ليست قيمة “جُحا” في كونه “شخصيّة تاريخيّة حقيقيّة”، بل في كونه “شخصيّة ثقافيّة خياليّة”، أبدعتها المخيّلة الشعبيّة ليقول ما لا يستطيع النّاس قوله مباشرة وصراحة من نقد لمنظومات السلطة السياسيّة والثقافيّة والدّينيّة والمجتمعيّة؛ فهو الفيلسوف الناطق عن الوعي الشعبيّ، الضاحك المضحِك، الذي لم يكن شخصاً حقيقيّاً يُمكن أن يحاسَب فيعاقَب أو يُمنَع عن الكلام. فهو لا أحد من النّاس، ولكنّه في الوقت نفسه كلّ النّاس بوصفه حامل وعيهم وهمومهم، المعبِّر عنها بطرائف ومواقف تجمع بين “الذكاء” و”التغابي”، وهو الفارس الشعبيّ الذي يمتطي “الحمار” لا “الحصان”؛ فلـ”الحمار” ميدان “المدينة والمجتمع والسلم”، ولـ”الحصان” ميدان “الصحراء والجيش والحرب”. هو فارسٌ سلاحه “حِدّة اللسان والذكاء” لا “حَدّ السِنان والدماء”، حمَّله النّاس جيلاً بعد جيل مسؤوليّة قول ما يخافون قوله؛ فهو بغياب وجوده الحقيقيّ، ثمّ برمزيّة حكاياته، وفّر للمجتمعات مساحة لتناور “عنف السلطة واستبدادها” في التفتيش عن الآراء وأقوال المعارضين لها، فأصبحت “طرائفه” وسيطاً يعبّر عن وجدان المجتمع بنموذج تعبيريّ يجمع بين “البساطة” و”الوضوح” و”المفارقة الذكيّة”، و”عمق الوعي والنقد”.
في هذا المقال، سأقدّم نماذج من “طرائف جُحا” لنحفر ونكشف “كيف تكلّم جُحا”، لنصل إلى “المُضمَر” من وعيٍ تحت سطح “الطرفة” العابرة للزمان والمكان والمعبِّرة عن “الإنسان”.
1- جُحا و”فلسفة الخرافة”…
يُقال إنّ “جُحا” استعار قِدراً من بيت جاره، فتأخّر في إعادتها. وبعد أسبوع سأله جارُه عن القِدر، فذهب “جُحا” إلى البيت وعاد بقدرَين؛ قِدر الجار، وقِدرٍ صغيرة. فسأل الجارُ عن القِدر الصغيرة، فقال “جُحا”: هذه القِدر الصغيرة هي ابنة قِدركم، فقد كانت “حاملاً” حين استعرناها، لذلك تأخّرنا في إرجاعها حتى تلد، فمبارك ما جاءكم!
فرح “الجار” بالقِدر الصغيرة، وأخذ يُذيع بين النّاس أنّ القدور تلد عند “جُحا”! فلمّا سمع أهل القرية بذلك ذهبوا بجميع قدورهم إليه أملاً بأن تلد عنده!
بقيت قدور أهل القرية عند “جُحا” مدّة طويلة من دون أن يُرجعها، فلمّا استأخر أهل القرية الأمر ذهبوا إلى “جُحا” يطلبونها، ويرجون “ما ولدت” زيادة في الخير لهم، فقال لهم:
“والله لا أعرف ما أقول لكم! لكن قدوركم كلّها “ماتت” أثناء الولادة، هي وما في بطونها!”.
هاج أهل الحارة غضباً قائلين: يا كذّاب! وهل تموت القدور؟!
فقال لهم والابتسامة تعلو وجهه: وهل تحمل “القدور” أو تلد؟! فمَن صدّق أنّها “تلد” فليصدّقْ أنّها “تموت”.
في هذه الطرفة وعي عميق بموقف النّاس من “الخرافات”، فهم يصدِّقون “الخرافة” متى كانت “نافعة لهم”، تعود عليهم بالمصالح، أو كانت تعبّر عن “معتقداتهم الخاصة”، ولكن حين تصبح “الخرافة” غير نافعة، فإنّهم يرفضونها بزعم أنّها مجرّد “خرافات”. كما تنبئ عن غياب الوعي النقدي لـ”الخرافة” بما هي “خرافة”، ما يجعل “الخرافة” محكومة بموقف “النّاس” منها تصديقاً وانتفاعاً، فتصبح بعض “الخرافات” معتقداتٍ يجب احترامها لا لشيء إلا لأنّنا “نؤمن بها ونصدِّقها” وحسب، وتصبح “معتقدات” الآخرين خرافاتٍ لأنّنا لا نؤمن بها. ومثالُ ذلك مَن يُنكر “معجزاتِ الآخرين” بحجّة مخالفتها قوانين “الفيزياء الطبيعيّة”، ثمّ يؤمن بمعجزات دينه وثقافته مع أنّها تخالف قوانين “الفيزياء” نفسها! ما يدلّ على أنّ الموقف من “المعجزات” موقف “إيمانيٌّ محض”، وليس موقفاً “علميّاً”.
2- “جُحا” وتوظيف “الدين”…
يروى أنّ “جُحا” استأجر بيتاً، فوجد سقفه يهتزّ ويقرقع. فطلب من صاحب البيت أن يصلحه. فقال صاحب البيت: لا تخفْ، إنّما هو “يسبّح الله”.
فقال “جُحا”: وهذا -واللهِ- ما أخشاه، أخاف أن تدركه خشية وخشوع فـ”يسجد”!
هذه الطرفة تعبّر عن عمق الوعيّ الشعبيّ لمأزق “توظيف النّص الدينيّ” لتسويغ الأخطاء البشريّة، والتقصير في العمل والاستعداد، فتصبح “الكوارث” التي ينبغي أن يتحمّل المسؤولون وزر نتائجها مجرّد “قدر إلهيّ” يوظَّف النّصُ الدينيّ فيها لتكتسب قيمة دينيّة تغطّي الحقيقة الطبيعيّة والفعل الإنسانيّ الكامن وراء هذه الأحداث.
3- “جُحا” وسؤال العدالة والمساواة…
نزل “جُحا” ضيفاً على عائلة مكوّنة من الزوج والزوجة، وولدَين وفتاتَين. فلمّا جاء وقت الطعام جلسوا جميعاً إلى المائدة وعليها “خمس دجاجات”، فطلب “الرجل” من “حُجا” أن يوزّع الدجاجات بينهم، فسألهم “جُحا”: أتريدون توزيعها على الطريقة “الفرديّة” أم “الزوجيّة”؟ فاختاروا الطريقة الفرديّة.
فقال “جحا”: إذن، الزوج والزوجة ودجاجة يصبحون “ثلاثة”، والولدان ودجاجة يصبحون “ثلاثة”، والفتاتان ودجاجة يصبحون “ثلاثة”، وأنا ودجاجتان نصبح “ثلاثة”!
لم تعجب هذه الطريقة العائلةَ، فطلبوا أن يوزّعها على “الطريقة الزوجيّة”.
فقال “جُحا”: إذن، الزوج والولدان ودجاجة يصبحون “أربعة”، والزوجة والفتاتان ودجاجة يصبحون “أربعة”، وأنا وثلاث دجاجات نصير “أربعة”! ثمّ أخذ الدجاجات وبدأ يأكلها، والعائلة تنظر بحسرة!
يقدِّم “جُحا” نموذجاً لنمط من إدارة الثروات وتوزيع العوائد وتقاسم خيرات البلاد بين العباد شائع في الخبرة العربيّة والإنسانيّة قديماً وحديثاً، يُمكن أن نسميه “الفلسفة الاقتصاديّة الجُحويّة” يقوم على نهب “النخب السياسيّة والاقتصاديّة” المهيمنة وحاشيتها لخيرات البلاد وحقوق العباد، بينما يكون الفتات وسيلٌ من مواعظ “الصبر” و”التحمّل” و”الزهد” و”القناعة” نصيب عامة النّاس!
4- “جُحا” وفلسفة الإصلاح…
قرّر أحد الحكّام أن يبدأ بإصلاح التعليم في بلده، فجعلَ غاية الإصلاح أن يتعلّم “حمارُه” القراءة والكتابة! فأرسل يطلب المعلّمين، فاعتذروا جميعاً إلا “جُحا” الذي قبل التحدّي، ولكنّه طلب أن يمهله “الحاكمُ” عشر سنوات. فلمّا لامه النّاس لقبوله هذا التحدّي قال لهم: يا قوم، بعد عشر سنوات إمّا أن يموت الحمار أو يموت الحاكم أو أموت أنا!
وهكذا فإنّه حين تكون “دعوى الإصلاح” كاذبة تتغافل عن “الواجب والممكن”، وتضع لها أهدافاً “مستحيلة” لادّعاء الإصلاح لا غير، فليس للنّاس إلا أن يراهنوا على “الزمن والأقدار”، معتمدين سياسة “الانتظار” وليس منطق “صناعة الأقدار”.
5- “جُحا” وعمامة الشيخ وقبعة المثقّف…
طلبت امرأة من “جُحا” أن يقرأ لها رسالة من ولدها. ولمّا كان “جُحا” أميّاً لا يقرأ ولا يكتب، أخذ يتعذّر بسوء الخطّ. فقالت المرأة: لا تستطيع قراءة رسالة وأنت تلبس هذه “العمامة”؟! فما كان من “جُحا” إلا أن وضع “العمامة” على رأس المرأة قائلاً: خذي العمامة واقرئي الرسالة بنفسك!
تعبّر هذه الطرفة عن ثقافة سائدة في مجتمعاتنا ترى أنّ الفهم والعلم يُتوقّعان من الأشخاص لمجرّد لباسهم وأشكالهم وألقابهم، فيكفي أن يلبس أحدهم عباءة ويطلق لحيته ليصير “شيخاً” ناطقاً عن دين الله! ويكفي أن يحوز أحدهم لقب “دكتور” -ولو بالشراء والتزوير- ليصير من النخبة المثقّفة التي تفتي في كلّ شيء!
وبعد هذه القراءة لنماذج من “طرائف جُحا” يأتي سؤال مهم هو: إذا كانت هذه الشخصيّة الشعبيّة التي أنتجتها المخيّلة الجمعيّة تعبّر عن هذا الوعي العميق، فلماذا لم يكن لها أثر واضحٌ في “التغيير” الإيجابيّ؟
قد يكون أحد الأسباب هو أنّها “طرائف ونكت” تملك قوّة في “الطاقة التعبيريّة” عن وعي الشعوب ووجدانها، ولكنها في الوقت نفسه تعاني من ضعف في “الطاقة التغييريّة”؛ فـ”الطرفة” تعتمد “الترميز والإيحاء والإسقاط”، وتسعى إلى “الإضحاك”. والإيحاء يجعل دلالة الطرفة وإسقاطاتها على الواقع الثقافيّ والسياسيّ محتاجةً لقدر من تعاون “المتلقّي” قد لا يبذله المتلقّون غالباً لأنّهم يتداولونها بوصفها تراثاً أو منجزاً شعبيّاً “خفيفاً” يُساق في المجالس لغرض الإضحاك والسخرية، وليست بوصفها “نصوصاً راقية” تُدرَس وتُحلّل. وباجتماع غرض “السخرية والإضحاك” مع أسلوب “التلميح والرمزيّة” تصبح “الطرفة” وسيلة من وسائل “تنفيس الاحتقان والغضب والرفض”، فـ”الضحك” من وسائل استعادة “التوازن النفسيّ”، و”النقد الحقيقيّ” بحاجة إلى رفع مستوى “القلق النفسيّ والاحتقان الإيجابيّ” تجاه الظاهرة المرفوضة، حتى يتحوّل “الشعور بالرفض” إلى “فعل رافض” يغيّر الواقع “المرفوض”.
ولذلك، نلاحظ عموماً أنّ “الأنظمة المستبدّة” سياسيّاً وثقافيّاً أكثر تساهلاً مع مظاهر “الأدب الساخر” من “الكتابات الناقدة الجادّة” فكراً وأدباً، بل يتحوّل “الأدب الساخر” أحياناً إلى حليف للسلطة السياسيّة والثقافيّة ينزع فتيل الغضب الشعبيّ ويمنعه من الانفجار.
Social Links: