مالك بن نبي وسيد قطب جدلية الحضارة والتخلف

مالك بن نبي وسيد قطب جدلية الحضارة والتخلف

مالك بن نبي وسيد قطب جدلية الحضارة والتخلف

وحدة الدراسات التنويرية في مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلاميمينا

تدخل العلاقات بأنساقها الثلاثة السياسي والاقتصادي والاجتماعي في علاقات جدلية في ما بينها تحدّد ملامح التنمية بشموليتها في مجتمع ما. ولا يمكن فهم التنمية ومعوقاتها الحقيقية بغير معرفة الأسباب الجوهرية التي تضع هذه التنمية في مرتبة دنيا، أو في حالة تخلفٍ مُبين قياساً على تنمياتٍ أخرى في البلدان المتقدمة.

ولعلّ التركيز على الأسباب العميقة للتخلف سيخدم بالضرورة النهضة الفكرية، ويُعدّ مالك بن نبي أحد أعلام العرب المتخصصين في مجال الفكر الإسلامي خلال مرحلة القرن العشرين، وهو من الأشخاص الذين ساهموا في إحداث نهضةٍ فكريةٍ إسلاميةٍ في العالم، ويُعدّ واحداً من الأشخاص الذين أكملوا مسيرة ابن خلدون(1).

مالك بن نبي الذي وُلدَ في يوم الفاتح من كانون الثاني/ يناير عام 1905 في مدينة قسنطينة، وهو ابن الحاج عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي(2). عاش في مدينته، حيث درس القرآن في طفولته، ثم انتقل ليكمل تعليمه الابتدائي في المدرسة الفرنسية.

لم يدرس مالك بن نبي الدين بوصفه ديناً، بل حاول معرفة الجذر الحقيقي الذي ترتكز عليه النهضة الحضارية، لذلك كان معنياً باكتشاف العلاقات الجدلية بين النهضة الحضارية والتخلف، وهو ما ستذهب إليه هذه الدراسة بغية تسليط الضوء حول هذه الجدلية.

إنّ عدم محدودية نظر بن نبي ونضجه الفكري جعلاه يربط ثقافته الإسلامية بالقضايا المجتمعية المحيطة به، لذا نجد أن أفكاره جمعت بين الفلسفة الإسلامية والغربية، وركّزت دائماً على البناء والنهضة(3).

  • الواقع الحقيقي وفق رؤية بن نبي

يمكن للباحث والمفكر -مثل مالك بن نبي- أن يحاول معرفة الواقع الحقيقي من منطلق مكونات هذا الواقع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقبل المكونات كلها يبرز المكون الفكري الذي يحكم منهج الرؤية إلى الواقع، ويحكم آليات تحليل هذا الواقع ومفهوماته. وتقوم رؤية بن نبي على مفهومٍ متوازٍ من العلاقات بين معطيين، هما الكمُّ والكيفُ، أو بصورة أخرى الروح والمادة هذه العلاقات بينهما هي قوة الدفع الأساسية لمفهوم الحضارة لدى مالك بن نبي.

إنّ البحث في جدل هذين المعطيين يدفعنا إلى افتراض أنه ما كان للحضارة أن تقوم إلا على أساسٍ من التعامل بين الكمّ والكيف، بين الروح والمادة، بين الغاية والسبب. فأينما اختلّ هذا التعادل في جانب أو في آخر كانت السقطة رهيبةً قاصمة(4).

إنّ اختلال العلاقة بين الروح والمادة سيؤدي بالضرورة إلى ظهور أمراض الأمة، هذه الأمة التي تعاني تدنياً كبيراً على مستوى نهوضها الحضاري، بسبب علاقتها بالاستعمار. فالاختلال سيؤثر في جوهر قوة الدفع الحضارية، ولذا يمكن القول إن مالك بن نبي لم يكن رجل دعوة إصلاحية، ذهبت دعوته إلى إصلاح الواقع بإجراءات محدّدة، بل كان بن نبي مفكّراً معرفياً، يمتلك منهجاً واضحاً في البحث والدراسة والاستخلاص. ولهذا طرح السؤال الأهم الذي يتلخص في (عبارة لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم).

هذه العبارة تدفع إلى البحث في الأسباب المادية والروحية التي تسبّب تأخر المسلمين على الرغم من إيمانهم وتقدّم غير المسلمين على الرغم من كفرهم. ولهذا يمكننا افتراض أنّ مالك بن نبي اشتقّ بنفسه مدرسةً فكريةً كان لها أثر واضح في تحديد وضع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، وبخاصة أنّ فكر بن نبي اهتمّ بدراسة مشكلات الأمّة الإسلامية انطلاقاً من رؤية متوازنة ومتكاملة. ووفق هذه الرؤية والمنهجية بدأت تظهر أمراض الواقع الإسلامي أمام عيني بن نبي وعقله، إذ إنه رصد أثر الاستعمار في المجتمعات الإسلامية، كما رصد طبيعة اليقينية الفكرية لدى التيار الفكري الإسلامي السائد. رؤية ومنهجية بن نبي دفعته إلى البحث في ضرورة الإقلاع الحضاري من حالة التخلف. ولذا حدّد مشكلة النهضة، وقال إن النهضة تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية، هي مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت، وأنّ العلاقة بين هذه الأنساق الثلاثة المكونة لبنية النهضة تقوم بينها علاقة جدلية وفق معادلة هي : إنسان + تراب + وقت = مُنتج حضاي. وبافتراض أن الإنسان هو الفاعل الحقيقي في النهضة، فهذا الإنسان يحتاج إلى وجود قوة روحية هي الدين الذي يرى مالك بن نبي أنه محرّك للإنسان وفق تكوّن معادلة جديدة هي (إنسان + تراب + وقت) مضروبة بالعامل الديني = حضارة. فالمنتج الحضاري في رأي بن نبي، هو المادة الأولى التي يقوم عليها استمرار الشعب وأمنه القومي، ولهذا هناك علاقة بين الطاقة البشرية الفاعلة التي تقدر على إنتاج المنتج الحضاري والمعادل الفكري والأخلاقي (الدين). هذه العلاقة هي من ينهض بالأمة ويبني عمرانها، ويمنحها القوة والمنعة.

معرفة الواقع الحقيقي لدى بن نبي هي معرفة جدل الفكر مع الواقع الحياتي، وهو ما يعني إعادة إنتاج وعينا للواقع بعيداً من النمطية السكونية أو ثبات المقولات التي تعجز عن فهم حركة الواقع وما تُحدثهُ من تغيرات.

  • بن نبي وابن خلدون والنظرية التنموية

يصوّر كثير من المهتمين بشؤون الفكر العربي والإسلامي فكر مالك بن نبي على أنه امتداد وتطوير لفكر العمران عند ابن خلدون. ومعنى العمران لدى ابن خلدون يقابله مصطلح عصري هو التنمية الشاملة. والتنمية هي حصيلة معطيات متعددة متضافرة تُنتج عمراناً أو تطوراً حضارياً. وبما أن التنمية حصيلة عناصر متعددة فهي تتأثر بالضرورة بهذه العناصر المكونة لها وأيُّ اختلال في عمل أحد العناصر وصحته أو غيابه سينعكس ذلك على التنمية. لهذا قال ابن خلدون إنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول(5).

استطاع ابن خلدون أن يلخص هذه الرؤية النسبية لحركة الزمن وتطور الجماعات ويكثفها في أطوارٍ تمرّ بها الدولة تبدأ من لحظة التأسيس إلى لحظة السقوط. فوجد الدولة تمرُّ بخمسة أطوارٍ هي التأسيس والانفراد بالملك والفراغ والدعة والقنوع والمسالمة والإسراف والتبذير. الأطوار هي مراحل زمنية تحتاج إلى الوقت والمراكمة المادية، ومن ثم فإن التراكم المادي سيُحدث تغييراً عميقاً في بنية السلوك الاجتماعي، وهذا ما ينعكس على أداء الدولة ومستقبل وجودها.

استطاع ابن خلدون عبر فهمه لمفهوم العمران أي التنمية الشاملة أن يكتشف أنّ الإنسان مدني بطبيعته، والمدنية تحتاج إلى مجتمع تجري فيه العلاقات الإنسانية وعلاقات العمل والإنتاج، وهذا ضرورة للعيش وللدفاع عن المدنية، وهو يتسق مع مراد الله في إعمار الكون المستخلف فيه. لكنّ ابن خلدون يعرف تماماً أن أصل العمران الحضري هو العمران البدوي (علاقة الريف بالمدينة أو علاقة البادية بالمدينة)، وقد اكتشف أن العمران الحضري أكثر قابلية واستعداداً للتطور في المجتمع الحضري منه في مجتمع البادية. العمران يحتاج إلى حرفٍ وصنائع كالفلاحة والصناعة والتجارة، وهذه الأبواب هي من يحقق رخاء المجتمع ورفاهيته، فإذا تطور العمران بصورةٍ ايجابية نجد العلم والتعليم مزدهرين، أما إذا تراجع تطور العمران تراجع معه العلم والتعليم.

في المقابل -بقراءة عميقة لفكر مالك بن نبي- سنجد أن فكره يعبّر عن رؤية منهجية واضحة، إذ إنه قدّم أمر الأزمة الفكرية في الأمة على غيرها، وافترض أنّ داء الأمة يتعلق بفكرها، وأن أي تغيير لتخلف الأمة يحتاج إلى إعادة النظر في مسلماتها الفكرية أو رؤاها الفلسفية. بمعنى آخر يتلخص الداء ويتكثف في البنية المعرفية والمنهجية لدى الأمة، وهو ما يجب أن يُعالج.

درس مالك بن نبي دورة الحضارة، وهو هنا يُعيد إنتاج فكر ابن خلدون وفق فارق الزمن بينهما. ورأى أنّ دورة الحضارة التنمية الشاملة تمرّ عبر ثلاث مراحل هي مرحلة النهوض، ومرحلة العقلانية، ومرحلة الانحطاط والانحلال.

يرى مالك بن نبي أن مرحلة النهوض ناظمها فكرة دينية تستند إلى تركيب عناصر الحضارة، وتحتاج إلى تنظيم الطاقة الفاعلة لأفراد المجتمع. العمل والحركة وفق هذه الفكرة يحرران الإنسان في مرحلة صعوده من هيمنة الغرائز وأسرها. وتربطه هذه الفكرة بقدرتها الروحية الدينية. الفكرة هنا فكرة توحيد للطاقات وللعقل البشري وللروح الإنسانية، وهذا ما يجعل من دورها عامل ربطٍ واتساقٍ تُظهرُ بنية مجتمعٍ متعاونٍ وقوي. لكنّ هذه المرحلة لها سقف لدى مالك بن نبي يتمثّل في مراكمة الثروات والنجاح في التنمية الحضارة. وهو ما يُعيدُ النظر في جوهر المرحلة الأولى، أي دور الفكر الديني، لينتقل الأمر إلى مرحلة العقلانية أو مرحلة الانعطاف. فالتراكم المادي وما ينتج منه من توسيع العلاقات في المجتمع الوليد سيؤدي إلى تراجع سيطرة الفكرة الروحية الدينية المغلقة على الذات، ليبدأ دور الفاعلية الاجتماعية المتسمة بالعقل.

إذاً تتراجع الوحدة الروحية لمصلحة عمل العقل ونقده ورؤيته. وهنا تتقدّم الطبيعية لدى الإنسان والمجتمع لتفرض سيطرتها شيئاً فشيئاً.

إنّ تراجع الفكرة الدينية كما يرى بن نبي سيقود بالضرورة مسار الحركة الاجتماعية للمجتمع نحو الانحطاط والانحلال. حيث لا يعود للفكرة الدينية أي وظيفة اجتماعية، وتتفكك شبكة العلاقات الاجتماعية عبر تفكك المجتمع إلى أجزاء لا روابط بينها، وبهذا تنتهي دورة الحضارة أي التنمية الشاملة.

إنّ مشكلة النهضة الحضارية لدى مالك بن نبي يمكن تلخيصها في ثلاث حالات أساسية وهي: مشكلة الإنسان ومشكلة التراب ومشكلة الوقت.

رأى مالك بن نبي رأى علاقة هذه المشكلات مُنتجاً حضارياً، فالإنسان هو الفاعل الرئيس في الحضارة، لأنه هو من يُنتجها، ولكن كيف لهذا الإنسان أن يُنتج الحضارة من دون توافر الثروات الطبيعية التراب، ومن دون حساب الزمن واستغلاله بصورة صحيحة. هذه الرؤية تقود إلى ضرورة أن يكون لدى المشكل الأول الإنسان محرّكاً هو القيم الأخلاقية، وهذا ما يوفره الدين في رأي بن نبي. فالدين جزء رئيس من معادلة الحضارة التنمية الشاملة. والتاريخ يكشف أهمية هذه الحالة، ومن ثم تُصبح الحضارة هي (إنسان + تراب + وقت) مضروبة بالعامل الديني. هنا تتضح رؤية مالك بن نبي المتعلقة بمفهومه عن المنتج الحضاري الذي يشكّل قاعدة الأمن والاستقرار لكل مجتمع. فالإنسان المدرّب والمسلّح بالفكرة الخيّرة، إضافة إلى وجود الثروات واستغلال ذلك خلال زمن محدّد، لا بدّ أن يُثمر بالحضارة التنمية الشاملة.

  • النهضة ومشكلاتها

تعتمد النهضة في أي مجتمعٍ من المجتمعات الإنسانية على شروط عدة، إن تضافرت واتسقت أنتجت مجتمعاً حضارياً. ومعنى حضاري هو درجة التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعلمي والفكري إلخ، فلا يمكن لنهضة اقتصادية أو علمية أن تنهض بمجتمعٍ من دون توافر الشروط اللازمة لهذا النهوض. النهوض يعني إسقاط التخلف، والتخلف مفهوم يدلّ على تدني عمل الأنساق المشكّلة للنهضة، بحيث تكون في أدنى مستويات عملها، وتكون الروابط بين هذه الأنساق غير متسقة، بل ربما تقع في حقل التناقض والصراع.

إنّ أهم شرط للنهضة هو الفكر الناقد والقادر على تحديد مشكلة التخلف وأسبابها، والمجتمعات الإسلامية لا تجتهد في هذا الباب، بما يخدم تطور مجتمعاتها وفكرها. إنّ الأفكار لا تتمتع في المجتمع الإسلامي بقيمةٍ ذاتية، تجعلنا ننظر إليها بصفتها أسمى المقولات الاجتماعية، وقوة أساسية تنظم وتوجه قوى التاريخ كلّها، وتعصمها بذلك من محاولات الإحباط مهما كان نوعها، وهذه الثغرة تعود في تكوينها إلى شيء من التخلف في تطورها الاجتماعي(6).

يرى مالك بن نبي أن التخلف ليس موسوماً بتوفر الوسائل المادية أو نقصها (الأشياء)، وإنما بافتقاره إلى الأفكار، وطريقة استخدامه للوسائل المتوافرة لديه بقدر متفاوت من الفاعلية. نقص الأفكار وضعفها وعدم قدرة المفكرين والمثقفين على وضع الفكر ضمن مناهج نقدية علمية، تجعل من هذه الأفكار ذات درجة ضعيفة في فهم المشكلات الاجتماعية وطرحها، وهي تحوّل المثقف إلى محض إنسان يؤمن بعقيدة يتوهم أنها هي الحقيقة، وهذه وثنية فكرية.

إذاً إنّ روح النهضة وتقدمها يعتمد على ضرورة وجود فكرٍ حرٍ ناقدٍ للمجتمع وظاهراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. هذا النقد في واقعنا الإسلامي الحالي يكشف لنا كما كشف لمالك بن نبي أننا نفتقد إلى شبكة اتصالات ثقافية، تحمل مشروعاً نهضوياً حقيقياً.

إنّ المسؤول عن هذه الحالة المتخلفة هو المثقف المسلم، الذي ما تزال مهمة التصدي للخلل الاجتماعي والاضطراب في نظام الفكر من مسؤولياته، ومن مهماته الأساسية أيضاً غياب وسائل الفاعلية. إنّ هذا العزوف لدى المثقف المسلم عن التصدي لكل المشكلات في مجتمعه تعود إلى قناعته الضعيفة بأهمية القيمة الاجتماعية للأفكار، لذلك يمكن القول إن المثقف المسلم يؤدي دوراً في تفاقم أزمة نهوضنا الحضاري، بدلاً من المساهمة في التصدي لها والعمل على معالجتها.

ينتقد مالك بن نبي في هذا السياق ما يُطلقُ عليه مصطلح المتعالم أي المثقف الذي يظن نفسه يعلم كل شيء، ويعمل على تحويل فكره بما يخدم حاجاته ومطامعه، وهذا يعني أن من يحمل هذا المصطلح هو مثقف سلطة الأمر الواقع.

  • النهضة لدى مالك بن نبي وشروطها

كان التقابل بين التخلف وأسبابه العميقة والنهضة وشروطها الأساسية لدى مالك بن نبي هو محور مشكلات الحضارة التي تصدّى لها عبر مشروعه الفكري الكبير. فهذا المشروع الذي درس جدلية العلاقة بين التخلف والنهضة، وجد أنّ مشكلة كل شعبٍ هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعبٍ أن يفهم أو يحلّ مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمّق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها(7).

لذلك يرى مالك بن نبي أنّ أيّ حضارة لا يمكن أن تبيع جملة واحدة الأشياء التي تنتجها، ومشتملات هذه الأشياء. أي إنها لا يمكن أن تبيعنا روحها وأفكارها وثرواتها الذاتية وأذواقها. ولذلك فإن المجتمعات المتخلفة تشتري من المجتمعات المتقدمة سلعاً حضاريةً تستخدمها في حياتها، من دون أن تعرف خصائص الأفكار وأسرارها وقيمتها التي تقف وراء إنتاجها وإبداعها.

وللتصدي لهذه الحالة ينبغي العودة إلى الدرجة النهائية للجذور الفكرية والثقافية العربية الإسلامية، والعمل عليها وفق رؤية تطويرية ونقدية، تسمح بردم الهوة السحيقة الفاصلة بين الحضارة العربية الإسلامية السابقة والمجتمعات العربية التي ما تزال تنهل من ثقافة الدروشة والتخلف التي تكيّفت مع هذه الحالة.

وينتقد مالك بن نبي موقف الشعوب العربية والإسلامية في مرحلة انتشار ظاهرة الاستعمار الغربي، ويرى في موقف هذه الشعوب موقفاً يستند إلى مرجعية ذهنيّة تقدّس البطولة والشجاعة، وتنسى أسباب الضعف وحالته التي تعيشها. هذه الأسباب هي جزء أساسي من استدعاء المستعمر الخارجي (الضعف والوهن) كي يزحف على هذه البلاد. ولرؤية هذه الحالة بصورة أوضح يمكن القول: لقد كان دور الشعوب الإسلامية أمام الزحف الاستعماري خلال القرن الماضي، وحتى الربع الأول من القرن (العشرين) دوراً بطولياً فقط، ومن طبيعة هذا الدور أنه لا يلتفت إلى حلّ المشكلات التي مهدّت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد(8).

إنّ رؤية الأمة في لحظة تاريخية لموقعها في دورة الحضارة البشرية يتطلب بالضرورة معرفة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي معرفة علمية. ويتطلب وضع رؤية منهجية تأخذ بمعطيات الواقع لبناء التنمية والحضارة (الإنسان – التراب – الوقت) عبر جدلية هذه العناصر المكونة مع الفكرة الدينية الدافعة للقيم العليا التي تجعل من بنية هذه العلاقة الجدلية بنيةً متينةً قادرةً على بناء النهضة والحضارة.

هذه الرؤية هي التي دفعت مالك بن نبي إلى تجاوز مفهوم ابن خلدون في أطوار الدولة ليصل بمفهوم النهضة والحضارة إلى صيرورة جديدة تحكمها علاقات جدلية.

إنّ أيّ حضارة لا بدّ أن تقع بين حدّين اثنين هما ميلادها وأفولها. ولكن لا بدّ أن تمرّ هذه الحضارة بمرحلة عليا الأوج فقبل الأوج تكون الحضارة والنهضة في حالة صعود، وبعد الأوج تكون الحضارة والنهضة في حالة هبوط.

هذا التقسيم البنيوي لظاهرة الحضارة عبر أطوارها دفع مالك بن نبي إلى وضع هذا التقسيم في ثلاثة أطوار. فالطور الأول من أطوار الحضارة وفق رؤيته هو الطور الذي تُروّضُ فيه الغرائز وتسلك في نظام خاص تكبح فيه الجماح وتتقيّد عن الانطلاق(9).

إذاً هنا يتابع المجتمع بناء شبكة عناصر النهضة، وهذا البناء يستتبع بالضرورة تراكمات كمّية تؤدي إلى تغيير في الاتجاه العام للنهضة وبداية نشوئها. فتنشأ حاجات ومقاييس لها، ورؤى حولها، وهذا سيقود بالتراكم إلى طور الأوج، أي حالة ازدياد المنتج ووفرته واغتناء المجتمع. وهنا يصل المجتمع إلى أوج النهضة، ولكن هذا الوصول المبني على العقل لن يستطيع السيطرة على الغرائز، لذلك ستتحرر الغرائز من قيودها كما حدث في حضارة بني أمية.

إن مرحلة الأوج لدى مالك بني نبي هي مرحلة ازدهار العلوم والفنون، وهي مرحلة البدء بانتشار مرضٍ اجتماعي معيّن. إذ تواصل الغريزة مكبوحة الجماح من قبل الفكرة الدينية سعيها إلى الانطلاق والتحرر، وبهذا تتغلّب الطبيعة على الفرد وعلى المجتمع شيئاً فشيئاً.

وعند سقفٍ محدّدٍ من التغلب يبدأ الطور الثالث وهو طور الهبوط. أو طور الغريزة التي تكشف عن وجهها تماماً. في هذا الطور تفقد الفكرة الدينية وظيفتها الاجتماعية، إذ تُصبح عاجزة عن القيام بكبح الغرائز. وهذا يقود إلى انتهاء دورة الحضارة.

لذلك إن فهم مالك بن نبي لأهمية دور الفكرة الدينية في أطوار النهضة والحضارة يستند إلى رؤية مثالية قابلة للنقد العلمي. إذ إن هذه الرؤية تتبعت النهضة الحضارية ووضعتها في قالب فكري مسبق، في الوقت الذي كان يمكن أن نرى فيه هذه الرؤية بصورة أشمل من خلال معرفة مراحل التطور التاريخي للمجتمعات البشرية ومتابعتها. فالمجتمع البشري يمتلك خصائص تطورية خاصة به تعبّر عنها صيرورة تطوره. ولكن هذه الصيرورة لا تخرج عن قانون التطور العام للمجتمعات البشرية.

  • بن نبي وسيّد قطب وخلافهما الفكري

ثمة فوارق بنيوية عميقة تخصّ جوهر الرؤية الاجتماعية والفكرية بين مالك بن نبي وسيّد قطب. ولعلّ حجر الأساس في رؤية أسباب ونتائج تأخّر المسلمين عن الركب الحضاري، وتقدّم الآخر غير المتدين في المجتمعات المتقدمة، هو السؤال الرئيس: لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم.

بالنسبة إلى مالك بن نبي فقد ميّز بين الإسلام والحضارة التنمية الشاملة بصورة يمكن أن يكون المسلم متحضراً أو متخلفاً، هذا التحضر أو التخلف له علاقة بفاعلية النهوض الحضاري التنموي، ولا علاقة له بجوهر الإسلام. فهناك إمكان أن تقوم الحضارة على العدل مع الكفر، ولكنها لا تقوم على الظلم مع الإيمان.

العدل ضرورة للنهوض الاجتماعي، وهو عدل يشمل كل جوانب الحياة؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بما فيها القضائية وغيرها، وهذا لا يرتبط فقط بالإيمان من عدمه، بل تحكمه قوانين اجتماعية ودرجة تطور. هذه الفكرة انتقدها سيّد قطب وعدّها تمييزاً، فسيد قطب يرى أن المسلم بالضرورة متحرر، إذ في رأيه أن الإسلام هو الحضارة. هذه النظرة لا تُظهر طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع المسلم، بل تعمل على سترها بغطاء أيديولوجي ديني غير علمي، وهو أن الإسلام هو الحضارة. الإسلام هو رسالة ذات جوهر فكري يقود إلى العدل، ولكن هل حملة الإسلام ومن يدعون الدفاع عنه يعملون من أجل العدل أم من أجل ما يرونه هم عدلاً. هذه الرؤية تقود إلى فهم أن التعصب لفكرة هي الحضارة من دون دراسة ركائزها ومعوقاتها وحركتها كما حدث مع سيد قطب يكشف عن عصبوية فكرية ضيقة لا ترى المجتمع وفئاته في حركتها، وفي تشابك علاقاتها، وفي صراع مصالحها ووحدة تكوينها. وهذه العصبوية تنافي جوهر الإسلام ورسالته، وتحصرها في نطاق محدّد ردة فعلٍ على الجهل بطريقة اكتشاف قوانين التطور وعملها باتساق. لذلك يؤكد سيد قطب أن الإيمان الذي هو جوهر الشخصية المسلمة، ليس محض مشاعر في الوجدان، أو تصورات في الذهن لا ترجمة لها في واقع الحياة. وليس هناك إيمان هو محض شعائر تعبّدية ليس معها عمل يكيّف منهج الحياة كله، ويخضعه لشريعة الله، لأن المسلم مطالب بأداء شهادة بهذا الدين وبكل تكاليفها في النفس والجهد والمال(10).

لذلك فإن مرجعية الكيان الحضاري عند سيد قطب تجد قاعدتها في التشريع الإلهي، وهذا يدفعه إلى معيار آخر حين يفترض أن الحاكمية في المجتمع هي لخالق الكون. وفي رأي سيد قطب هذه الحالة وفق هذا الإقرار هي من يحرر البشر تحريراً كاملاً من عبوديتهم للبشر أو للأشياء.

سيد قطب يفترض أن المادة لدى الغرب هي القيمة العليا التي تُهدر من أجلها قيم المجتمع الأخلاقية والدينية، ولذلك فالتخلف يكون في هدر هذه القيم والابتعاد عن التشريع الإلهي.

من جانب آخر يرى سيّد قطب أن السؤال لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم هو سؤال خاطئ، فباعتقاده أنّ المسلمين تخلّفوا لأنهم تركوا الإسلام، وهذا يتطلب العمل على إعادتهم إلى الإسلام. ويرى أن التقدّم الحضاري التنموي لا يعني تقدماً ما داموا بعيدين عن الدين، ولذلك هم في جاهليتهم جهلاء.

لا يعتقد مالك بن نبي بما ذهب إليه سيّد قطب، لذلك فهو يرى أن الإسلام بوصفه رسالة ليس هو الحضارة، بل إن الإسلام وحي نزل من السماء، بينما الحضارة لا تنزل من السماء، الحضارة يصنعها البشر عندما يُجيدون توظيف قدراتهم، ويُحسنون التعامل مع شروط الواقع المكانية والزمانية والاجتماعية.

إذاً لم يُدرك سيّد قطب معنى مفهوم الحضارة لدى مالك بن نبي، وهو بهذا لم يستطع بناء الرؤية العلمية الصحيحة لانطلاق المجتمع الإسلامي، وإنما عمل على إغلاقه وفق فهمه للنص الديني في حالة سكونيه وليس في صيرورته.

هذا الأمر الخلافي يوضّح أن المسلم إذا نجح في توظيف العلاقة بينه –بوصفه قوّة فاعلة ذات فكر علمي متحرر- وبين ثروات وطنه -وفق زمنٍ مدروسٍ- فإنه يستطيع بناء النهوض الحضاري، أي تحقيق التنمية الشاملة. والإسلام هنا يمكن أن يمنح قوةً أخلاقيةً من أجل تمتين البناء الحضاري، لهذا نستطيع القول إن فكر سيّد قطب في مراحله الأولى كان يلتقي بفكر مالك بن نبي حول مفهوم العدالة الاجتماعية وحول صراع الإسلام مع الرأسمالية ولكن متغيرات الواقع ابتعدت بسيّد قطب عن مفهوم الحضارة لدى مالك بن نبي.

  • نقد الفكر السياسي الغربي لدى بن نبي

تبقى المرجعية الرئيسية لفكر مالك بن نبي مرجعية إسلامية نقدية، فهو ينقد التخلف المجتمعي الإسلامي، ويبيّن أسباب هذا التخلف. كذلك فهو ينقد الفكر السياسي الغربي، الذي برّر العلاقة الاستعمارية بين الغرب والمجتمعات الإسلامية، التي وقعت تحت نير استعمار الغرب لها.

يرى مالك بن نبي أن المجتمعات الغربية لم تحقق الديمقراطية بما تضمنته من فكر، على الرغم من أنها اعتمدت على أنظمة حكم ديمقراطية، وهذا يظهرُ من عدم قدرتها على تحقيق المساواة والعدالة والضمانات الاجتماعية لها ولغيرها. لذا يرى بن نبي أن ما يتعلق بالديمقراطية بوصفها مفهوماً شاملاً، يعني سلطة الإنسان، وهو مناقض لفكرة خضوع الإنسان لسلطة الله، لأن سلطان الأمة أو الإنسان في الديمقراطية الغربية سلطة مطلقة، لذا تُصبح قراراتها قوانين واجبة التنفيذ، حتى وإن كانت تخالف القانون الأخلاقي، ومتعارضة مع المصالح الإنسانية العامة(11).

هذه الرؤية تكشف فهم مالك بن نبي لتناقضات الديمقراطية في المجتمعات الرأسمالية، فالديمقراطية هنا تمرّر مصالح من يستفيدون منها، ولكنها لا تهتم بالشعوب الأخرى، وهذا يوضح مرحلة الاستعمار الأوروبي والغربي لدول العالم ومنها الدول الإسلامية. لذلك يرى مالك بن نبي أن التعاون لا يجري إلا إذا توافر عامل أساسي هو عامل العقيدة التي تستطيع وحدها جعل ثمن الجهد محتملاً، مهما كانت قيمته لدى صاحبه. ويرى أيضاً أن الفصل بين الدين والدولة (العلمانية) لن يكون سياسة ناجحة لغياب القيمة الأخلاقية. فالدين في رأي بن نبي يغرس في نفسية الفرد والمواطن القابلية والاستعداد للتضحية والبطولة والإيثار. يقول: إنّ التجانس بين عمل الدولة وعمل الفرد ينبغي أن يقوم وجوباً على عاملٍ أخلاقي لأن السياسة بلا أخلاق خراب للأمة(12).

لذلك يجد مالك بن نبي أن السياسة الغربية تقوم على مصالح خاصة بها، ولا تستند إلى قيمٍ أخلاقيةٍ ثابتة. بل هي مصالح عاجلة تتسم بعدم الثبات والديمومة. هذه السياسة ليس بإمكانها تحقيق التجانس المشار إليه، ما يؤدي إلى خللٍ ظاهرٍ في علاقة الدولة بالوسط الاجتماعي، وتدهور العلاقة بينهما.

ويرى مالك بن نبي أن النظام السياسي الإسلامي مقيّد بالشريعة، وهذا ما يجعل من العقيدة عامل دعمٍ للتعاون بين الفرد والدولة. ولكن لم يقل مالك كيف يمكن ضبط عمل الحاكم للتقيّد بالشريعة، ما دام هناك غياب لتقسيم السلطة في الدولة كما يفعل النظام الديمقراطي الغربي. وهذا لا يعني أن النظام الديمقراطي الغربي هو نظام إنساني مثالي، ولكن لا يمكن ضبط عمل الحاكم في المجتمع الإسلامي من دون مؤسسات تحدّد صلاحياته، وتقيّد عمله، وتمنعه من التحكم في مصائر الناس. هذا خلل بنيوي في فهم الحاكمية الإسلامية، ومن ثم فالدولة هي عقد اجتماعي يمكنه الاستفادة من العدالة الاجتماعية والحريات الحقيقية التي يمكن استنباطها لمصلحة المجتمع الإسلامي، وليس لمصلحة فئاته المتحكمة في قراراته.

يرى مالك بن نبي أن الإسلام يوفر حرية الضمير والعقيدة وحرية التعبير والرأي، ومبدأ حصانة المنزل، ويرى في الزكاة وتحريم الربا ومقاومة الاحتكار مبادئ ضرورية لحكم المجتمع، وقيام الدولة فيه.

  • لماذا هُمّشَ فكرُ مالك بن نبي

 وقعت الثورة الجزائرية بوصفها حدثاً تاريخياً عام 1954، في مرحلة الصعود القومي التحرري في بلدان العالم الثالث والبلدان العربية. وهذه الثورة وجدت سنداً فكرياً واجتماعياً لها من خلال طرحها لحرية الشعب الجزائري، وضرورة بناء دولةٍ اشتراكية بعد تحرره من الاستعمار الفرنسي. ولعلّ الخيار الاشتراكي الذي تبنّته الدولة الجزائرية بعد الاستقلال مباشرة، كان أحد أهم الأسباب الرئيسة وراء انحسار فكر مالك بن نبي لدى نخبٍ قليلة جداً(13).

ويبدو أن فكر مالك بن نبي كان يختلف عن فكر جبهة التحرير الوطني الجزائرية في أثناء الثورة وبعد الاستقلال، وهذا ما جعل جبهة التحرير تنظر إلى فكر بن نبي على أنه جزء من الفكر الإسلامي الذي يزيد من فاعلية جمعية علماء المسلمين التي حظرتها الحكومة الجزائية بعد الاستقلال. يقول عبد السلام حواس: إن بن نبي أبى أن يكون من الجبهة، ورأى في رسالة وجهها إلى الرئيس بن بلة أن الثورة ضمّت من كان مع فرنسا وليس العكس، وحاربوا تحت رايتها مدّة من الزمن.

لكنّ الحقيقة أن فكر مالك بن نبي يرفض الخيار الاشتراكي بصورته المعلنة، بوصفه فكراً بعيداً عن جوهر العدالة الاجتماعية الإسلامية، وبعيداً عن تحقيق النهوض الحضاري، لقد عملت حكومة الاستقلال على إضعاف الدور الفكري للنخب الفكرية والثقافية الجزائرية، حين رفعت شعار لا بطل إلا الشعب. هذا الشعار قدّم إلى الواجهة الفكرية والسياسية والثقافية أشخاصاً لا يمتلكون مقدرةً في هذه الأبواب، وهو ما أضعف عملية النهوض الحضاري في الجزائر نتيجة عدم الاتساق بين أنساق هذا النهوض، وتحديداً بين الإنسان ومؤهلاته العلمية والفكرية والثقافية.

  • معنى القابلية للاستعمار

أثار مفهوم مالك بن نبي المجتمعات القابلة للاستعمار نقداً واسعاً، حيث لم ينتبه هؤلاء المعارضون إلى العلاقة الجدلية التي تتشكل بين الحلقة الضعيفة والحلقة القوية في العلاقات الدولية في مرحلة النظام الرأسمالي العالمي.

فقول مالك بن نبي بوجود قابلية للاستعمار لدى المجتمعات والدول الضعيفة، لا يعني هذا الأمر إقراراً بضرورة الاستعمار، أو تسويغاً لفعله حيال الشعوب المستَعمَرة، فالدول الرأسمالية تبحث عن مصادر للثروات الباطنية واليد العاملة الرخيصة، وهذا يتحقق لها وفق رؤيتها عبر استعمارها لدولٍ ضعيفةٍ تمتلك ثروات جيدة.

إنّ رأي مالك بن نبي يقوم على فهم أن الدول والمجتمعات التي استعمرها الغرب هي دول ومجتمعات عاجزة عن بناء نهوضها الحضاري، وعن الدفاع عن نفسها، نتيجة عوامل مختلفة في مقدمتها العوامل السياسية والفكرية والاقتصادية. هذا الضعف لعب دوراً في استدعاء الخارج الغربي القوي، ولهذا يلعب الضعف لدى المجتمعات الضعيفة دوراً حاسماً في قبول المستعمر الغربي، فالقوة تنتقل من وسطها عالي التركيز إلى وسط منخفض التركيز والقوة.

هنا تبرز مسؤولية المجتمعات القابلة للاستعمار، فهي لم تعمل على تجاوز ضعفها، بل بقيت تدور في مربع فكرها وممارستها ما يضعها في هذا الموقع القابل للاستعمار.

يقول الكاتب الفلسطيني غازي التوبة: لم يعد الإنسان والتراب والوقت عوامل حضارة، بل أصبحت عناصر خامدة ليس بينها صلة مبدعة، وربط مالك بن نبي بين الانحطاط والقابلية للاستعمار، فافترض أن هذه القابلية عامل باطني يستجيب للعامل الخارجي، وأبرز مظاهر هذا العامل الباطني البطالة، وانحطاط الأخلاق الذي يؤدي إلى شيوع الرذيلة، وتفرّق المجتمع الذي يؤدي إلى الفشل من الناحية الأدبية.

إن معرفة عيوب المجتمع الداخلية ونقدها يتطلب إلقاء الضوء عليها في بنى المجتمعات التي وقعت ضحية الاستعمار، بعد أن كان التركيز المعتاد لحركات التحرر ينصبّ أساساً على الدور الذي قامت به القوى الاستعمارية في تأييد التخلف، أو حتى في صناعته، بعد إذ لم يكن موجوداً(14).

لذلك يظن مالك بن نبي أن قابلية المجتمعات للاستعمار تعدّ بحدّ ذاتها نتيجة سياسات الاستعمار الدولية، وليست هذه القابلية وليداً طبيعياً لدى هذه المجتمعات.

  • ابن نبي وموقفه من المرأة

ما يزال الفهم التقليدي لتحرر المرأة فهماً قاصراً، فهو يقوم على منح المرأة حقوقاً، ويرتب عليها واجبات، وكأنه دعوة إلى التمييز بين المرأة والرجل في البنية الاجتماعية الواحدة. فمناقشة هذا الأمر في هذا المستوى تبدو بعيدة عن فهم طبيعة المجتمع الإنساني وتكوينه والعلاقات المتحكمة في أفراده.

جوهر الأمر يتعلق بأن الرجل والمرأة كليهما يتعرضان في البنية الاجتماعية المتخلفة إلى وضعٍ لا إنساني يبتلع حقوقهما، ويميّز بينهما. فقضية الرجل والمرأة هي قضية الفرد والمجتمع، لذلك يجب أن تناقش وضعية المرأة في هذا المستوى، ولا يمكن الاعتداد بأولئك الذين عملوا على دور المدافعين الذين يذودون عن حقوق المرأة سواءً من كتّاب الشرق أم الغرب، فليس مجدياً عقد مقارنة بين الرجل والمرأة، ثم الخروج بنتائج كمّية تُشير إلى قيمة المرأة في المجتمع، وأنها أكبر أو أصغر من قيمة الرجل أو تساويها، فليست هذه الأحكام سوى افتئات على حقيقة الأمر، ومحض افتراء، بل إن الأقاويل عن حقوق المرأة وتحريرها، أو المطالبة بإبعادها عن المجتمع محض تعبير عن نزعات جنسية لا شعورية(15).

هذه الرؤية لدى مالك بن نبي تُظهر سعة فهمه وعمقه لطبيعة المجتمعات الإنسانية، التي ما تزال تخضع لقوانين الملكية والصراعات والتطور الرأسمالي.

إنّ تحرير المرأة وفق رؤية مالك بن نبي تعتمد على تحرير المجتمعات من أسر استبداها البشري وقهرها الاجتماعي، والعبور بها من عتبة التخلف الذي يشكل علّة العلل في المجتمعات الإسلامية.

  • Social Links:

Leave a Reply