لا يفاجئ ترامب أحداً لو برر قرار انسحابه من سوريا بشكل عاطفي، أو أبوي، وحتى رومنسي، بعيداً عن كل التحليلات التي تستغرق اعلامنا العربي، وبأنه التقى إحدى أسر الجنود الأميركيين المبعثين إلى سوريا، كمستشارين وخبراء ومدربين، وأنها طالبته بعودة أولادها إلى ديارهم الآمنة، هربا من حرب متوحشة في سوريا المنقسمة على الأسد وبه، والمتوفرة في حدود التماس مع جنوده، بين أيدي المتطرفين من كل بقاع الأرض، والتي تشير معطياتها أن مقاتلي “داعش” الذين هزمهم ترامب مع حلفائه من الكرد السوريين، وغيرهم، قد يزداد عددهم وعتادهم مع انفلات الوضع في إدلب، وفتح المنافذ لتسريب مقاتلي النصرة بعيداً عن نيران المعركة المؤجلة هناك حتى اليوم، لينضموا لحماة الخلافة الداعشية التي كلما اختفت عادت لتقول أنا هنا حيث مصلحة القوى التي تديرها.
هذا هو ترامب الذي لم يتأخر في وعوده المتعلقة بالداخل الأميركي من نمو اقتصادي لافت، وتحسين حقيقي في مستوى أجور العمال، وارتفاع في معدلات الاستثمارات وفرص العمل، وربما قراره الأخير سيدخل في اطار حماية الأميركيين من خطر داعش الذي اصبح قابلاً للانفجار، خارج أسوار سوريا المحاصرة بأعتى جيوش العالم، من الأميركي والفرنسي والتركي والروسي والإيراني، وغيرهم، ما يعني هو قرار الهروب نحو النصر الأميركي الذي يعني إدارة المعركة بفوضى الساحة الخالية من جهة، وصفقات السباق إلى ملء الفراغ من جهة أخرى، في ظل توفير العودة الآمنة لجنوده إلى بلادهم، مع إدراكه أن ما جرى خلال السنوات الماضية في حربه التي يزعم النصر فيها، إنما هي جولة ضد “داعش” التي يعرف أنه لم يسحق من خلالها عوامل عودتها المتجددة في كل من سوريا والعراق.
لا يحتاج ترامب إلى تقديم اعتذار إلى شركائه الكرد في الحرب على داعش في قرار انسحابه من المعركة، وتركهم بين مطرقة أردوغان ورغبته في القضاء عليهم، أو سندان الأسد الذي يراهن على عودتهم إلى حضن النظام، وتسليمهم مناطق نفوذهم لقواته دون تكبيدها عناء خوض معارك حتى لو كانت “وهمية”، أي أن ترامب لا ينظر إليهم كشركاء مصير كما تراءى لهم، رغم أن الدرس الذي كان يجب أن يتعلموه من الموقف الأميركي من قضية استفتاء إقليم كردستان العراق، هو: “أن الولايات المتحدة لا تجد حرجاً في اتخاذ مواقف متماثلة ومتطابقة، بل، وتخدم من تعتبرهم أعداء لها كإيران مثلاً، فكيف الحال مع تركيا شريكتها الأكبر في حلف الناتو وواحدة من أكبر اقتصاديات المنطقة، والصديقة لإسرائيل حليفتها المدللة؟
لم يترك الأميركيون مناسبة إلا وأكدوا أن الكرد شركاء في حربهم على داعش، منوهين في كل مرة إلى التأكيد على وحدة سوريا في إشارة إلى نفي الحديث عن دعمهم لإقامة دولة كردية على الحدود مع تركيا، أي أنهم لم يحولوا شراكتهم إلى عمل مستقبلي مكتفين بتأطيرها في مدة زمنية تنتهي مع إعلان الولايات المتحدة هزيمة داعش، ورغم أن ترامب لم يوضح متى وكيف وتحت أي معايير يعتبر مهمته في قتال داعش انتهت، إلا أنه بإعلان انسحابه يعلن سقوط تحالفاته مع شركاء الحرب، على طريقته الانقلابية في كل ما يتعلق بالحرب في سوريا، من قرار قصف مواقع للنظام، إلى قرار بقائه في سوريا، وانشاء قواعد شبه دائمة، إلى قرار انسحابه منها، والدوران باتجاه الداخل والالتفات ‘إلى الصين التي تهدد ترتيب اقتصاده في العالم مستقبلاً.
كما أن الرئيس الأميركي لا يحتاج إلى تقديم أسباب توضح تغير موقفه المفاجئ من تركيا التي كانت على بعد خطاب أو أقل من رئيسها لإعلان الحرب ضدها، في متاهة ما حدث عقب انهيار الليرة التركية، التي وصفت بالمؤامرة الأميركية المفتعلة عليها، ما حدا بالرئيس التركي إلى المطالبة بمقاطعة البضائع الأميركية، ومنها الالكترونية، خلال كلمته الاحتفالية بالذكرى 16 لوصول حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم (14/8/2018)، والتي جاءت بعد يومين من سريان العقوبات الأميركية على تركيا، فهل انتصر أردوغان في معركته ضد أميركا، ليترك له ترامب “الجمل بما حمل في شرق الفرات”؟ أم أنه قدم معطيات حسابية، تجعل الثمار المقطوفة عن بعد أكثر منفعة مما يمكن أن تحققه القوات الأميركية بوجودها في سوريا؟
أم أنها الخطة الأميركية الجديدة في حربها الباردة على إيران، حيث تجعل القوى المتسابقة لملء الفراغ في (روسيا- تركيا- إيران) في مواجهة بعضها، ما يقودها إما إلى صراع تحت الطاولة من خلال أدواتها المحلية أي الفصائل المسلحة التي تحركها تركيا في مواجهة جيش النظام الذي تديره كل من إيران وروسيا! أو إلى عقد تفاهمات جديدة تسقط مسار آستانة الحالي، حيث الغلبة فيه للجانب الروسي على حساب القوة التركية، التي خضعت لإملاءات روسيا بعد حادثة اسقاط تركيا لطائرة روسية، والمصالحة التي تم بموجبها معركة حلب “الخاسرة قبل بدئها”، ومن ثم الالتفاف على مسار جنيف بمسار آستانة ( يناير2016)، ونتج عنه تدجين الفصائل “المعارضة” في اتفاقيات خفض التصعيد ومثيلاتها، التي انتهت بتسليم المناطق جميعها باستثناء إدلب إلى القوة الروسية و الإيرانية والنظام.
يبدو أن ترامب بقراره الانسحاب من سوريا، يعلن بشكل مباشر أن المتاهة السورية قابلة لإغراق المزيد من القوى المتصارعة على سوريا، وأن وقت التسويات رغم التلويح بالإعلان عن بدء جولاته لايزال بعيداً، وهو بهروبه من تبعيات الوجود في سوريا يحصن مكاسبه عبر من سيعينه كشرطي للمنطقة بعد خروجه منها، وبذلك هو يفتح باب المساومات والمزادات، التي بدأت بتحميل السعودية مسؤولية إعادة إعمار سوريا، في شبه صفقة تعني ضمنياً أن التفاهمات التي جرت مع تركيا أبعد من قضية الكرد، وأكثر حرجاً من إعلان كامل مضامينها وأطرافها.
Social Links: