قادش  أشهر المدن القديمة في وسط سورية ..

قادش أشهر المدن القديمة في وسط سورية ..

بقلم : خالد عواد الأحمد

 

صورة عامة لتل النبي مند

صورة عامة لتل النبي مند

إلى الجنوب من بحيرة حمص في زاوية تتألف من نهر العاصي الذي يجري في اتجاه الشمال ونهر فرعي يرفده ويصب فيه من الجنوب الغربي، تقع قرية (تل النبي مند) أو ما تُعرف تاريخياً بـ”قادش”، وهي المكان الذي جرت فيه أكبر معركة في التاريخ القديم بين أقوى قوتين في ذلك العصر وهما الحثيون والفراعنة .

وقادش بلدة كنعانية فينيقية كانت مبنية من الطوب يحيط بها سور له عدة أبواب, ورد اسمها في المصادر الحثية بلفظة (KINZA) ووردت في أرشيف قطنا باسم (كي ايدشي) (ID-SI-I-K) وورد اسمها مراراً في النصوص القديمة ولاسيما في وثائق معركة قادش ما بين (خاتوسي) ملك الحثيين و(رعمسيس) الثاني فرعون مصر عام 1272 ق. م .

غير أن قادش غابت عن مسرح التاريخ خلال النصف الأول من الألف الأولى ق.م، وغاب معها اسمها من المصادر التاريخية ثم عاد السكن إلى الموقع في العصر الروماني، حيث أُطلق عليها اسم (لاوديسيا ادليبانوم) أي اللاذقية المحاذية لجبل لبنان وأيضاً (لاوديسيا سكابيوزا) ولم تظهر أية صعوبة في التحقق من أن (لاوديسيا سكابيوزا) هي (تل النبي مند)، وذلك إثر اكتشاف خمسة ألواح طينية منقوش علي إحداها رسالة موجهة إلى (ايتاغاما) حاكم (قادش) المعروف في أرشيف (تل العمارنة) ووثائق أخرى تشير إلى ازدهار هذه المملكة بسبب وقوعها على طرق الجيوش والقوافل التجارية بين (أميسا- حمص) و(هيليو بوليس- بعلبك) عن طريق (ماوريكو بولس- جوسيه الخراب) .

أعمال التنقيب

أول من تعّرف على موقع (قادش) القديمة المعروفة في المصادر المصرية هو عالم الآثار الأمريكي (تومبسون) وذلك في عام 1840 وقد اعتمد في شرح فرضيته على المشهد الطوبوغرافي المصور بشكل لوحة تذكارية يخلد انتصار (رعمسيس) الثاني على الحثيين بقيادة (خاتوسيل) ذلك الانتصار الذي لولاه- كما يقول الباحث في شؤون التاريخ (كينيث كيتشين)- ما ذُكر اسم رعمسيس في التاريخ .

وأول بعثة تنقيب في تل النبي مند (قادش) كانت البعثة الأثرية الفرنسية، وكان ذلك خلال عامي1921- 1922م. وكان من نتائج حفرياتها التعرف على أن الموقع يضم سويات سكنية يعود أبكرها زمنياً إلى الألف الثاني قبل الميلاد وقد اصطدم المنقب آنذاك بجدارين دفاعيين للمدينة دعا أحدهما بالجدار الهلينستي، ودعا الثاني بالجدار العموري، وكان من أهم المكتشفات اللوحة التذكارية للفرعون (سيتي الأول) وهي مرتبطة حتماً بحملة هذا الفرعون على سوريا حوالي عام 1317 ق. م .

جرة فخارية عليها نقوش ورسومات عُثر عليها في قادش

جرة فخارية عليها نقوش ورسومات عُثر عليها في قادش

وبدءاً من عام 1975 قامت بعثة أثرية بريطانية برئاسة (بيتر بار) بأعمال التنقيب المنهجي في هذا الموقع وبإشراف المديرية العام للآثار والمتاحف وقد أيَّدت نتائج أعمالها صحة أن يكون تل (النبي مند) هو نفسه موقع قادش، وأن قادش كانت خلال عصور البرونز الحديثة من أقوى ممالك المدن السورية، وقد استهدفت مواسم التنقيب في هذا التل إلقاء الضوء على التاريخ القديم لوسط سوريا، حيث إن هذه المنطقة لم تشملها الأبحاث والحفريات الأثرية بعد بشكل كثيف. علما أنها قد لعبت دوراً هاماً في الصلات والعلاقات التي كانت تربط حضارات ما بين النهرين مع حضارة الساحل السوري .

وجرت بعد ذلك حفريات عديدة في موقع (قادش) ومنها حفريات البعثة الوطنية في صيف عام 1980 واستطاعت من خلالها العثور على 71 قبراً استُخرجت منها جرار فخارية ونقود من العصر الروماني وقوارير وحناجير زجاجية وأدوات برونزية وحلي إضافة إلى تماثيل مرمرية وأوانٍ زجاجية وكسر فخارية وتماثيل برونزية لأرباب سورية قديمة ترتدي أثوابها الطويلة وعلى رأسها قلنسوات وبيسراها صولجانات وأغلب هذه الكنوز الأثرية موجودة في أجنحة متحف حمص .

الحثيون على أبواب قادش 

ترجع أصول الحثيين إلى آسيا الوسطى التي جاؤوا منها وانتشروا ما بين حلب والفرات وحمص والخليل –واستقرت جماعة من الحثيين في حمص إلى جانب (الروثان) بعد يأس الآخرين من طردهم وتصاهر الفريقان واندمجا نسبياً، و ” شكّل الحثيون خلال الألف الثاني ق. م دولة قوية شملت أزمير وأنقرة وقرقميش وقادش وجبيل، وضّيق الحثيون شيئاً فشيئاً على العمالقة والأموريين، وأجبروهم على النزوح التدريجي إلى جنوبي سوريا” كما يقول الدكتور عماد الدين الموصلي في كتابه ( ربوع حمص بين الماضي والحاضر والمستقبل).

مشاهد معركة قادش بين الحثيين والفراعنة على أعمدة الأقصر

مشاهد معركة قادش بين الحثيين والفراعنة على أعمدة الأقصر

ومنذ ذلك الحين أخذت مملكة حمص تعاني من صراع الحثيين مع المصريين فقاد ملك حمص الحملة المتجهة إلى مرج بن عامر (مجدو) لرد فرعون مصر المتجه بجيوشه إلى سوريا، وكان تحت لواء ملك حمص في هذه المعركة ملوك سوريا الجنوبية وكنعانيو فلسطين حيث تمكَّن فيها (تحوتمس) /1503–1449/ من كسب المعركة ومحاصرة بلدة مجدو بمن فيها وفّر ملك حمص ناجياً بنفسه تاركاً أسرته وأسر زملائه أسرى لدى فرعون مصر، وقد قدّرت غنائم المصريين في هذه المعركة بـ (942) عربة و(2238) حصاناً و(200) حلة حربية وقضيب ملك حمص وصولجانه وخيمته الملكية وتمثاله المصنوع من الأبنوس المطّعم بالياقوت، ولكن المعركة الأبرز بين الحثيين والفراعنة كانت في مملكة (قادش)، وقد ذكرت لوحات (تل العمارنة) الكثير من محاولات الفرعون المصري (تحوتمس الثالث) لاحتلال قادش مرات عديدة وارتداده عنها دون دخولها أو محاصرتها، ولكن في عام حكمه الثالث والثلاثين وخلال حملته الشهيرة على بلاد الشام والتي وصل فيها إلى (كركميش) على نهر(الفرات) هاجم (قادش) وحاصرها واستطاع دخولها، وبعد هذا التاريخ حافظت قادش على ولايتها لتحوتمس الثالث، وتخبرنا حوليات الملك الحثي (نرشيلي الثاني) أن (ايتاكاما) ملك (قادش) قد اغتيل على يد ابنه (آري تيشوب) الذي جلس مكانه على العرش في العام التاسع لحكم (مورشيللي) عندما اجتاحت القوات الحثية بلاد (نخشي) إلى الشمال من حمص، ووصلت إلى أبواب (قادش) وكان هدف القوات الحثية من هذا الغزو احتلال (قادش) وأسر ملكها(ايتاكاما) الذي كان من أقوى أمراء بلاد الشام في القرن الرابع عشر، وعلى وجه التحديد في عصر العمارنة ، فأقدم ولده على اغتياله ليتجنب دمار المدينة ، ولم يمنع هذا العمل المفاجئ القوات الحثية من دخول المدينة فدخلتها وأسرت (آري تيشوب) واقتادته إلى الملك (مورشيللي) الثاني الذي كان يعسكر في بلاد (أشتاتا) إلى الشرق من (حلب) على (الفرات) وهناك عامله الملك الحثي بلطف وثبّته على عرش (قادش) معلناً ولاءه لأسياده ملوك حثي .

بين نشوة النصر ومرارة الهزيمة 

لم يرقْ هذا العمل لفراعنة مصر وحاولوا استعادة سيطرتهم على قادش وبلاد (أمورو) التي كان الحثيون يطمحون إليها أيضاً و(أمورو) تعني في اللغة البابلية (البلاد الغربية) أرض الساميين الغربيين، وكان لهم تاريخ حافل في منطقة حمص والهلال الخصيب فهم الذين أوجدوا الدولة البابلية القديمة في آكاد عام 2000ق . م، وشكّلوا دولة منظّمة شمال شرقي فينيقيا (سوريا الداخلية والشمالية) في عصر(تل العمارنة) وكانت دولتهم موضع صراع بين الإمبراطورية الحثية في الشمال وفراعنة مصر في الجنوب، وهكذا جّهز (رعمسيس الثاني) جيشاً قوامه 20 ألف مقاتل وسار بهم إلى شمال شرقي سوريا لقتال ملك الحثيين وكان ملك الحثيين بالمقابل قد جمع حوالي 40 ألف مقاتل أي ضعف الذي جاء بهم (رعمسيس) للقتال. وسارالطرفان للقاء بعضهما البعض وحدث أنه بسبب سوء الرصد والاستطلاع لدى الجيش الفرعوني أن فوجئت القوى الأساسية فيه بعربات الخيول الحثية أمامها فتشابك الطرفان بعنف، ولكن المفاجأة أذهلت المصريين فتفرقت قواتهم مذعورة ودبّت الفوضى في جنودهم، ووجد (رعمسيس) نفسه وحيداً بغير جنود يؤازرونه لكن الحظ حالفه بوصول قوات الإمداد المصرية فذُعر الحثيون واضطربوا وانقلب الموقف، وشاهد ملك الحثيين جنوده يفرون أمامه هرباً من الفرعون المندفع نحوه مع عسكره فانسحب بجنوده إلى ما وراء النهر .

مشهد من معركة قادش بين الحثيين والفراعنة التي انتهت بنصف هزيمة ونصف انتصار

مشهد من معركة قادش بين الحثيين والفراعنة التي انتهت      بنصف هزيمة ونصف انتصار

و هكذا انتهت هذه المعركة بنصف انتصار ونصف انكسار تقاسم فيها الحثيون والمصريون نشوة النصر ومرارة الهزيمة, و بعد هذه المعركة أصبح تفاهم الحثيين والمصريين ضرورياً فأرسل ملك الحثيين في عام 21 من شهر (TYBI) وفداً إلى مصر يحمل مشروع معاهدة مكتوبة باللغة الآكادية على لوحة من الفضة يقترح فيها الملك الحثي الصداقة والسلام الأبدي والمعاملة بالمثل، وهذه المعاهدة تعتبر- حسب رأي المؤرخين- من أجمل و أدق المعاهدات الديبلوماسية، و أحد نصوصها وُجد محفوراً على أعمدة الكرنك ووجد نص آخر ضمن ألواح المكتبة الحثية في هاتوشي حوالي عام 1925 وتُوجت هذه المعاهدة بزواج فرعون مصر من ابنة الملك الحثي (هاتوشيلي) .

  • Social Links:

Leave a Reply