نحو تأسيس ماركسي جديد 1/2 ..

نحو تأسيس ماركسي جديد 1/2 ..

سلامة كيلة

نحن في مرحلة تفرض إعادة بناء الفعل السياسي، حيث تبدو الأحزاب “الشيوعية” و”الاشتراكية” و”الماركسية” في حالة موات طويلة الأمد. وحيث يبدو الواقع المتفجر بحاجة لقوى جديدة، ليس من حيث الأسماء والأشكال بل من حيث الفهم والمضمون والفعل. فالثورات أظهرت مدى تهميش وهامشية كل تلك القوى، كما أظهرت بالآن ذاته الحاجة الملحة لقوى تنظم هذه الثورات، وتؤسس رؤيتها وبدائلها وإستراتيجيتها. ومهما كان الاسم الذي يمكن أن نوصّف فيه هذه القوة أو هذا الحزب: ماركسي، شيوعي، اشتراكي، يساري، فإن الأساس هنا هو أن الماركسية كمنهجية وأداة تحليل وفهم وهدي في الممارسة هي التي يجب ان تكون منطلق كل فعل جديد. وأن تمثّلها يتمظهر في مقدرتنا على وعي الواقع القائم ووعي صيرورته، الأمر الذي يؤسس لمعرفة دورنا في هذه الصيرورة القائمة على صراع الطبقات .

نحن في مرحلة جديدة تؤشر إلى أن أحزاب قد شاخت، وأنها باتت في عداد الموتى. تضيقت وانعزلت عن الطبقات، وهرمت، ولقد تكلست وتحدد خطابها في جمل وشعارات ومنطق تفكير هي أصلاً من قادها إلى هذا المصير الماساوي، ولم تعد تساعدها بالتالي الآن على التكيف مع وضع جديد، يتسم بالديناميكية بعد الثورات التي حدثت. في الوقت الذي باتت أجيال من الشباب المفقر والمعطل تندفع للانخراط في الفعل الثوري، ويتجه جزء مهم منها نحو “اليسار”، بالضبط نتيجة وضعه ذاك .

لكن قبل التأسيس من جديد لا بد من النقد، حيث يجب “تصفية الحساب” مع “الماضي اليساري” من أجل ماركسية حقة، علمية وثورية. ومن أجل حزب ماركسي ينهض من صفوف العمال والفلاحين الفقراء، ويكون قادراً على تشكيل “كتلة تاريخية” عبر تشكيل تحالف طبقي يضم الفلاحين المفقرين والبرجوازية الصغيرة المفقرة. ولكي يكون ممكناً للثورات أن تحقق المطالب العميقة التي يطرحها الواقع، وتعيد بناء التكوين المجتمعي لمصلحة هؤلاء .

أولاً : أزمة الشيوعية ونهاية الحركة القديمة

نتجت أزمة الحركة السياسية ليس عن القمع العاري فقط، لقد لعب هذا العامل دوراً لاشكّ في ذلك، لكن يجب أن نلحظ مشكلاتها البنيوية التي سبقت التحوّلات التي قامت بها “النظم القومية”، والتي تفاقمت بعدها، خصوصاً بعد انحسار الصراع الطبقي وتحوّل الكتلة العريضة إلى قاعدة للسلطة الجديدة، الأمر الذي جعل تلك الحركة في وضع مختلف لم تستطع التكيّف معه، وربما كان الوضع ذاته قد تجاوزها. كما أنها لم تسعَ إلى إعادة النظر في بنيتها وتصوّراتها بعمق، ولم تطوّر وعيها طيلة العقود السالفة، الأمر الذي أبقاها دون رؤية حقيقية ودون مقدرة على وعي الواقع. فأصبحت حركتها استجابة لفعل السلطة، مما وسمها بالتعامل انطلاقاً من ردود الفعل، وحصرها في المستوى السياسي .

و كانت التحوّلات الاجتماعية توجد ظرفاً مفارقاً، وبيئة غير مؤاتية للفعل السياسي. لتأتي سطوة السلطة وآلتها القمعية تكميلاً لوضع، لكنها قادت إلى تدمير الحركة السياسية وكذلك تدمير السياسة في المجتمع. ولهذا باتت استجابة التمرّد والرفض في هذه المرحلة لدى بعض القطاعات ترتبط بـ «الوعي العادي» لدى الفئات الاجتماعية، أي الوعي الديني (بمعناه التقليدي الشعبي). وهذا ما أوجد إشكالية جديدة، حيث أن هذا الوعي لا يؤسِّس لرؤية واضحة للواقع، ولا يطرح بديلاً يتجاوزه. على العكس من ذلك فهو يؤسِّس لاستنهاض تناقضات الماضي التي هي عبء على صيرورة التطوّر، وعلى عملية التغيير، كما على مواجهة الأخطار .

و إذا كان الخيار الذي ينتصر هو خيار: الليبرالية، والديمقراطية المغروسة في شقوق الماضي وثلومه، والميل الإنكفائي (السوروي) المتنازل عن المسألة الوطنية، والمتكيّف مع العولمة الإمبريالية. فإن خياراً آخر يجب أن يُطرح، وأن يُعمل على بلورته، خيار يمثّل الطبقات الشعبية، خصوصاً العمال والفلاّحين الفقراء وكلّ الفئات المهمّشة في الريف والمدينة، الأمر الذي يدفع إلى إعادة صياغة الوعي والتصوّرات والتكتيك، المعبّرين عن كلّ هؤلاء. وهذا ما يجب أن تقوم به قوة ماركسية اشتراكية مستندة إلى العمال والفلاحين الفقراء، ومطورة صراعهم الطبقي ضد الرأسمالية الجديدة والقديمة معاً .

لكن هذا الأمر يفرض تحديد المشكلات الأساسية للحركة الشيوعية وكل القوى الماركسية التي نشطت خلال العقود السابقة، من أجل بلورة تصوّرات تتجاوزها، بالاستناد إلى وعي جديد بالواقع، وانطلاقاً من منهجية ماركسية منفتحة تستند إلى المنهج المادي الجدلي. وفي هذا الإطار يمكن ملامسة ست مشكلات جوهرية اخترقتها وتحكّمت في تكوينها. ولقد طال ذلك الحركة الشيوعية كما طال الحركات الماركسية (اليسار الجديد) التي حاولت تجاوزها دون أن تفلح في ذلك، حيث بدت الاختلافات سياسية أكثر مما هي جذرية تطال كلية البنية، أو بالأساس تطال الوعي وتمثّل الماركسية، رغم أن هذه الاختلافات كانت تضع الحركة الشيوعية والحركات الماركسية في موقع التعارض وأحياناً التناقض . ورغم أن هذه المشكلات تحتاج إلى بحث مطوّل ، إلا أن الضرورة تفرض تلخيصها في التالي :

1) الوعي المحدود بالماركسية، والانطلاق من أنها نصوص مكتملة غير قابلة للخطأ، وغير قابلة للإضافة. بمعنى أنها أصبحت تتضمّن «كلّ العلم»، الأمر الذي جعل هذه النصوص بديل الواقع، أو الواقع المحدّد مسبقاً. لهذا لم يتبلور الميل لوعي الواقع والبحث فيه من أجل الوصول إلى قوانينه المحدّدة في المكان والزمان. وبهذا غابت المسألة الأهمّ في الماركسية التي هي منهجيتها التي تسمى الجدل المادي، والتي هي أساس وعي الواقع وفهم متحوّلاته وتحديد رؤى تحويله. و لقد جرى التعرّف على الماركسية عبر الماركسية السوفييتية في الغالب، فجرى الالتزام بمبادئها وتصوّراتها السياسية. وهذه الماركسية هي التي حوّلت الماركسية من طريقة في التفكير إلى «نصوص مقدّسة»، الأمر الذي قاد إلى العماء من خلال بنية فكرية تحدِّد الواقع مسبقاً، وبالتالي تؤسس لحركة لا أساس واقعي لها، بعيدة عن مشروع الطبقة التي تطرح أنها تعبّر عنها، وبالتالي جعل كلّ العمل السياسي ضائعاً خلف أوهام .

هنا يمكن القول بأن النقلة الضرورية في الوعي لم تتحقق، فظل الوعي “تقليدياً” رغم الطابع الحداثي الذي يتغطى به. ولهذا ظلت تفكر من منظور منهجية قديمة عبرت عن عقل أحادي تشرّب الموروث التقليدي بدل أن يقطع معه. لهذا ركنت إلى النقل والحفظ، وتكرار النصوص والأفكار، دون وعي كنهها، وتمثل منهجيتها. وكان كلّ ذلك يشير إلى الفشل في وعي كنه الماركسية والإفادة منها من أجل وعي الواقع القائم في بلادنا. حيث ظلّت طريقة التفكير القروسطية هي المسيطرة، هذه الطريقة التي لا تستطيع تجاوز الشكل إلى المضمون، والجزء إلى الكلّ، ولا يمكنها فهم أن الواقع متحوّل. لهذا أبدلت مفرداتها التقليدية بمفردات ماركسية، واستمرت تنظر إلى العالم والأشياء من منطلق : مع أو ضد ، وكذلك : إما ، أو . الأمر الذي جعلها لا تستطيع مسك سوى حلقة واحدة، هي في الغالب ما هو مكشوف، وما يؤثر عليها مباشرة .

2) وحيث فقدت وعي الواقع فقد كانت سياسوية، أي تلامس «السطح السياسي» المتعلّق بالحدث والتحرّكات والنشاط السياسي الذي تقوم به الدول أو الأحزاب وما ينتج عنه من أحداث، دون أن تغوص في أساساتها ودون أن تبحث عن مسبباتها. لهذا فهمت الفكر على أنه البحث في المجرّدات، وفهمت الوعي على أنه «المعرفة الزائدة» عن حاجة العمل السياسي. وباتت معنية بالحدث أو التصريح الصحفي أو التحرّك السياسي، من أجل تحديد موقف مباشر، والذي يكون غالباً مع أو ضد، التأييد أو الشتم .

و هذه ممارسة تشير إلى الدور الانفعالي المتأثر بفعل ما، وبالتالي الذي يرى ما يحدث (أو ما يظهر على السطح) دون ملامسة مسبباته وفهم جذوره. مما أسّس لأن يتحوّل «فعلها» إلى ردّ فعل، وبالتالي باتت تلهث خلف الأحداث دون أن يكون لها المقدرة على التأثير فيها أو فعلها. لقد كان منطقها يتأسس وفق “مفهوم الهوية” الأرسطي، لهذا كانت الأمور تتحدد في: مع أو ضد. وهنا كان التناقض يعني رفض شيء ما، طبقة أو سلطة أو سياسة، الأمر الذي يجعل السياسة المتبعة هي المعكوس فقط. ليصبح الصراع مع البرجوازية هو تمجيد في البروليتاريا، والتشدد في فرض “دكتاتوريتها”. والصراع مع السلطة هو نقد لآلياتها السياسية، ولسياساتها فقط. ورفض الاستغلال الرأسمالي يعني طرح القضايا المطلبية للعمال، وليس المشروع السياسي لهم. وهو الأمر الذي أوجد “نضالاً سياسياً” من أجل الحريات أو الديمقراطية، ورفض لسياسات “خارجية” تمارسها السلطة، هذا من جهة، ونضال مطلبي فقط من جهة أخرى. بما يعني أن السياسة هنا لم تكن تعني المشروع الطبقي للعمال في سعيهم الوصول إلى السلطة لتحقيق نمط بديل، بل عنت نضال من أجل تحقيق مطالب معيشية من جهة، ومطالب “ديمقراطية” و”وطنية” من جهة أخرى، تلك التي تتعلق بسياسات إقليمية أو عالمية. وهنا كان غياب الوعي بالماركسية بما هي طريقة في التفكير سبباً جوهرياً في ذلك، الأمر الذي جعلها تنحكم للممارسة العفوية العشوائية القائمة على ردود الأفعال، وعلى برنامج مطلبي محدود الأفق .

3) وبالتالي فقد غلبت عليها النظرة التكتيكية، أي الانطلاق من الحدث ذاته فقط الذي بات هو « الحلقة المركزية »، والمحدَّد اعتباطاً ( أي دون دراسة شاملة للواقع )، والذي غالباً ما كان نتيجة الشعور المباشر بوطأة الحدث، الذي هو السياسي المتمثّل في السلطة، مما كان يجعل الديمقراطية هي « الحلقة المركزية »، أو الاحتلال الأمر الذي كان يفرض البحث عن التحرّر الوطني .

و لاشك في أن المنطق السياسوي كان يقزّم الواقع إلى مستوى واحد هو المباشر ( أي السلطة )، الأمر الذي كان يحدّد التكتيك في الوقوف معها أو ضدها. وإذا كان مفهوم « الحلقة المركزية » في الماركسية يعنى أن « اللحظة الراهنة » تفرض تكتيكاً محدّداً هو ما يشكّل الحلقة المركزية، فإن ذلك لا يكون إلا عبر بحث شامل في الواقع وتحديد لكل مشكلاته، وبالتالي للمهمات التي يطرحها. من هنا يكون التركيز في لحظة على مهمة ضرورة يفرضها الصراع الواقعي، وهي ضرورة متحوّلة، أي أنها ليست ثابتة لمدى متوسط أو طويل، بل تتعلّق بـ « اللحظة » ( بـ «الآن»)، وليس بالمدى المنظور. ولأن الواقع متحوّل فإن الحلقة المركزية متحوّلة، على ضوء المهمات العامة التي يطرحها الواقع في المستويات: الوطنية، وبالتالي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية كذلك .

إن غياب الوعي العميق والشامل فرض معالجة «السطح السياسي» فقط، وحوّل مهمة اللحظة الراهنة إلى مهمة إستراتيجية. لهذا باتت “الحركة هي كل شيء أما الهدف النهائي فلا شيء” كما كان يقول بيرنشتاين. إن الطابع الشكلي للوعي كونه لازال قروسطياً كان يجعل الحدثي (اليومي) في أساس السياسة، وفي أساس تحديد التكتيك، لكن دون رؤية إستراتيجية ووعي عميق بالواقع، وبالتالي تحديد واضح للخطوات الضرورية، والتي هي وحدها تستطيع أن تؤشر على المسألة الضرورية في كل لحظة، ومن ثم تفرض التكتيك الضروري. وهو ما كان يجعل حركتها عشوائية، وبلا تراكم يطور من قوتها .

لقد كان تعلقها بـ “السطح السياسي” يجعل تكتيكها مركزاً هنا، ويخضع لمتحولات الأحداث دون ارتباط بالوقائع التي تنحكم هذه الأحداث لها، لأن تلك الوقائع كانت غائبة، أو منفصلة عن السياق العام للتفكير. لهذا ظل التكتيك منحصراً في “مقاومة الاستعمار” في البلدان المحتلة، دون فهم لطبيعة التكوين والمقاومة والدور. أو مواجهة النظم دون معرفة بواقعها الطبقي، وبكيفية تطوير نضال الطبقات من أجل التغيير، وبتركيز على المستوى السياسي، والقضايا المطلبية كما أشرنا للتو .

4) وغياب وعي الواقع جعلها تكرِّر ما عممته الماركسية السوفييتية بخصوص المسألة القومية (و الذي كان سلبياً)، كما بخصوص المشروع الصهيوني، وأيضاً فيما يتعلّق بالمهمات الديمقراطية. وإذا كانت لم تطرح تحقيق الاشتراكية فقد طرحت التطوّر الديمقراطي البرجوازي (أي بقيادة برجوازية) كخيار، في وضع كانت البرجوازية عاجزة عن فعل شيء (سنوات 1937- 1964). وحين استلمت الأحزاب القومية وعملت على تحقيق المهمات الديمقراطية (تحت شعار أنها تحقّق الاشتراكية)، وبضغط سوفييتيّ قبلت التحالف معها لتحقيق «الاشتراكية» (التي لم تكن أكثر من أوهام فئات فقيرة ريفية). أو طرحت تحقيق الاشتراكية ودكتاتورية البروليتاريا في وضع لم يكن قد تجاوز القرون الوسطى وكان يحتاج إلى تحقيق مهمات ديمقراطية (الإصلاح الزراعي والتصنيع وتحديث التعليم والفكر ومؤسسات الدولة والديمقراطية والعلمنة). لقد كان الانطلاق من الرؤية التي عممتها الماركسية السوفييتية كارثياً هنا، لأن «الصورة الذهنية» التي نقلتها كانت تتعلّق بوضع البلدان الرأسمالية، الأمر الذي رسم الصراع الطبقي كما هو في هذه البلدان دون ملاحظة الواقع المختلف الذي تعيشه والذي كان لازال يتسم بأنه زراعيّ متخلّف، مما أدى إلى تهميش مسألة الفلاحين التي كانت جوهر الصراع نتيجة أن البنية الزراعية كانت هي البنية الأساسية من حيث عدد السكان ومن حيث الإنتاج. لهذا لم تستطع وعي الواقع العربي، ووعي مشكلاته. وصاغت «برنامجها السياسي» انطلاقاً من المفاهيم التي نقلتها الماركسية السوفييتية. فكان يجب أن تهمّش المسألة القومية لأنها نزعة برجوازية .

وكان يجب أن تدعم تطوّر الرأسمالية لأن الانتقال إلى الاشتراكية يفرض انتصار الرأسمالية أوّلاً. وكان يجب أن تركّز على العمال لأن الصراع هو بين البرجوازية والبروليتاريا، وبهذا أهملت الفلاحين. وكان يجب رفض الديمقراطية لأنها من صنع البرجوازية. وكان يجب القبول بالدولة الصهيونية لأنها أمر واقع، ولأن الإتحاد السوفييتي في إطار صراعه العالمي قبل بوجودها كما قبل بتقاسم العالم مع الدول الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية .

5) وكان كلّ ذلك يجعلها تنطلق من القبول بالأمر الواقع دون التفكير بتغيير الواقع، سواء في العلاقة مع السلطة حينما تؤيدها وتميل للتكيّف معها، أو وهي في المعارضة حينما تخضع لقوّة فيها. إن رؤيتها التي تنطلق من التأييد أو الرفض كانت تجعلها لا تطرح مسألة دورها هي بالذات، ولا تسعى للبحث عن فاعلية تمارسها لكي تتحوّل إلى قوّة، خصوصاً أنها لم تطرح في الغالب مسألة التغيير، ولم تعتبر أن دورها الأساس هو تحقيق التغيير، وبالتالي تطمح لأن تلعب دوراً قيادياً .

إن غياب تحليل الواقع منعها من أن ترى الدور الذي يجب أن تلعبه، وهو الدور الذي يشكّل ضرورة في مسار التطوّر. حيث ظلّت تفكّر من منطلق أنها تلعب دورها «في الظلّ» خلف قوى أخرى، وبالتالي كانت تخضع لمتطلبات تلك القوى، وتنشط انطلاقاً من برامجها. ولهذا لم تطرح على نفسها مهمة الوصول إلى السلطة، وظلّت هذه المسألة مكبوتة لأنها «مرعبة»، الأمر الذي جعلها تنطلق من أن السلطة هي لقوى أخرى .

البحث هنا ينصبّ على الفاعلية والإرادة، وعلى الاقتناع بأن للماركسيين دون ريادي في قيادة عملية التغيير، وأن مهمتهم تتمثّل في تفعيل الحراك المجتمعي من أجل إيصاله إلى مرحلة من القوّة تؤهله لفرض سلطة تمثّله. هذا الدور المبادر والمواجه والطامح، والقادر على أن يفعّل صراع الطبقات، وأن يجعله يتطوّر في اتجاه تغيير ميزان القوى الواقعي لمصلحة الطبقات الشعبية، هذا الدور هو ما كان ينقص القوى الماركسية .

6) ولقد كانت هذه القوى غير ديمقراطية في بنيتها، حيث ظلّت تميل إلى «التكوين التقليدي» القائم على العلاقات البطركية، وعلى التمايز بين المستويات «المقامات»، كما على ميل كلّ فرد إلى أن ينظر لذاته على أنه «الفرد المكتمل» وبالتالي مطلق الصحة وكامل المعرفة، رغم عدم اضطلاعه على الثقافة والمعرفة، ورفضه القراءة والبحث. وهو ما كان يجعل المسئول قريباً من الإله. و لاشك في أن استمرار بنية الوعي التقليدي كان يفرض استمرار العلاقات التقليدية، مما أدى لأن تتحوّل إلى «طائفة مغلقة» يسيطر عليها زعيم .

لكلّ ذلك، في اللحظة التي كان يجب أن تلعب دوراً فاعلاً وقيادياً (منذ تأسيس الحركة الشيوعية، وخصوصاً منذ سنة 1937، إلى انتصار الناصرية في مصر سنة 1952، والبعث في سوريا والعراق سنوات 1963 و1969) رفضت ذلك، وراهنت على مشروع برجوازيّ مجهض مسبقاً ومسدود الأفق. وحينما انتصرت الحركة القومية وأجرت تحوّلات مجتمعية، بات منطقها وباتت برامجها من الماضي، وتجاوزها الزمن، لتلتحق بالسلطة الجديدة، وأصبحت جزءاً من تكوينها رغم دورها الهامشي، وليفجّر ذلك بنيتها ويفتتها. لقد أضاعت الوقت المؤاتي للتغيير برسمها إستراتيجية تقوم على الالتحاق بالبرجوازية، لهذا التحقت بالفئات الوسطى. لكن انشقاقاتها والميول الماركسية الجديدة التي نشأت داخلها في الغالب، قرّرت أن تغيّر بعد أن أصبح الوضع غير مؤاتٍ نتيجة فعل الحركة القومية الذي قلت البنية الطبقية وحقق استقراراً طويلاً نتيجة ذلك .

و بالتالي لم تلامس كلّ محاولات تجديد الحركة الماركسية (وهي الموجة التي مثلت تشكل اليسار الجديد)، التي بدت كردّ فعل على سياسات الحركة الشيوعية، الوضع الجديد. ورغم تأكيدها على الإرادة وعلى ضرورة التغيير واستلام السلطة، فقد كان التكوين الطبقي الواقعي يشهد «وضعاً انتقالياً» قام على دعم الطبقات الشعبية للسلطة الجديدة أو على الأقل عدم الميل لمواجهتها، الأمر الذي جعل التغيير مستحيلاً. وربما كان هذا الوضع هو الذي أنتج كلّ تشوّهاتها. وكذلك ربما كانت إرادويتها تلك وفي الوضع المشار إليه، هي التي أنتجت ميلها الراهن، الاستسلامي الليبرالي، والمعادي للماركسية كذلك. لقد «تكسّرت» وهي تحاول إسقاط السلطة دون جدوى، الأمر الذي أقنعها بأن هذه السلطة هي كلية القوّة والجبروت، ولم تلحظ أن المشكلة تكمن في وعيها وفي رؤيتها للواقع ذاته، وبالتالي خوضها الصراع في لحظة خاطئة تكتيكياً .

إذن، لقد غابت الرؤية المبنية على وعي الواقع، مما قاد إلى سياسة خاطئة وتكتيكات في غير أوانها، وبنية تنظيمية ليست ديمقراطية. لقد إنبنت رؤيتها على تصور ينطلق من دورها الداعم لطبقة أخرى، هي البرجوازية، من أجل تحقيق “المرحلة الرأسمالية”، ولهذا كيفت مجمل سياساتها انطلاقاً من هذا المبدأ، فكانت ترفض أن تنظم العمال والفلاحين في سياق يجعل هؤلاء هم السلطة، عبر تطوير صراعهم الطبقي، لأنها كانت تنطلق من أن مهمات الواقع الديمقراطية هي من اختصاص البرجوازية، وهو الأمر الذي جعل موقفها من السلطة منوط بتولية البرجوازية في إطار نظام ديمقراطي، بينما تطرح هي المطالب المعيشية لهذه الطبقات في إطار مطلبي إصلاحي وليس في إطار ثوري طبقي. كما تكيفت مع البرجوازية التي كانت تهادن الاستعمار وتقبل في الحدود السياسية التي رسمها، وبالتالي فقد نظّرت للقطر/ الأمة. وأيضاً ابتعدت عن طرح قضية الفلاحين، التي كانت هي جوهر الصراع الطبقي آنئذ، نتيجة الموقف ذاك من البرجوازية. وبالتالي لم تعبر عن جوهر الصراع الطبقي، وتجاهلت الشعور القومي، كما لعبت على الشعور الوطني. لهذا تهمشت بعد أن أفضى تفاقم الصراع الطبقي إلى التغيرات التي أشرنا إليها. وكل محاولات تجاوز هذا المنطق إما كانت ردة فعل تطرفت في وضع لم يكن مؤاتياً، أو لم تنضج كفاية ومالت نحو اللبرلة .

  • Social Links:

Leave a Reply