روائية الحب والحرب والجمال
إيمان حميدان: مفهوم الثقافة في العالم العربي في خط
في هذا الحوار مع علياء تركي الربيعو ترى الروائية اللبنانية المعروفة إيمان حميدان بأننا نعيش في مرحلة عنوانها العام “الفشل”، والفشل طاول الرجل العربي قبل المرأة لأنه (أي المثقف هنا) حمل مشروعاً تغييرياً لأكثر من نصف قرن دون جدوى.
*تمتاز رواياتك بعناوين خاصة “باء مثل بيت.. مثل بيروت” و”حيوات أخرى” و”خمسون غراماً من الجنة”، هل تختارين العناوين بنفسك أم أن هذا ما يفرضه الناشر؟
العناوين قصة طويلة! لا أستطيع أن أبدأ الكتابة في رواية جديدة قبل أن أضع العنوان أولاً. غالباً أضع عنواناً مؤقتاً كي أستطيع الكتابة ثم أغيّر العنوان في لحظة ما من لحظات الكتابة وأعلم جيداً حينها أن ذلك هو العنوان النهائي. تلك اللحظة تأتي وتفرض نفسها كما يفرض العنوان نفسه. في روايتي الأولى “باء مثل بيت…” خرج العنوان من رحم الرواية. استيقظتُ في ساعات الفجر ومشهد الصبي يقرأ في كتاب اللغة العربية باء مثل بيت مثل بيروت. وجدت نفسي أردّد هذه الجملة بين اليقظة والنوم. كتبت المشهد وصار لدي العنوان الذي خَرَجتْ به روايتي الأولى. كان العنوان المؤقت “مواسم الغياب” وكنت أعلم أنه عنوان مؤقت وأن الرواية لن تبصر النور مع عنوان كهذا، ثم غيّرته فجر ذلك اليوم.
حين أهجس بشخصيات ومشاهد الرواية يأتي العنوان كجزء من الحكاية نفسها أو ككلام على لسان إحدى الشخصيات. في “حيوات أخرى” ارتبط العنوان بفكرة التقمّص وكنت أريد أن أظهر أننا نستطيع أن نحيا أكثر من حياة في الزمن نفسه. الحياة تغدو حيوات بفضل إيقاع الزمن الذي نعيش فيه وكثافة ما نرى ونشهد. أتى عنوان “خمسون غراماً من الجنة” من قصة حقيقية أصبحت جزءاً من حكاية الشخصية كمال فرات ورسائله في الرواية. أحد الأصدقاء كان في خان الخليلي عام 2006 وسأله البائع إن كان يريد خمسين غراماً من عطر الخلود. فتنتني تلك القصة، أن يباع عطر اسمه الخلود. احتفظت بتلك القصة سنوات وحين أتى الوقت وجدت العنوان حاضراً ينتظرني بعد أن غيّرت اسم العطر من الخلود إلى الجنة. لعبت على القصة كما أفعل مع قصص كثيرة تصادفني أو تصادف غيري في الحياة. أعدت كتابة القصة كما أريد لتدخل في الرواية وتصبح جزءاً أساسياً منها.
لا يتدخل الناشر على الإطلاق في عناوين رواياتي لسبب بسيط وهو أنني أرسل المخطوطة جاهزة وكاملة مع العنوان النهائي.
*على الرغم من توسع جغرافية روايتك وأمكنتها في “خمسون غراماً من الجنة” من بيروت إلى إسطنبول ودمشق، إلا أن بيروت بقيت بطلة روايتك، فكانت المدن الأخرى وكأنها محطات عبور ذهاباً وإياباً إلى بيروت، هل نعزو الأمر إلى غلبة الطابع المحلّي في كتابة الأدب الروائي؟ أم لكون الروايات عادة ما تحمل سمات من شخصية الروائي وتعكس بعضاً من تجربته الخاصة؟
لا أعتقد سبب العودة الدائمة إلى بيروت في كتابتي هو غلبة الطابع المحلي في كتابة الأدب الروائي. قد يظهر بعض من شخصية الروائي في الكتابة وعلى لسان الشخصيات إلا أن هذا أيضاً ليس سبباً كافيا للعودة الدائمة إلى المدينة التي نعرف، نحب، نكره ونشهد تحوّلاتها وتحوّلات علاقتنا معها أيضاً. أعتقد أنّ السبب يكمن في الغنى المعرفي والثقافي الذي نتمتّع به حول المكان الذي حضن تجاربنا وشبابنا وأحلامنا وخيباتنا، ولا بدّ لهذا الغنى أن يظهر في الكتابة. بيروت بالنسبة لي هي اسطنبول لإليف شافاق أو لأورهان باموك أو هي نيويورك لبول أوستر. هؤلاء الأدباء ما زالوا يكتبون مدينة شبابهم وأحلامهم وهي ليست “بالمكان المحلي” بل تصبح استعارة للعالم كله. هكذا بيروت لي، هي الأساس وهي نقطة الانطلاق وميناء العودة، لكن مع كل حكاية يتغير معنى الرحلة كذلك معنى نقطة الانطلاق والعودة. الأمكنة تبقى، إلا أن علاقتنا معها تتغير. بيروت “باء مثل بيت”، هي غير بيروت “توت بري”، وغير بيروت “حيوات أخرى”، وغير بيروت “خمسون غراماً من الجنة”. لا يكفي كتاب واحد لنحكي علاقتنا مع المدينة، التي تتغير كل يوم، ولا مع الأمكنة التي زرناها. في سفري الدائم (وأنا كثيرة السفر) ما إن أصل إلى مدينة جديدة حتى أبدأ باكتشاف مزاياها وذلك يحدث دائماً بالمقارنة مع بيروت. نسافر ونحمل مدينتنا في وجداننا كحب “مرضوض” ولا بد لهذا الأمر أن يظهر في الكتابة. في هذا الحب، بيروت هي الثابتة والمدن الأخرى هي العابرة.
*ترين بأن اللغة تتبدل وتتغيّر، ولا يعود ممكناً العودة بها إلى الوراء، إلى زمن سابق “هي كائن حيّ يتأثر بعوامل الزمان والمكان وحالات البشر”، هل لهذا السبب تتعمدين الدمج بين الفصحى والعامية في رواياتك؟
مضى وقت قبل أن أتجرأ واستعمل العامية في الرواية. تعلمين مدى النقاش الدائر حول هذا الموضوع. الكتابة تجربة غنية وعميقة بالنسبة لي، وهي غيرتني إلى جانب أن علاقتي مع اللغة تغيرت أيضاً. استطعت أن أجتاز الخط اللامرئي الذي يفصل بين سطوة اللغة على الكاتب وسطوة الكاتب على اللغة. هو خط رسمه لنا الدين ورسخته السياسات التعليمية والقيم الاجتماعية كذلك أساتذة الأدب. خط يُبقي الكاتب في دائرة الخوف من الكلمة ومن تطويعها لخدمة المعنى وخدمة المختلف وخدمة الإبداع. في الكتابة علينا أن ننتصر على اللغة في معظم الأحيان، وأن نهادنها أحياناً. بالنسبة لي ما عاد للغة العربية قدسيّتها التي تَعَلّمنا أن نحفظها كما هي دون سؤال ودون تغيير. هذه أيضاً معركة ربحتُها لصالح حرية التعبير ولغنى المعنى دون قيد شكل اللغة. اللغة كائن حي بالفعل والكائن الحي يتغير كما نتغير نحن بفعل تجربة الكتابة وتجربة الحياة. اللغة مرآة للشخصيات التي نخترعها ونخلقها، وهي انعكاس لتفكيرها (أي الشخصيات) ونظرتها إلى العالم، ولا بد أن تأتي اللغة قريبة لذلك التفكير وتلك النظرة وليست في حالة انفصام أو انفصال عنها. الفصحى والعامية هي تعبير عن ذلك التفاوت في وسائل التعبير لدى الشخصيات.
*أنت من بين روائيات عربيات قلة، فزن بجائزة عربية عن أعمالهن، وأقصد فوزك بجائزة كتارا للرواية العربية عن روايتك “خمسون غراماً من الجنة”، لماذا لا نشهد تزايداً لأعمال الروائيات في قوائم المرشحين للفوز بجوائز الرواية، وهل فعلاً لا تزال الرواية النسوية غير متمكنة جمالياً، أو أنها لا تنافس الرواية التي يكتبها الرجال كما يرى بعضهم؟
أعتقد أن حكم البعض على أعمال الروائيات أنها غير متمكنة جمالياً أو أنها لا تنافس رواية الرجل الكاتب فيه الكثير من التجني على الروائيات العربيات. لا يجب أن ننسى في أي ظرف تكتب المرأة العربية وفي أي ظرف تعيش. إذا فكرنا ولو لدقيقة واحدة في وضعها الاجتماعي والقانوني والأسري لقلنا إن كل كلمة تكتبها المرأة العربية هي بمثابة تحدّ يومي لكل النظام السائد ولا بد أن المرأة بطلة بكل معنى الكلمة. لا أريد أن أحوّل الكاتبة العربية إلى أيقونة بل ما أقول هو أمر واقع. المرأة الكاتبة لا تقاتل فقط مع اللغة والنص والأسلوب كي تخرج بعمل ناضج وإبداعي يضاهي ليس فقط كتابة الرجل، بل أيضاً، الكتابات العالمية للرجال والنساء على السواء، وهي أيضاً تقاتل من أجل وجود لها في الحيّز العام الذي اقتصر لعصور وعصور على الرجل فقط. هي تقاتل من أجل مكان ولو صغيرا بعد أن دفعتها الكتابة إلى حيز العام.
وهنا أود أن أشير إلى أن الكتابة الأدبية لا نوع اجتماعيا لها. هي إما عمل إبداعي أو عمل غير إبداعي، دون العودة إلى جنس كاتبها. هنا علينا قول الكثير ورفع الغطاء عن تفكير سائد لا يفبركه أو يتبناه المتدين والرجعي فحسب، بل أيضاً من يطرح نفسه تقدمياً. ننتقد المتزمت دينياً والجاهل والمتخلف حين يتهم كتابات المرأة بأنها غير ناضجة، ولكن علينا أولاً أن نشير بإصبع الاتهام إلى من تتوقع منهم الكاتبة العربية الدعم والاعتراف وأعني بعض المثقفين العرب لبنانيين وغير لبنانيين. إنها فئة من المثقفين ولا أشمل الجميع. حين يُسأل أحد المثقفين الأدباء في إحدى المناسبات عن الروائيات العربيات ويكون جوابه: “لا يوجد روائيات عربيات”! هذا الجواب أضعه في خانة كره النساء والعقد الذكورية التي تؤثر بالتأكيد على كيفية قراءة نص ابداعي لكاتبة وعلى قيمة النص. لا نستطيع أن نبتعد هنا عن الواقع السياسي. للأسف نعيش في مرحلة عنوانها العام “الفشل”، والفشل طاول الرجل العربي قبل المرأة لأنه (أي المثقف هنا) حمل مشروعاً تغييرياً لأكثر من نصف قرن دون جدوى. لم تستطع الأفكار السياسية المستوردة للأحزاب الإيديولوجية ولا الانقلابات العسكرية ولا الحركات التقدمية التي انضوى تحتها الكثير من المثقفين العرب في النصف الثاني من القرن الماضي أن تُخرج الذَكَر العربي من كهفه الإسمنتي الذي بناه له الدين والقيم الاجتماعية والعائلة. كانت الغلبة للعصبيات العائلية وللأنظمة العسكرية القائمة على تلك العصبيات العائلية والدينية. فشلت الإيديولوجيات في كسر العقلية الذكورية ودفع العربي إلى النظر في أين هو الآن من حركة التغيير العالمية والتحولات في الفكر، والفن والأدب. سيبقى في خانة صفر في ظل غياب أي نقد ذاتي وأعني تحديداً النقد الذاتي في العلاقة مع المرأة أولاً وأخيراً.
*تؤمنين بأن النساء العربيات سيغيرن المعادلة في العالم العربي المشتعل بالحروب، وتنتظرين دوراً مهما لهن، كيف السبيل لتحقيق ذلك في ظل العنف ضد المرأة وغياب ثقافة المساواة في عالمنا، يضاف إلى ذلك، غياب قوانين تحمي المرأة؟
لو كان هناك قوانين تحمي المرأة ولو كان العنف غائباً لما قلت ما قلت. علينا إزالة فكرة مترسخة في عقل المرأة أولاً قبل أن تكون في عقل الرجل، وهي أن الرجل وحده ما زال قادراً على حمايتها بوضعها الحالي، وهو وحده قادر على العمل لتغيير القوانين. للمرأة دور، ودور أول وأساسي لن تستطيع لعبه إن لم تؤمن بالتعاضد النسائي أو النسوي. في ثقافتنا العربية نفتقر إلى هذا الأمر بسبب ما ذكرته سابقاً وهو أن العصبيات العائلية أقوى من أي أمر آخر. تحمل المرأة تلك القيم أيضاً بدلاً من كسرها. عليها العمل لتغيير تلك العقلية التي تذهب هي ضحيتها أولاً. العصبيات العائلية والطائفية التي تجعل من سلوك المرأة بوصلة لشرف العائلة وشرف الطائفة وشرف المجتمع. أفكر الآن بالكم الهائل من المحاميات العربيات، الطبيبات، الصحافيات الحاصلات على شهادات عليا، واللواتي يدرّسن في الجامعات. النساء اللواتي لا ينقصهن أي شيء لتسلّم زمام القيادة. القيادة أولاً في إدارة المرأة لحياتها الشخصية وعائلتها وعلاقتها مع العام أي مع السياسة والمجتمع. القيادة في التغيير. هذا ما أعوّل عليه. علينا كنساء العمل على خلق شبكات اجتماعية خارج العائلة وخارج الدين. شبكات مدنية يحميها القانون المدني وتعترف بها الدولة المدنية. هكذا نستطيع خرق حصون الشأن العام الذي هو غالباً للرجل. على المرأة أن تثق بقوتها وبقدرتها على التغيير. أن تؤمن أنها تستطيع أن تمثل شريحة من المجتمع عبر ترشحها للانتخابات البرلمانية وأنها قادرة على الإمساك بزمام حقيبة وزارية، وأنها ستكون جديرة بتبوّء مراكز لقيادة السياسات التعليمية أو الصحية في البلاد. ما ينقص المرأة العربية هو شعور التعاضد النسوي. لكن ليس من المستحيل خلقه رغم الصعوبات بسبب سلطة العائلة كما ذكرت وقيمها التي تمنع أي رابط يتجاوز روابط الدم والنسب. تغيير القوانين المجحفة يأتي من هنا، من تعاضد النساء ومن التعامل مع التغيير كأولوية. التجربة التونسية خير مثال لنا. التغيير ممكن. وأنا سعيدة اليوم بعد إلغاء المادة 522 المشينة من قانون العقوبات اللبناني التي كانت تجيز للمغتصب البراءة إن تزوج من الضحية. ألغيت هذه المادة بفضل جهود أفراد الجمعيات المدنية نساءً ورجالاً. أحيي الجمعيات اللبنانية والعربية أينما كانت والتي تعمل، رغم الصعوبات، على تغيير القوانين المجحفة بحق المرأة. بداية الطريق هي في هذا التغيير وأنا لم أفقد الأمل.
*في خضم المأساة السورية المستمرة لسنوات، هل ترين بأن لبنان لا يزال يوفر معيناً خصباً للانتماءات المختلفة والعصبيات الدينية أو الجماعية على أنواعها، وأين يقف المثقف والمبدع مما يحدث اليوم؟
الوضع اللبناني بوجود الأزمة السورية أو في غيابها هو وضع مأساوي أيضاً بسبب النظام السياسي وتدخل القوانين الدينية في الحياة الشخصية، وسلطة رجال السياسة الذين كانوا أمراء حرب وتحولوا إلى أمراء سلم واستولوا على الدولة وكيّفوا سياساتهم بطريقة جهنمية لخدمة مصالحهم بحيث إن العصبيات الطائفية صارت مُعِيناً لهم على استمرار سلطتهم ونهبهم للبلد وتدمير ما تبقى من هيكل الدولة.
قد يكون اللجوء السوري زاد من حدة الاصطفافات السياسية في لبنان لكن كما ذكرت الوضع اللبناني فيه ما يكفي من العوامل السياسية التي يخلقها من هم في الحكم كل يوم لتأجيج الوضع ولإبقاء المواطن في حال من الترقب والهم الأمني بدل السؤال عن الخدمات الأساسية من طبابة وتعليم ومياه نظيفة وكهرباء إلى آخر المعزوفة. نحن في أسوأ وضع يعيشه البلد منذ عقود، تتلمذ فيه رجال السياسة على أيدي مخابرات النظام السوري الذي حكم لبنان بالحديد والنار لأكثر من عقدين. إنهم أسوأ الناس ولا أرى أي بارقة أمل للبنان طالما أن البرلمان وصلت به الوقاحة أن يجدد لنفسه دون رادع ويزيد من معاشات كل برلماني فيه وذلك كله على حساب المواطن اللبناني الذي يهاجر كي يجد لقمة عيشه. والمثقف هو مواطن في نهاية الأمر وهو أيضاً يفقد مساحات التعبير يوماً بعد يوم. لم يعد في لبنان صحافة، والثقافة لا مكان لها حاليا في سياسات الحكومة. الثقافة هي عمل فردي والمثقف يقوم بمجهوده الثقافي بشكل فردي أيضاً. ما يجري ثقافياً على الساحة اللبنانية هو كله مجهود فردي أو مجهود جمعيات أهلية مدنية دون دعم يذكر من الدولة.
*هل تؤمنين بأنه مازال لبيروت أدوار ثقافية جديدة سنراها قريباً، بالرغم من التغييرات التي يشهدها المشهد الثقافي في لبنان والمنطقة بشكل عام؟
دائماً أردّد جملة الكاتب الراحل سعدالله ونوس: “إننا محكومون بالأمل”. بالطبع لبيروت دور ولن يغيب ما زال هناك أصوات ترتفع، وأقلام تكتب، وكتب تنشر وروايات تُقرأ، وأفلام تُصنع، ومسرح يعمل دون أي دعم من الدولة. عشنا الحرب وعنفها والآن نشهد السلم الذي هو لا بسلم حقيقي ولا بحرب حقيقية، نشهد عنفه أيضاً. لا بد من تغيّر يأتي. لا أعلم بعد كيف. أستطيع القول إننا سنستمر رغم كل شيء.
*قلت سابقاً بأنه لا يوجد قارئ عربي بالمفهوم الواسع للقراءة، أي بمعنى أنه يحدد حياة كتاب وسيرورته. كيف تُعرّفين مشكلة القارئ العربي اليوم؟
الوضع حالياً أسوأ من قبل، إذ إن ما يجري في العالم العربي يقوم بتدمير رموز الثقافة من نسيج اجتماعي وبشري كذلك من معمار. علينا مواجهة هذا الأمر، ذلك أن مفهوم الثقافة والقراءة والنشر والكتابة في خطر. المدن التي كانت تقرأ كلها دون استثناء تتعرض للهدم: الخرطوم، بغداد، صنعاء وأمكنة أخرى. التردي السياسي والأمني جعل المواطن العربي في أي بلد كان في حالة استنفار يبحث عن الأمن أولاً وعن لقمة العيش. نجحت أنظمة التخلف والاستبداد والدين الذي تم توظيفه في خدمة من في السلطة، في تحويل عالمنا العربي إلى مستنقع. في ظل هذه الظروف التي نعيش لا يستطيع القارئ العربي تحديد وجهة حياته في بلاده، فكيف بحياة كتاب؟
*تُرجمت أعمالك إلى اللغة الفرنسية والألمانية ولغات أخرى، ما الإضافة التي يحققها لك هذا الأمر؟
وصلت رواياتي إلى القارئ الغربي وهذه تجربة مهمة بالنسبة لي أولاً على الصعيد الإنساني. قراءة عمل مترجم هي بمثابة حوار جديد مع الآخر أي القارئ. أتاحت لي الترجمة معرفة كم تجاربنا متشابهة نحن البشر في أي بلد ولدنا وأقمنا. هناك البعد الإنساني المشترك في أي لغة
أتى العمل الإبداعي. هذا البعد يشمل الجميع ولغته واحدة هي الإنسانية. كما أضافت الترجمات الكثير إلى قدرتي المعرفية بفضل زيارتي للبلدان التي تُرجمت فيها أعمالي وأتاحت لي التعرف إلى ثقافات مختلفة وأدباء وفنانين والاطلاع على أعمالهم وهمومهم وتبادل تجاربنا الأدبية أو الفنية. إنها إضافة نوعية مهمة لمخزوني الإبداعي ولذاكرتي المعرفية والجمالية والإنسانية، ولا بد أنها تؤثر في كتابتي.
*شاركت في الفيلم الوثائقي “أسمهان، ديفا شرقية” والذي يتناول قصّة حياة الفنانة أسمهان الأطرش، حدثينا عن مساهمتك؟
لا أستطيع أن أحدد في أي سن اكتشفت أسمهان، أقول ربما قبل أن أولد وربما كانت أمي تدندن أغنياتها وهي حامل بي. هذا قد يفسر تعلقي بأسمهان الذي لا ينتهي. عام 2005 اتصل بي مخرج إيطالي يقيم في فرنسا وأبدى رغبته في القيام ببحث حول حياة أسمهان من أجل فيلم تسجيلي. قرأ في إحدى مقابلاتي الصحافية في باريس مدى تعلقي بأسمهان وتقديري لها كإنسانة وكفنانة. أتى المخرج إلى بيروت وبدأنا العمل معاً. كان علي أن أنجز بحثاً مطولاً عنها وعن عائلتها وأن أترجم بحثي كي يتسنى للمخرج الاستفادة منه. توقف عملنا لأكثر من أربع سنوات ريثما وجدنا تمويلاً مناسباً للمتابعة. أقمت في القاهرة لمدة شهرين من أجل إنجاز الفيلم. عرض الفيلم للمرة الأولى عام 2012 في مهرجان بياريتز في فرنسا ثم في قنوات تلفزيونية عدة. اليوم تحدوني رغبة جديدة أن أشتغل على فيلم آخر لأسمهان منطلقاً من خلفية مختلفة تماماً هي الخلفية النسوية لحياة أسمهان والتي لمستها أثناء بحثي السابق.
علياء تركي الربيعو
Social Links: