قطنا حرف مضيء في سفر الإنسانية الخالد ..

قطنا حرف مضيء في سفر الإنسانية الخالد ..

عُثر في قطنة على الكثير من المعطيات الجديدة التي تضيء مرحلة هامة من تاريخ سورية في الألف الثاني قبل الميلاد .

احتلها الحثيون منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد فأحرقوها ونهبوا ثرواتها وسَبوا عدداً كبيراً من سكانها .

بقلم : خالد عواد الأحمد

اهتم علماء الآثار والباحثون في حضارات سورية القديمة منذ مطلع القرن الماضي بالبحث عن أوابد المدن والممالك التي ازدهرت عبر التاريخ الحضاري ، وغابت بعدها عن مسرح التاريخ وأضحت أطلالاً أو خرائب أو تلالاً أثرية، وقد أضاف اكتشاف هذه الممالك السورية القديمة الكثير إلى المعرفة الإنسانية وغير معطيات التاريخ وطريقة فهمه وقراءته، وفي الوقت ذاته قدم الشاهد تلو الشاهد بأن مهد الحضارة كان على هذه الأرض السورية في حقبة بعيدة كان العالم خلالها يعيش في ظلمات ما قبل التاريخ .

14925679_712270692264008_9020705131948970183_n

ومن هذه الممالك مملكة قطنة القديمة التي تبعد أطلالها/ 15 كم / إلى الشمال الشرقي من مدينة حمص، وتقع في البلدة المعروفة حالياً باسم ( المشرفة ) وقد ازدهرت قطنة وبلغت عصرها الذهبي مع مملكة كركميش – جرابلس – وإيبلا و قادش وحلب في الألف الثاني قبل الميلاد ، وتشير الوثائق المكتشفة والتنقيبات الأثرية التي أجراها عالم الآثار الفرنسي (الكونت دي منيل دي بويسون) في الأعوام مابين 1924 – و 1929 م إلى أن قطنة كانت عاصمة المنطقة خلال الألف الثاني قبل الميلاد، بل وكانت من أكبر المواقع الأثرية القديمة في سورية .

ورغم الأهمية التاريخية والحضارية إلا أن التنقيبات الأثرية التي أجريت في موقعها كانت محدودة إلى سنوات قليلة مضت بسبب إشغالها بالبيوت السكنية الحديثة التي انتشرت فوقها فأعاقت التوسع في أعمال التنقيب وبالتالي ظلت هذه المملكة الذهبية بكراً وعصية على الاكتشاف إلى أن ارتأت مديرية الآثار والمتاحف نقل سكان المشرفة من داخل السور إلى منطقة سكنية مستقلة غربي الموقع الأثري عام 1982 ، وبوشر بإجراء التنقيبات الحثيثة من أجل كشف معالم حضارة سادت في المكان قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام .

علاقات تجارية ..

أول من قام بالتنقيب الأثري في العشرينات من القرن الماضي هو الباحث الفرنسي (الكونت دي منيل دي بي سون ) وقد أسفر عمله عن كشف سبع مناطق موزعة في اجزاء مختلفة من الموقع ونقب عن المجمع المعماري الواسع للقصر وتوصل الى نتاج تشير الى وجود مجمع معماري كامل يتضمن منشآت ونشاطات سكنية ودينية كم تم العثور على سجلات معبد (الرب نين غال) التي أثبتت بجلاء أن(تل المشرفة) هو مدينة قطنة القديمة وقد كتب اسمها في هذه الوثائق ووثائق ماري والآلآخ ورسائل تل العمارنة ( قطنة ) أو بلفظة Qatana – في أرشيف( بوغاز سكوي)، أما في الوثائق المصرية فقد كتب ( ق.د .ن ) أي قطنة، و ” أوردته الوثائق الحثية بثلاث أشكال ( قطنة – جتما – كنتفا ) وليس لهذا الاختلاف البائن في كتابة الاسم أي مغزى فالمعول عليه هو كيف وردت في الوثائق المحلية ” وقد أعانت هذه التنقيبات الأثرية الباحثين في التحقق من موقع قطنة ، وأثبتت في الوقت عينه أن الموقع قد استوطن منذ الألف الثالث قبل الميلاد ، وكان على صلات وثيقة مع باقي ممالك بلاد االشام الأخرى وبلاد ما بين النهرين ، وقد عثر في بيوت وقبور سكان قطنة على جرار فخارية من صنع بلاد سومر نقلت فيها سلع تجارية من هنا وهناك ، ونحن وإن كنا لا نعرف على الأقل نوع تلك المواد فإننا نعرف على الأقل أن الجرار تعود إلى عصر سلالة أور الثالثة ( 2150- 1950ق. م ) وأور- كما هو معروف – هي مدينة الكلدانيين القدماء التي خرج منها النبي إبراهيم الخليل عليه السلام، ويبدو من كِسر تمثال إيتا ابنة الفرعون – أمنحوتب الثالث – ( 1929- 1898 ق. م ) التي عُثر عليها في قطنة أن هذه المملكة كانت ترتبط أيضاً مع مصر بعلاقات تجارية جديدة فاستحقت هذه الهدية الثمينة .

14961303_712305282260549_1060086174_n

مصلحة تاريخية ..

اعتمد دارسو تاريخ (قطنة القديمة) أكثر ما اعتمدوا على وثائق ماري والآلآخ (تل العطشانة ) ولا مندوحة من القول أن تاريخ ماري في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد كان يمثل تاريخ بلاد الشام الشمالية ، ولا غرابة في ذلك فنحن نعلم أن التنقيبات الأثرية في ماري قد بدأت في مرحلة مبكرة وأعطت نتائج جيدة منها أرشيف ضم عشرات الألوف من الرُقم التي سُطَّرت عليها نصوص رسمية قضائية وإدارية تضم مراسلات الدولة والأوامر الملكية والتنظيمات والرسوم والضرائب ومخصصات الكهنة والجزية المفروضة على بعض البلدان التي كانت واقعة تحت سيطرتها ، هذا بالإضافة إلى أن ماري كانت صلة الوصل بين ممالك بلاد ما بين النهرين و بلاد الشام، أضف إلى ذلك أنه كانت لماري وقطنة مصلحة مشتركة في معالجة شؤون البدو والقوافل التجارية وغيرها من الأمور لذا أخذت المشاورات المتعلقة بالبدو والمصاهرة والمساعدات العسكرية والشئون التجارية تدور بين المملكتين طيلة القرن الثامن عشر قبل الميلاد وبعد القرن الثامن عشر أصبح تاريخ قطنة مجهولاً لقلة الوثائق في خضم الأحداث التي شهدتها بلاد الشام خلال القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد مثل الصراع بين الفراعنة والحوريين والميتانيين، وبين الحثيين والميتانيين فوق أرض بلاد الشام ، وقد اكتنف الغموض موقف قطنة من هذه الوقائع والأحداث رغم أهميتها لأسباب مجهولة .

11cb56512f676a2b7b57cb02594fb755

وفي عصر العمارنة الذي يوافق حكم الفرعون ( أمنوفس الرابع ) اخناتون( 1377-1358 ق. م ) كان( أكيزي ) ملك قطنة موالياً للفراعنة ولملك أورفة (دمشق ) ( بيراوزة ) وقد ناصبه العداء ملك قادش ( أتاكاما ) و(آزريرو ) ملك آمور ، وعند منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد وفي عهد الملك الحثي ( شوبيليو ) احتل الحثيون قطنة فأحرقوها وسَبوا عدداً كبيراً من سكانها، فأفنوا زهرة مبانيها، ونهبوا ثرواتها وقضوا علىملكها اكيزي وبعد رحيل الحثيين عاد مَنْ تشرَّد من أبنائها وبَنُوها من جديد، وظلت كذلك حتى العصر البابلي الجديد، وبذلك انتهى دور قطنة كعاصمة استراتيجية في بلاد الشام وتحولت إلى بلدة عادية مثل غيرها بعد أن كانت حرفاً مضيئاً في سفر الإنسانية الخالد .

 

14872595_712305305593880_1775034511_nتمثال أبو الهول ..

كشفت أعمال التنقيب الأثرية التي قامت بها البعثة المشتركة السورية الإيطالية الألمانية في موقع قطنة منذ سنوات ما قبل الحرب عن الكثير من المعطيات الجديدة التي تضيء مرحلة هامة من تاريخ سورية في الألف الثاني قبل الميلاد والتي قد تغير الكثير من المعطيات العلمية وأهم ما تم العثور عليه ضمن هذه التنقيبات هو القصر الملكي الخاص بالعائلة المالكة آنذاك الذي يعود إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد وعُثر بداخله على أكثر من ستين رُقيماً مسمارياً بعضها سليم وبعضها الآخر مهشَّم وكلها محرَّرة باللغتين الأكادية والحورية وتعود إلى النصف الأول من القرن الرابع عشر، وهذه الرُقم سقطت من الأقسام العلوية في القصر الملكي إلى الطوابق السفلية أثناء انهيار القصر جرَّاء هجوم ( شوبيلوليوما الأول ) وتذكر هذه النصوص التي تسبق مراسلات تل العمارنة في مصر اسم الملك ( اداندا ) إضافة إلى أسماء العديد من المدن السورية مثل ( حالبا ونوحاشي وموكيش ) التي كانت في صراع معلن مع الدولة الحثية ، كما تذكر تلك المراسلات بوضوح نهاية الدور السياسي والعسكري للدولة الحثية وأجواء الاستعدادات التي كانت تقوم بها المدينة لمواجهة الهجوم الحثي حيث ينصح أحد أمراء شمال سورية ملك قطنة بتصنيع حوالي 18500 سيف برونزي وتقوية الأسوار وترميمها، ويضم القصر أقساماً عدة أهمها القسم الذي يشمل قاعة العرض وقاعة المحفوظات التي تتعلق بشؤون المملكة ، كما تم الكشف عن قبر ملكي منحوت في الصخر يقع في جانب قاعة العرش ، ويتم الوصول إليه عبر ممر أرضي طويل ينطلق من الجدار الشمالي لقاعة العرش وبطول يصل إلى أكثر من أربعين متراً يؤدي في نهايته إلى بئر جنائزي كبير تصل أبعاده إلى/ 3، 5 – 4،5 م/ وبعمق يتراوح بين خمسة وستة أمتار وجد عند قاعدته المدخل الذي يؤدي إلى المدفن المحفور بكامله في الصخر الطبيعي، وتم العثور داخل القصر على مجموعة من اللُقى الهامة التي كانت متوضعة داخل تابوتين من البازلت وهي عبارة عن قلادات وحلي ذهبية نقش عليها موضوعات هامة تعكس تأثر الفن السوري القديم بالفنون المصرية،

14961334_1256585311096936_317030406_n

وقد كشفت هذه اللقى عن طريقة تفكير أهل قطنة وطقوسهم الغريبة التي تمثلت في أنهم كانوا يكدسون الهدايا الذهبية والأحجار الكريمة والمجوهرات الثمينة في جرار أو مزهريات كبيرة ويضعونها أمام الأموات وكانت الأسرة المالكة والبلاط وأفراد الحاشية يجتمعون في “الناووس” وهو شكل للمدافن الجماعية كان معروفاً – آنذاك يجتمعون حول ثلاث طاولات وثلاث مساطب ضخمة ويتناولون وجباتهم الدسمة قرب التوابيت الحجرية أملاً في إشراك الراحلين في حياتهم اليومية وتتم الآن عمليات ترميم هذا القصر وبناء أساساته المنهارة من مواد أولية محلية تحاكي الأصل وتشبهه تماماً ومن المقرر ان يتم افتتاح هذا القصر أما السياح والزوار في مطلع العام 2006 كما ذكر ذلك المدير العام للآثار والمتاحف .

بمناسبة الاحتفال بانتهاء المرحلة الأولى من أعمال التنقيب ، إضافة إلى ذلك عُثر على تمثالين من البازلت المتقن النحت يقاربان الحجم الطبيعي وهما يمثلان رجلاً وامراة متماثلان في وضعية الجلوس واللباس وغطاء الرأس تبدو عليهما علائم الأبهة الملكية وأغلب الظن أن إحداهما يمثل “ملك قطنة” والثاني مليكته البارعة الجمال بعينيها الواسعتين الحانيتين رغم قسوة البازلت، ويرتدي كل منهما عباءة تغطي كل الجسم هي أشبه بالعباءة العربية المصنوعة من وبر الجمال إلا أنها مزركشة الحوافي كونها لباساً ملكياً ، كما التُقطت من الجهة الشمالية من سور قطنة القديمة آثار ترجع إلى العهد الروماني وبعض الزبادي الفخارية والأكواب التي كانت تستعمل آنذاك وبعض العظام المصنَّعة وقاعة جرار لحفظ المؤونة ترجع إلى العصر البرونزي الأوسط، كما عُثر أيضاً على تمثال كامل لأبي الهول أهدته الأميرة( إيتا ) ابنة الفرعون (امنحوتب الثاني) للمدينة عام 1910 قبل الميلاد، وعثر كذلك على قطع حجرية تمثل سكك للفلاحة من الحجر الأبيض والأسود وتعود هذه القطع إلى الألف الثالث ق. م ، وهذه القطع إن دلت على شيء فإنما تدل على أن قصة الزراعة قد بدأت هنا قبل أن تبدأ في أية بقعة أخرى من العالم وبدأت معها مرحلة جديدة من المدنية والاستقرار والابتكار .

  • Social Links:

Leave a Reply