يونادم يونادم
لقد أظهرت الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط قدرتها المتميزة على الاستمرارية والبقاء، وهو توجه يتناقض تماما مع التحولات الديمقراطية الجارية داخل بعض البلدان الناشئة الأخرى خلال العقدين الأخيرين، وقد وضع عدد من الباحثين دراسات في هذا السياق تحاول ان تشرح طبيعة وأسباب استمرار بقاء الاستبداد، رغم ان معظم تلك الدراسات تحاول الاجابة بان الشرق الأوسط يفتقد لبعض الخصائص الثقافية والسياسية الضرورية للتحول الديمقراطي .
لكن التنوع الموجود في كل بلد او داخل دول المنطقة والمتعلق بالمؤسسات والأوضاع السياسية-الاجتماعية القائمة يجعل من الصعوبة القول ان شروط التحول الديمقراطي غير متوفرة اطلاقاً. فالعناصر القيادية النشيطة داخل تلك الأنظمة ممن يقتصر هدفهم على ترسيخ هيمنة الدولة يقدمون من خلال ذلك النشاط وأساليب عملهم ادلة لمعرفة كيف يجري اضعاف ثم القضاء على أي نبض ديمقراطي. إذا تفحصنا نجاحات النظامين في كل من مصر وسوريا في كيفية الاحتفاظ بالقاعدة السياسية للسلطة التي تم تأسيسها على شبكة من العلاقات المدنية والعسكرية والأمنية والقادرة على منع المعارضة من أي تحرك ضدها عن طريق اللجوء الى الاكراه والقسر والضغط والعنف بهدف ترسيخ هيمنة النظام ودولته الاستبدادية وتوفير كل المتطلبات المالية لتنفيذ هذه الاجراءات القمعية واستغلال المكاسب والموارد المالية في سبيل ذلك. من الواضح ان اشتداد قوة المؤسسات الاستبدادية واطارها القمعي يترافق مع اضعاف وارضاخ المعارضة قسراً وإنهاك بنيتها، ويساعد على ذلك أيضاً الدور الحيوي للغرب والمصالح الاستراتيجية الأجنبية في دعم الأنظمة الاستبدادية كموقف تكتيكي باعتباره يمثل أهون الشرّين، ومن المؤكد ان الدور التاريخي الذي تلعبه الأجهزة الأمنية في تثبيت الأنظمة الحاكمة وتأمين الدعم لها لضمان قاعدة (شرعية) للنظام الحاكم وجهازه القمعي، هو دور أساسي في هذا المجال. ومن المهم في هذا المجال أيضاً هو الاحتفاظ بالجيش والقوى المسلحة بعيداً عن تدخل المؤسسات الأخرى. ان الحماس الثوري وانتشار جذوة الانقلابات خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي حصلت عن طريق الأقنية العسكرية، فالقادة تمكنوا من الاستيلاء على السلطة والتحكم بمصير الدولة عبر العمل العسكري ومن خلا ارتباطاتهم بالجيش والمؤسسة العسكرية ثم استخدموا الحوافز المالية والمراكز السياسية لتكوين أسس الدولة الناشئة. فعلى سبيل المثال قام (الأسد) بتشكيل توازن عسكري ومدني عن طريق الحرص على ترقية وتقديم شخصيات علوية بارزة وقادة عسكريين في المناصب الرئيسية داخل أجهزة السلطة والأمن مع التأكيد على ضرورة عدم اخضاع المؤسسة العسكرية للتوجهات السياسية وجعل ذلك هدفاً نهائيا للمؤسسة العسكرية، ثم قام (الأسد) بالتركيز على السلطة السياسية عبر زيادة الميزانية العسكرية الى 15٪ من الانفاق العام في عام 1986 بعد ان كانت تمثل 10 ٪ في عام 1970، كما استخدم (الأسد) أسلوب دفع الأزمة الى أقصاها للتأكيد على مركزية دور القوات المسلحة في مجابهة أعداء (سوريا) ، وأدى هذا الى جعل الحكومة التي يقع على عاتقها ضمان الأمن الداخلي، أكثر فعالية بفضل جعل المؤسسة العسكرية التي تعتمد عليها الحكومة للبقاء في السلطة تنتزع نسبة أكبر من المكاسب المالية ومن الازدهار الاقتصادي. وهكذا فان استعمال القوى الأمنية بهدف شلّ المعارضة وجعلها تعمل الى جانب آلية السلطة القائمة ضمن المناطق المحلية بهدف تركيز السلطة وإزالة كل اشكال التعددية السياسية التي يسمح بها نظام مكون من حلقات دائرية تحيط به من أجل حمايته. لقد جعل (الأسد) و(السادات) هدف حماية السلطة مسألة مركزية وابقائه هدفاً واضحاً ودقيقاً من خلال التشديد على القوى الأمنية والمؤسسة العسكرية في خدمة هذا الغرض ، واستطاع (الأسد) و(السادات) ان يحتفظا بالسلطة بعد قمع قوى المعارضة وإزالة ما تشكله من خطر بالإضافة الى تقوية الجهاز القمعي القادر على انجاز تلك الأهداف، وهذه العملية ذات الحدّين تجعل من الصعب على النظام الاستبدادي الانتقال نحو الديمقراطية .
من الواضح ان المعارضة كانت موجودة دائما، وأنها أكثر تنوعاً اليوم من أي يوم مضى وخاصة في بلدان مثل (مصر) و (سوريا)، كما ان دور الحركات الإسلامية والأحزاب المحظورة والمطالبة بإسقاط الحكومة والقيادة السياسية كان دوراً حيويا في مجال الاثارة وتحريك المعارضين، ولهذا فان قدرة الأجهزة الامنية لخدمة النظام الاستبدادي الحاكم في مجال قمع التحركات الجماهيرية للمعارضة يبدوانه يعتمد على عنصر آخر يختلف عن قابلية واهتمام ذلك الجهاز بالقمع والاضطهاد، فالجماعات المعارضة التي تلتقي وتتوحد حول قضايا الاضطهاد العالمي والنشاطات المرتبطة به تكون اكثر استعدادا للتحرك لمواجهة وتحدي الوضع القائم، بينما يقل ذلك الاحتمال لدى الجماعات التي تشرذمت وانقسمت نتيجة لموجات الاضطهاد والاحتواء . وهذا النموذج قابل للتطبيق في الشرق الأوسط أيضاً حيث لجأ النظامان في كل من سوريا ومصر الى (الاحتواء) عن طريق العمليات الانتخابية المحدودة والمقيدة او عن طريق بعض الإصلاحات السياسية التي تستهدف امتصاص الاحتقان والتوتر داخل المجتمع او عن طريق اللجوء مباشرة الى استخدام القمع وحملات الاعتقال ضد جماعات المعارضة وذلك من أجل ضمان وحماية مؤسسات النظام ومراكز القوة للسلطة الحاكمة وابقائها بعيدة عن التحدي والمواجهة .
في مصر جرى احتواء حركة الاخوان المسلمون عبر نظام يتشدد في تقييد الأحزاب السياسية في نفس الوقت الذي يسمح فيه بزيادة استخدام الدين كأداة للتعبير في اللغة السياسية وذلك لاسترضاء القاعدة الإسلامية الآخذة في التوسع بهدف جعلها أكثر اعتدالاً من خلال انخراطهم في وضع السياسة العامة، وبالإضافة الى تلبية بعض مطالبهم الخاصة. كما ان (مبارك) أضعف المعارضة الاسلامية حين جعل قبول التعددية امراً مشروعاً. كذلك الامر في سوريا، فإثر الانقلاب الذي قاده حافظ الأسد قام هذا باحتواء العناصر الاشتراكية المعارضة عن طريق ضمها الى (مجلس الشعب)، ثم لجأ الى تعديلات دستورية تدل على مدى الأهمية السياسية للإسلام، ثم شنّ الحملة الوحشية ضد الإسلاميين بعد انتفاضة مدينة (حماة) عام 1982. وكانت مجمل تلك الاجراءات تهدف الى إرضاء الجماعات التي تتضارب في مواقفها، لجعلها تعيد ترتيب تصورها وموقفها من شرعية النظام نفسه، في نفس الوقت الذي ارخى فيه العنان للأجهزة الأمنية لكي تشدد نشاطها القمعي من أجل اخماد أي تحرك جماهيري فعلي .
ان الانتفاضات والثورات التي نشبت في البلاد المعنية في الشرق الأوسط تثبت ان المعارضة تستمر في وجودها وان الشروط التي تؤدي الى قيام التحركات الجماهيرية ما زالت راهنة ويقابلها القمع من قبل الحاكم المستبد .
ان سياسات الإصلاح الاقتصادي التي طبقت في كل من مصر وسوريا سمحت للنخب الحاكمة في هذين البلدين بتمويل المشاريع العسكرية، ففي سوريا ارتفع عدد القوات المسلحة من 300,000 الى 500,000 بين عامي 1983 – 1985 ورافق ذلك دعم القادة العسكريين الكبار عن طريق ضمان الفوائد المالية لهم عبر المنشآت والصناعات العسكرية.
كما ان دولاً مثل العراق وسوريا التي يشكل الجيش فيها قاعدة لنظام الحكم تظهر مدى أهمية وفوائد النفط وما يقدمه من دخل يساعد القادة والحكام على ممارسة الاستغلال من أجل تمويل ودعم اساليبهم للبقاء في السلطة عن طريق ضبط التحركات الشعبية وكم افواه الأصوات المعارضة باستخدام كل الأساليب الاجرامية وأدوات القمع التي توفرها الدولة الاستبدادية، ويعتبر هذا هو العامل الأساسي الذي سمح باستمرار النظم الاستبدادية في الشرق الأوسط. أما أهمية العامل الدولي ودور القوى العالمية في دعم او تقويض تلك الأنظمة يبقى عاملاً مشتركاً لأن تلك القوى الدولية عندما تتطلب مصالحها لا تفرق بين الملكيات والجمهوريات. من الواضح ان الذي يقرر شكل النفوذ الأجنبي في المنطقة هو: استقرار امدادات النفط لبلدان (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) ، ثم التهديدات الموجهة من قبل المنظمات الإسلامية الإرهابية في إطار العولمة . فالولايات المتحدة الأمريكية قدمت المساعدات والأسلحة الى بعض تلك الأنظمة باعتباره أهون الشرّين حين يتعلق الأمر بإمدادات الطاقة وانتشار الإرهاب الإسلامي، فعن طريق تمويل تلك الحكومات وبيعها المعدات العسكرية التي وصلت نسبتها الى 40 ٪ من تجارة الأسلحة في العالم والموجهة الى كل من ايران وسوريا ومصر عام 2000 ، كما ان المخاطر الأمنية المرتبطة بالتعامل مع تلك القوى الخارجية تبقى قليلة مقارنة بالمشاكل الناجمة عن سياسة الإصلاح والتحول الاقتصادي وقد تصب هذه لفائدة القوى الإسلامية كما حصل في مصر، بالإضافة الى ما قد تحمله معها من مخاطر قد تؤدي الى اضطرابات في امدادات النفط بسبب نشوب الصراعات الداخلية .
كما ان ما قد يحصل من تأثيرات عفوية غير مقصودة لها دلالات مهمة ايضاً، فالمكونات الثانوية داخل تركيبة الدولة كالمنظمات والجمعيات المدنية على قلتها تساهم في تحصين الأنظمة الاستبدادية بتوفيرها أدوات بديلة للتدخل في الشؤون المدنية وذلك عن طريق التغلغل فيها لفرض برنامجها السلطوي والقضاء على استقلالية المنظمات غير الحكومية او الهيئات المدنية الدولية، فالتدخل القسري للسلطات في الشؤون المدنية للمجتمع له فعالية كبيرة في مجال اخماد الحركات المعارضة. من الثابت ان النشاطات التي تقوم بها الهيئات الدولية تؤدي في حالات كثيرة الى المساهمة بتشديد إمكانية السلطات الاستبدادية والنخب الحاكمة في تحصين وتقوية مراكزهم وقدراتهم على السيطرة. ان العامل المتعلق بنشاط الهيئات والمنظمات الدولية وتأثيره المزدوج والمتناقض من حيث كونه يقوض من جهة، ويحمي من جهة أخرى الدولة الاستبدادية . لقد تبنى كل من النظامين في مصر وسوريا خطوات مختلفة باتجاه التحديث والعصرنة المقترنة بالمساعدات الخارجية والتي جرى استخدامها من أجل مضاعفة قدرة السلطة على الاستبداد، ولكن رغم هذا التأثير السلبي يبقى للعامل الخارجي، يبقى للعامل الدولي دوراً هاماً في الكشف عن طبيعة تلك السلطة وتعرضها لتأثير وانتشار الفكر الحر والتكنولوجيا وتدفق المعارف والمعلومات وغيرها من سمات العولمة .
قد يكون الاستبداد متمسكاً ببقائه ومحتفظاً بسلطانه ولكنه أدى بالضرورة الى توسيع المعارضة الشعبية ومن ثم تحولها الى معارضة منظمة، والى ثورات لا تستكين ولا تهدأ. من الواضح ان بقاء الأنظمة الاستبدادية وقدرتها على الاستمرار لن يطول الى الأبد، كما يحاول قادة الاستبداد تكريس هذا الوهم، وتغذية أنفسهم به لأنهم اعتقدوا انهم أنشأوا أنظمة قوية تتحكم بمفاصل الاستبداد والقهر والقمع لسد الطريق امام طموحات الشعب المشروعة في أي تغيير سياسي.
Social Links: