة بيزنطية، وكان سرجيوس قائماً عليها فأبقاه المسلمون مع أسرته عليها حتى عهد عبد الملك بن مروان.
ـ في العهد الأموي : ساهم المسيحيون في بناء الأسطول العربي وفي كل حروبه التي قام بها في المتوسط، وقاموا بتنظيم الدولة وديوان الجيش وأمدوا الدولة بمختلف العلوم في الطب والفلك والصناعة والزراعة وفي إنشاء المدارس، وكانت العلاقة بين المسيحيين في بلاد الشام والخلفاء الأمويين جيدة جداً وكانوا إذا اختفلوا فيما بينهم يحتكمون للخليفة الأموي ليحل خلافاتهم.
ـ في العهد العباسي : استخدم العباسيون المسيحيين في بلاد ما بين النهرين في أعمال الإدارة والمالية ، وكان منهم أهل العلم والحرف والفلسفة والطب. وقد نقلوا إلى العربية ثقافة اليونان والفرس والسريان في الفلسفة. نقل حنين بن اسحق ويحيى بن عدي وقسطا بن لوقا كتباً عديدة للعربية وخاصة كتب أفلاطون وأرسطو.
ـ في الطبيعيات : نقل ابن البطريق واسحق الدمشقي وأبو بشير كتب الطبيعيات.
– الإلاهيات الاغريقية نقلها إلى العربية الحجاج بن مطر واسحق ويحيى بن عدي.
– كتب الطب نقلها حنين بن اسحق وعيسى بن يحيى .
– كتب الرياضيات اقليدس وأرخميدس نقلها الحجاج بن مطر وثابت بن قرة وقسطا بن لوقا.
ويذكر الوراق البغدادي أسماء ( 45 ) شخصاً أسهموا في حركة الترجمة اليونانية كان ( 90 % ) منهم من المسيحيين.
ـ دور المسيحيين في الطب :
كان الإنجاز في الطب رائعاً، أسرة بختيشوع وحدها سيطرت على الطب في المنطقة، ومنها بختيشوع وحنين بن اسحق ويوحنا بن ماسويه وجورجيوس بن بختيشوع، وآثارهم في الطب من إنجازات الحضارة العالمية.
إن اندماج المسيحيين العرب في عملية بناء المجتمع والدولة كان ظاهرة إيجابية عززت دورهم ووسعت مساحة التسامح معهم وجعلت التعايش ضرورياً ومقنعاً في آن واحد .
حتى الخلفاء العباسيون تزوجوا مسيحيات ، فمن أصل ( 30 ) خليفة عباسي كان ( 14 ) منهم من أمهات مسيحيات .. الواثق أمه فراطيس ، والمنتصر أمه حبشية، والمستعين بالله أنه مخارق، والمعتز بالله أمه قبيحة، والمهتدي بالله قرب، والمعتمد على الله فتيان، والمعتضد بالله ضرار، والراضي ظلوم، والمستكفر غصن، والقائم قطر الندى، والمقتدي أرجوان، والمستنجد طاووس، والمتستضيء غضة، والمستنصر شيرين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على روح التسامح والتعايش التي ساعدت على التأثير المتبادل وجعلت الوجود المسيحي في الشرق ظاهرة إيجابية.
ـ دور المسيحيين في الشعر :
الشعراء المسيحيون في الجاهلية كانوا كثيرين .. وقد أسلموا فيما بعد .. عروة بن الورد ، زهير بن أبي سلمى ، امرؤ القيس ، النابغة الذبياني ، المتلمس ، أوس بن حجر ، عنترة بن شداد ، عمرو بن كلثوم ، المرقش الأكبر والأصغر ، أمية بن أبي الصلت .
عمرو بن كلثوم كان من تغلب ومن شعره المعروف :
ملانا البحر حتى ضاق عنا وظهر البحر نملؤه سفينا
إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا
ـ أمية بن أبي الصلت : من كبار المثقفين العرب ، قال في حضرة الرسول :
الحمد لله ممسانا ومصبحنا بالخير صبحنا ربي ومسانا
رب الحنيفة لم تنفذ خزائنها مملوءة طبق الآفاق سلطانا
ألا نبي منا فيخبرنا عن غايتنا من رأس محيانا
– عدي بن زيد بن الحيرة : كان مسؤولاً عن شؤون البريد في عهد كسرى وكان شاعراً وحين سجنه الملك النعمان قال :
سعى الأعداء لا يألون شرا عليك ورب مكة والصليب
– عثمان بن الحويرث : من بني أسد بن عبد العزيز وهو من قريش ومنهم ورقة بن نوفل .
– الأعشى : من اليمامة وسمي صناجة العرب.
– الحارث بن كلده : من ثقيف وكان نصرانياً نسطوريا .
– عبد المسيح بن بقلة : من نصارى الحيرة ومن شعره :
لقد بنيت للحدثان حصناً لو أن المرء تنفعه الحصون
طويل الرأس أقعس مشمخراً لأنواع الرياح به حنين
– الزبرقان : وهو من نصارى تميم وقال للرسول محمد ( عليه الصلاة والسلام ) :
نحن الكرام فلاحي يعادلنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
– نائلة الفرافصة : زوجة الخليفة عثمان كانت شاعره وكانت من قبيلة كلب النصرانية وهي القائلة:
ومالي لا أبكي وتبكي قرابتي وقد غيبت عنا فضول أبي عمرو
– ميسون زوجه معاوية من قبيلة بحدل الكلبية النصرانية وهي صاحبة الشعر البديع :
لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف
وأصوات الرياح بكل فج أحب إلي من نقر الدفوف
– الأخطل التغلبي : كان شاعر بني أمية ونديم خلفائهم وهو القائل :
إذا ما نديمى علني ثم علني ثلاث زجاجات لهن هدير
مشيت أجر الذيل تيهاً كأنني عليك أمير المؤمنين أمير
ـ أيها الحفل الكريم :
من هذا العرض التاريخي والتحليل للدور المسيحي في الحضارة العربية نفهم جيداً أننا جزء من هذه الأرض وأقرباء شركائنا المسلمين فيها وتعايشنا ليس مسألة سياسية فقط ، هو بالعمق مسألة قومية نحن شعب واحد في منطقة حضارية تجلت فيها الرسالات، والمسيحية الشرقية لا تخاف الإسلام لأنها تعايشت معه ( 14 ) قرناً وساهمت في بناء الحضارة العربية واشتركت معه في الحروب والأحزان وتقاسمت معه أفراح النصر، والمسيحيون سواء أكانوا من اتباع الطقس السرياني في الصلاة أو الطقس الرومي اليوناني في الصلاة هم من القبائل العربية .
والدور الإيجابي للمسيحية الشرقية إنما هو نتاج هذا الشعور بأننا أبناء هذه الأرض .
في هذه المناسبة أذكر أنني في عام ( 1976 ) طالبت المجمع المقدس بإلغاء كلمة ( روم ) وأوضحت سبب إلحاقها بالروم الأرثوذكس والكاثوليك في بلاد الشام.
المسيحية بعد مؤتمر خلقدونيا عام ( 451 م ) انقسمت إلى قسمين الأول يؤيد مجمع خلقدونيا ويؤمن بأن للمسيح طبيعتين إلهية وإنسانية، وقسم آخر يرفض مؤتمر خلقدونيا ويؤمن أن للمسيح طبيعة إلهية واحدة. ملك الروم أيد مقررات المجتمع في بلاد الشام صار الذين رفضوا مقررات مجمع خلقدونيا وتمسكوا بالطبيعة الواحدة يسمون المؤمنين بالطبيعتين بروم أو ملكيين لأنهم اتبعوا رأي ملك الروم المؤيد لمجمع خلقدونيا.
ويرى المطران جورج خضر في حديثه لمجلة النهار الدولي بباريس عام ( 1978 ) أن هذه العبارة كانت تقال (تحقيراً).
وحين جاء العثمانيون أصدروا قانون الطوائف فسموا كل من يتبع الطقس البيزنطي في الصلاة ( روم ملتي ) ومن يتبع الطقس السرياني ( سريان ملتي ) وذلك دون النظر إلى العرق واللغة.
وهذه التسميات كما ذكرنا لكم لا علاقة لها بالوجود الشعبي ولا بأصله العربي وقد آن الأوان لإلغاء هذه العبارات وإلحاق الكنائس بشعوبها لا بطقوسها فتسمى الكنائس عربية كما هو الحال في كل بلاد العالم لإزالة هذا التناقض الذي خلقه المستعمرون والخطأ التاريخي ومن مصلحة التعايش في هذه المنطقة أن تنسب كنائسنا إلى شعوبها العربية التي لا تتكلم غير اللغة العربية . فمتى نسمع بالكنيسة العربية الأرثوذكسية والكنيسة العربية الكاثوليكية وبكنيسة العرب السريان ؟
ـ التيارات الدينية المعاصرة :
بداية .. هذه التيارات المنتشرة في الوطن العربي وفي بعض الدول الإسلامية هي مشاريع سياسية أكثر مما هي صحوة دينية موجهة ضد الأقليات، وهذه التيارات ليست وقفاً على المسلمين، فهناك تيارات دينية صاعدة مسيحية في ايرلندا وانكلترا وفي يوغسلافيا السابقة وفي داخل المجتمعات المسيحية، وشهدنا في لبنان جانباً منها في الحرب الأهلية، وهذه التيارات أنتجها القهر الدولي والعدوان الخارجي، وأحياناً أنتجها القهر السلطوي.
في بلادنا يمكن أن نشهد قهراً دولياً ضد المنطقة أدى إلى الاستيلاء على ثرواتنا الاقتصادية وقرارنا السياسي بعد حرب الخليج، ونشهد غزواً إسرائيلياً توسعياً يفرض هيمنته على الدول العربية ويحلم بقيادة المنطقة. ونشهد قهراً سلطوياً على امتداد الوطن العربي وفقدان أية فسحة أمان للرأي الآخر. وحين لا نسمح للناس أن يتنفسوا سياسياً يمكن أن يتنفسوا دينياً .
وفي الشرق يمكن استخدام الدين في تأمين الاستقرار للحكام بنفقات تقل عن نفقات أي جهاز شرطة، وبالمقابل أيضاً فإن الذين يحلمون بالإطاحة بأنظمتهم يستخدمون الدين ستاراً لجمع الأنصار وتجييش المحتجين لأنه يسهل عليهم العملية.
ولقد قلت دائماً أن تنامي التيارات الدينية المعاصرة هو بسبب فشل حركة التحرر العربي في تحقيق أهدافها في الوحدة حيث تراجعت مسيرة الوحدة والاتحاد والتضامن وصرنا نحلم بالمرحبا العربية.
وفي الاقتصاد سيطرت رأسمالية الدولة وسيطر المتنفعون الذين انتفعوا كثيراً ودون حساب فأدى ذلك إلى فشل التطبيق الاشتراكي وانخفاض قوة النقد وإلى خلل اجتماعي، وتضاءلت فسحة الحرية والحقوق الأمر الذي أوجد حالة إحباط استغلتها هذه التيارات ..
لقد قلت في عام ( 1985 ) في الندوة العالمية لقوى اليسار العربي في طرابلس أن العنف ليس هو الحل .. لا بد أن يصلح اليسار العربي نفسه وأن يفتح النوافذ للحريات والحقوق وأن يعيد النظر في سلوكه. لأنه في المناخ الشيء لهذه الحقوق والحريات نمت تيارات متعصبة وعنيفة ولا بد لفرض الاعتدال عليها من مساحة حرة للرأي الآخر .
حين نعطي لكل الأحزاب والطوائف والعناصر حرياتها نستطيع أن نأخذ منها الولاء الوطني .. وولاء وطني بدون حرية الرأي والاعتقاد هو كوعاء يرن أو كمن يسمع جعجعة ولا يرى طحيناً.
ـ أيها الحفل الكريم :
إن دور المسيحية الشرقية في الحضارة العربية كان من كل الوجود دوراً إيجابياً وبناء ودوراً معتدلاً، واستمرار هذا الدور على قاعدة حرية الرأي وحرية الاعتقاد وأفضلية الولاء القومي على كل الولاءات يمكن أن يساعد على فرض الاعتدال حين تواجه المجتمع العربي هجمات المتعصبين والمستبدين .
إن النضال من أجل مجتمع الحرية والكرامة هو واجب الجميع …. وحين لا يكون الوطن للجميع ، لا يكون الجميع للوطن .. فحيثما يكون لكم كرامة .. يكون لكم وطن .. ووطن بدون كرامة من المحتمل دائماً أن تدوسه أقدام الغزاة والمستعمرين .
هذه المقالة عبارة عن محاضرة ألقيت في نادي الرابطة الأخوية بحمص 25 / 4 / 1996
وفي النادي السرياني بدمشق 4 / 9 / 1996
بعض المراجع
1 ـ الكنيسة الشرقية السريانية : ( 3 ) أجزاء ألبير أبونا
2 ـ تاريخ الكنيسة الشرقية : المطران جحا ( مترجم عن الروسي ) .
3 ـ الطوائف المسيحية : الأمير طلال بن الحسين .
4 ـ قصة الحضارة : ( 4 ) أجزاء عصر الإيمان بول ديورانت.
5 ـ تاريخ لبنان : فيليب حتى.
6 ـ تاريخ الطبري والقلقشندي ومخائيل السرياني : ( مقتطفات )
7 ـ أثر المسيحية في الحضارة العربية : شحادة القنواتي
8 ـ مجلة الجنان ( 1873-1876 ) : فؤاد سليم البستاني
9 ـ القرآن دعوة نصرانية : أبو موسى الحريري
10 ـ نصارى العرب : حسين العودات
11 ـ تاريخ الموارنة .
12 ـ الحقيقة الغائبة .
دور المسيحية المشرقية ( ملف وورد )
Social Links: