الــشــهـــداء يــعــودون هـــذا الأســـبــــــوع ..

الــشــهـــداء يــعــودون هـــذا الأســـبــــــوع ..

صـبــحـــي دســـوقـــي 

( أخشى أن كل الشهداء في بلدي ما كانوا أكثر من موتى ) .

كم هي مؤلمة هذه الخشية والنبوءة والصرخة ، وكم هي جارحة ونازفة لأرواحنا ، في زمن تتعب فيه ذاكرتنا، ولا تقوى على استعادة كل الأحداث وتفاصيلها التي مرَّت بنا، وكنا أسرى لمسراتها وعذاباتها، وفي محاولة جاهدة لاستعادة وجوه وأرواح من كانوا بيننا، وتقاسمنا معهم الحياة بكافة تلويناتها وأحداثها ، وفي محاولة لإجبار الذاكرة على أن تبذل جهداً أكبر في التشبث بهم، وإعادة إحيائهم لتلمس ردات فعلهم على من خانهم ومن اغتال براءتهم وحلمهم بالحرية والكرامة، وإعادة وضع النقاط على الحروف المبعثرة، وتكبير المشهد ليعرض ويكشف من باعهم ومن استفاد من دمائهم، التي سكبوها من أجل وطن حر .

هي محاولة لإعادة استنطاقهم، ليقولوا لنا كل الكلام الذي كان مكبوتًا ومحظورًا، ولتسمية القتلة والخونة الذين باعوا الوطن ودماء الشهداء من أجل حفنة من الدولارات .

وتستحضر الذاكرة مسرحية شاهدتُها يومًا في دمشق، في تسعينيات القرن العشرين، وهي مستوحاة من رائعة الأديب الجزائري الراحل الطاهر وطار : ( الشهداء يعودون هذا الأسبوع ) . وفيها ردود أفعال من ظلوا على قيد الحياة وباعوا واستفادوا واستثمروا دماء الشهداء، لذلك يسارعون إلى حمل أسلحتهم والمرابطة حول المقابر لقتل الشهداء مجددًا، حين ينفذون رغبتهم في العودة إلى الحياة .

فيها الجبناء والمرتزقة وزوجة الشهيد وابنه وأقاربه وجيرانه الذين اقتنصوا الفرص وتسيدوا في مناصب كبرى ، ورجال أعمال زادت ثرواتهم ، كلهم اجتمعوا على منع الشهداء من العودة إلى الحياة ، كي لا يكشفوا تصرفاتهم الدنيئة وبيعهم لدماء الشهداء .

فيها تعرية وإسقاط لأقنعة كثيرة تصنعت الوفاء والعرفان للشهيد وما بذله كي يحرر وطنه .

وحتى صانع رمز قبر الشهيد يسارع إلى شراء الأسلحة ويوزعها على أعوانه وموظفيه ، ويدربهم على القنص وهو حريص على تشديده لأوامره لهم :

سددوا على رؤوسهم … لا أريد لأي منهم أن يصل إلينا … ومن يقتل منهم العدد الأكبر سأزيد له في المكافأة .

( – ماذا يكون موقفك كشيخ بلدية لو يعود شهداء القرية كلهم أو على الأقل البعض منهم .

وقال لنفسه، إذا ما عاد مصطفى ابنك، فسأنتقم لأبي، سأكل لحَمهُ بأسناني، في حين راح الشيخ العابد يؤكد لنفسه، لن أحدثه عن مصطفى فهو الذي اغتال أباه الخائن .

– مجرد سؤال خطر بذهني، وأرجوك أن تجيبني عنه بصراحة، بكل صراحة .

– الأمر بالنسبة لي بسيط، إنهم مسجلون في سجل الوفيات، وعليهم أن يثبتوا حياتهم من جديد، لن يتسنى لهم ذلك حتى تنتهي مدة انتخابي على الأقل .

– لكن الأمر يتعلق بشهداء .. بمجاهدين حقيقيين أعني .

– وإن كان … لن يلبثوا أسبوعًا ، حتى يتزيفون ، سيؤولون إلى ما آل إليه غيرهم ) .

الجارح فيها أنها تعرّي النظام الدكتاتوري الانتهازي والمستغلين والخونة والمهزومين الذين لا يعبؤون بمن استشهد من أجلهم، بل يمضون في استثمار تلك التضحيات وضخ المزيد من الأموال إلى أرصدتهم البنكية .

( لست أدري ماذا يرددون في دقائق الصمت التي يقفونها ترحمًا على أرواحهم، هل يقولون: تغمدكم الله برحمته الواسعة، أيها الأبطال الذين آثرتم الموت عن الحياة، لتسعدوا وطنكم وإخوانكم، وإن تضحيتكم ستكون قدوة لنا في مستقبل أيامنا وفي كل عمل نقدم عليه، أم يقولون أيها الرب إنك لطيف بعبادك، فلولا أنك أرحتنا منهم، لما تيسر لنا أن ننعم في هذه الحياة ) .

مرعبة هذه النهاية الدامية لقلوبنا وأرواحنا، حين يتحول شهداؤنا إلى مجرد أرقام، ويتم التحدث والتفاوض عن كل شيء إلا عنهم. (عندما تنتهي الحرب ويخلد الشهداء إلى النوم، يخرج الجبناء من الأزقة الخلفية ليحدثونا عن بطولاتهم) .

والسؤال الجارح الذي يصدم أرواحنا ماذا قدمنا للشهيد ولأهله ، وهل تذكرنا يومًا أن دمائه الطاهرة قد هدرت من أجل حريتنا وكرامتنا ؟؟؟ .

وهل سنترك مزاد بيع دماء شهدائنا قائمًا دون أن نتدخل ، أو نفعل شيئًا ، أو نكشف لعبتهم على الأقل للآخرين .

شهداؤنا في قلوبنا وأرواحنا، ولن نسمح لأي كائن بتجاوزهم أو نسيانهم، كل شيء يبدأ منهم وسينتهي بهم حتمًا .

هم شهداء الإنسانية والكرامة والحرية، ولا يمكن لأي كائن أن يحولهم من رموزنا وأيقوناتنا إلى مجرد موتى .

من أجل الكرامة، ومن أجل أن نكون ويكون كل السوريين أحرارًا في بلدهم الأجمل الذي حلم به الشهداء، والأروع الذي سيبنيه أبناؤهم والذي روي بدمائهم ، تلك الدماء ستظل أيقونة في أعناق من بقي، وبأيدي من سيظل على قيد الحياة ليبني سوريا من جديد، سوريا الحرية والكرامة، وستنهض سوريا كالعنقاء من تحت الرماد .

  • Social Links:

Leave a Reply