إعداد زكي ناظم الدروبي
إنها داريا التي اشتهرت بالعنب قبل الثورة، وأصبحت بعد الثورة أيقونة من أيقوناتها. صمدت بوجه أعتى آلات القمع والقتل، وحوصرت لخمس سنوات، تبلغ مساحتها 4 كلم2 وفيها أقل من ألف مقاتل.
الموقع والجغرافيا
تبعد عن مركز مدينة دمشق حوالي 5 كم يحدّها أوتستراد درعا الدولي وصحنايا جنوباً ,ومطار المزة والمعضمية شمالاً، وجديدة عرطوز غرباً , والمزة وكفرسوسة شرقاً، ومعظم الأراضي المتاخمة لمطار المزة هي أراضي زراعية مملوكة لأهالي داريا ,ويجاورها قصر بشار الأسد والفرقة الرابعة والحرس الجمهوري ومطار المزة العسكري. كانت من أوائل المدن خروجاً بالمظاهرات، فقد حاول شبابها التظاهر في المدينة بتاريخ 15/3/2011 وفشلوا ,ثم شارك بعضهم في اعتصام وزارة الداخلية في اليوم الثاني ,حيث اعتقل البعض ونجى بقيتهم ، وفي 25/3/2011 استطاع الشباب الديراني الخروج في أول مظاهرة تدعوا للحرية وتهتف لدرعا، هي مدينة الشهيد غياث مطر الذي كان مثالاً يحتذى به في النشاط المدني السلمي، لقدكانت وستبقى شاهداً على إجرام النظام، وعلى قذارة المجتمع الدولي.
غياث مطر
اعتقل الشهيد غياث مطر في 6/9/2011 بسبب مشاركته وتنظيمه للمظاهرات السلمية في داريا، وكان قد شكل خطراً كبيراً على النظام، كونه قدم الماء والورود والزهور لعناصر الأمن والجيش أثناء المظاهرات، نافياً بفعله هذا ادعاءات وكذب النظام عن السلفيين والإرهابيين المسلحين الذين يقتلون الجيش. بعد أربعة أيام سلمت جثة الشهيد لأهله بعد تعرضه لتعذيب شديد,فخرجت مظاهرات ضخمة لتشييعه استشهد أثنائها فتى في السابعة عشر من عمره برصاص قوات النظام، وقد حضر مراسم عزاءه سفراء كل من الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وألمانيا والدنمارك. وبعد مغادرة السفراء قامت قوات الأمن باقتحام مجلس العزاء حيث أطلقت العيارات النارية والقنابل المسيلة للدموع لفض المجلس.
عنب بلدي :
من داريا خرجت أول مطبوعة حرة في ريف دمشق (عنب بلدي) أصدرها شباب متحمس للثورة لا يملك خبرات سابقة بالعمل الصحفي.
إرهاصات العمل المسلح:
بدأت أولى إرهاصات العمل المسلح في داريا بعد تسليم جثة الشهيد غياث مطر لذويه، فقد رأى البعض أن رمز من رموز الثورة السلمية قد اعتقل ونكل به ومات تحت التعذيب فكيف لبقية الناس، حينها قرر هذا البعض أن يرفع السلاح بمواجهة قوات النظام لحماية أنفسهم، ولحماية المظاهرات والمدنيين، وتشكلت تنسيقية أخرى غير تنسقية داريا التابعة للجان التنسيق المحلية التي أسستها رزان زيتونة، والتي آمنت بالثورة والعمل اللاعنفي، ودعت التنسيقية الأخرى للعنف وحمل السلاح دفاعاً عن المدنيين، لكن لم يحصل تصادم بين التنسيقيتين، واستمر كلا الفريقين يحاول استمالة الشارع لأفكاره. وفي منتصف 2012 ضربت مجموعة من ثوار المدينة قافلة عسكرية للنظام في قلب المدينة وقتلت عناصرها ودمرت آلياتها وعتادها. ورد النظام بقصف المدينة بقذائف الهاون وهنا تحررت مدينة داريا من قوات النظام وأصبحت خاضعة للجيش الحر الذي نظم أمور المدينة وأعاد إعمار ما خرب فيها بسبب قصف النظام وأعاد طلاء الأرصفة وجدران المباني وخط عليها الشعارات الثورية ورسم أعلام الثورة فجن جنون النظام وشن حملة شرسة على المدينة ,وفي 22/8/2012 قصف المدينة بشكل جنوني فارتقى الكثير من الشهداء وجرح الكثير من أبناءها أيضا وبدأ باقتحامها فواجه مقاومة قوية من الجيش الحر ,واستمر القصف الجنوني ,واستمر الجيش الحر صامدا يمنع قوات وميليشيات النظام من التقدم ,وفي يوم الجمعة 24/8/2012 بدأ النظام السوري باتباع سياسة الأرض المحروقة حيث قام بعدها مباشره باستخدام أفظع أنواع القصف بالصواريخ من الطائرات المروحية والدبابات وقذائف الهاون الأمر الذي أوقع أعداداً هائلة بين صفوف المدنيين بين قتيل وجريح وانسحب عند هذا المشهد الجيش السوري الحر بشكل كامل من المدينة لإيقاف القصف على المدنيين وحمايتهم من إجرام النظام. خلال يوم الجمعة واليومين التاليين حدثت عمليات انتقام وقتل عشوائي مروعة بحق عائلات وسكان المدينة وجرت حالات إعدام لعائلات بأكملها مثل عائلة (السقا) وعائلة (الون) وعائلة (قفاعة) ولم تكتفي قوات النظام بالقتل بل قامت بالتمثيل بالجثث وحرقها وتشويهها حتى لاتتمكن المنظمات الحقوقية والإعلامية أو الأهالي من التعرف على أقربائهم أو أصدقائهم . وقد حصلت كبرى المجازر في تلك الأيام ,وهي المجزرة التي حصلت داخل جامع (أبو سليمان الداراني) , وفي محيط المسجد حيث كان بالقرب منه منزل بداخله ملجأ هرب إليه أعداد كبيرة من المدنيين من منازلهم القريبة ولجأوا إليه ,وجدوا جميعهم مقتولين وجثثهم متراكمة فوق بعضها البعض ,وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها (ما لا يقل عن 156 قتيلاً، منهم 19 امرأةً، وثلاثة أطفال)..
وفي تقرير حقوقي صدر عن المجازر في داريا هنالك معلومات أن النظام نفذ في داريا “أفظع المجازر عندما تمكن جيش النظام من رقاب الأهالي، فانتقم منهم على نحو همجي”… تمكنا من توثيق اسم 524 قتيلاً، أكثرهم من المدنيين، لأن أغلب عناصر الجيش السوري الحر انسحبوا من المدينة بعد ظهر يوم الجمعة، فبدأت بعدها عمليات الانتقام من الأهالي والمدنيين. وليس أدل على ذلك من أن بين الشهداء 61 امرأة موثقة بالاسم. ونشير في هذا المقام أن هذا ما استطعنا توثيقه، في ظروف المطاردة والملاحقة، والخشية من التصفية من قبل النظام السوري.ونحن على يقين تام بأن عدد الشهداء أكبر من ذلك لأن كثيراً من الجثث قد تم دفنها مباشرة قبل التعرف على أسماء أصحابها. إضافة إلى العدد الكبير من الجثث المشوهة بالكامل، التي لم يستطع أحد التعرف على أصحابها.
الحملة خلفت أيضاً حسب تقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان – لندن ( 1160 جريح وأكثر من 100 مفقود في عداد المختفين قسرياً .) وقدر موقع أبعاد الإعلام التابع لشبكة تفاعل التنموية، عدد قوات النظام في وقتها حوالي (14) ألف جندي جلهم من قوات النخبة من الميليشيات الشيعية مجهزين بأقوى وأحدث العتاد مقابل (800) مقاتل من الجيش الحر لايملكون إلا البنادق الآلية والرشاشات الخفيفة. بعد تلك التجربة المريرة تداعى الجميع للتوحيد وتنسيق العمل، فتوحدت التنسيقيتان مع الجيش الحر ونشطاء آخرين وتم تشكيل المجلس المحلي لمدينة داريا وأعلن عنه في 22/10/2012 وأضحى المظلة التي يعمل الجميع تحتها وبإشرافها واحتوى المجلس على عشرة مكاتب ,وأوكلت المهام حسب الاختصاص الضيق وبصلاحيات محدودة ليتكامل العمل فيما بعد بين الجميع بعيداً عن الاستئثار والاستفراد، وأصبح المجلس المحلي هو السلطة المدنية الفعلية القائمة على كل شيئ في المدينة ,وهذا ما اعتبر نقطة قوة تحسب لهذه المدينة والذي ساهم في حمايتها والصمود طوال الفترة الماضية في وجه أعتى آلات الدمار التي استقدمها النظام وقصف بها المدينة وسكانها الآمنين، حتى أنه لم يتورع عن استخدام السلاح الكيماوي والغازات المحرمة دولياً تحت سمع وأنظار كل العالم القذر الذي لم يحرك ساكنا.
داريا الصوت الثوري الحر الذي لم يرفع سوى أعلام الثورة، والذي طرد الغرباء وطرد الفكر التكفيري المتشدد، وأصبحت المدينة نموذجاً ثورياً يحتذى به، كانت كما كان غياثها مقلقة لراحة كارهي الثورة مدعي دعمها، فكان أن اتخذ القرار بتصفية هذا النموذج ، ومنع الجيش الحر من إنقاذها بأوامر اقليمية (غرفة الموك)، ويشهد على ذلك التسجيل الصوتي المنسوب للقيادي في “جبهة ثوار سوريا” (قاسم أبو الزين) والذي أرسله قبل أيام إلى قائد عسكري في داريا يقول فيها حرفياً ” أن غرفة الموك هي التي تمنع فتح المعارك لفك الحصار عن داريا” ، مشيراً إلى أن الذخيرة الموجودة في المستودعات هي لقتال “داعش” فقط. المسؤولية تقع أيضاً على عاتق القوى العسكرية في الريف الدمشقي، فجيش الإسلام وفيلق الرحمن اشتبكا وذهب ضحية الاشتباكات بينهما مئات الضحايا من الطرفين، وظهرت كل أنواع الأسلحة عندهم، لكن لم نجد منهم غيرة على أهالي داريا والمعضمية ومناطق أخرى في جنوب دمشق، بل كانت غيرتهم على نفوذهم وحصتهم في المنطقة التي يقبعون بها. بين الحصار والموت والخذلان تقبع حكايات أخرى، بعضها مضى (حمص القديمة) وبعضها آت (حي الوعر بحمص).
اليوم دور من لا أعلم، لكن تفرق القوى الثورية واستفراد النظام بالمناطق المحاصرة الواحدة تلو الأخرى، وتجاهل المجتمع الدولي لقراراته التي أصدرها هو وبتوافق بين كل قواه بشأن فك الحصار عن المناطق المحاصرة والسماح للمواد الاغاثية بالدخول وإيقاف قصف المدن، ومعاداة القوى الإقليمية حتى الصديقة منها للثورة ,أجد أن الطريق سيفضي حتماً إلى مشاهد الباصات الخضر نفسها التي تتنقل من منطقة لمنطقة، بالأمس حمص القديمة واليوم داريا وغداً …..؟ أعتقد أننا أمام لحظة مصيرية، فإما أن نكون أو لا نكون، لحظة يتحتم فيها على الجميع الخروج من تبعياتهم وايدولوجياتهم والتفاهم مع بعض لإيقاف هذا المسلسل، لا أبرر الانسحاب أبداً، فرغم كل ما قيل عن معاناة أهل داريا وصمودهم، محاولين تبرير الخسارة، ومحاولين تبرير التخاذل، يبقى الانسحاب من داريا يعني خسارة داريا، فالصمود كان يجب أن يكلل بالنجاح، وقد قدم أهالي المدينة وثوارها كل ما يستطيعون، لكنهم في النهاية عجزوا عن الصمود أكثر في ظل كل هذا الخذلان والتآمر، فاضطروا للانسحاب، هذه الخسارة تتحملها جميع قوى الثورة، ويجب أن تجري محاكمة ومحاسبة للمتخاذل ,ولا يجب أن تمر هكذا. أيضا هذه الخسارة تحفزنا للابتعاد عن النمطية الذهنية القديمة حول الداخل والخارج، وتدعوا لضرورة تشكيل فريق متخصص بالمناطق المحاصرة، يتابعها أول بأول، يضم عسكريين وحقوقيين وسياسيين بالإضافة لنشطاء على الأرض، بالتعاون مع جميع الجهات من ائتلاف إلى هيئة مفاوضات، يقدم هذا الفريق التقارير الدائمة، حقوقية وسياسية، لجميع الأطراف، ويرسمون مع بعض الخطط العسكرية لحماية هذه المناطق المحاصرة وتعزيز صمودها، ومحاولة فك الحصار عنها، يتابع هذا الفريق الدول وسفاراتها والامم المتحدة بالضغط واستمرار الضغط لتنفيذ قرارات الامم المتحدة، ويتعاون هذا الفريق مع النشطاء السوريين في كل العالم، لتنفيذ حملات لدعم المناطق المحاصرة وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة بفك الحصار عنها، من غير ذلك أجد أننا سنفقد بعد فترة مناطق أخرى، وسنستمر في دوامة إلقاء التهم جزافاً، وقد نبقى لعشرات السنين نلعن الظلام وتآمر الامم المتحدة لتهجيرنا كما حصل قبل ذلك مع الأشقاء الفلسطينيون.
Social Links: