بيئة عمل القطاع العام: القطاع العام محكوم وليس حاكماً

بيئة عمل القطاع العام: القطاع العام محكوم وليس حاكماً

تنشر الرافد مقتطفات من البحث الاقتصادي المهم الذي قدمه الدكتور عارف دليلة في عام 2000 بعنوان ” القطاع العام في سورية … من الحماية إلى المنافسة”، ورغم مرور كل تلك السنوات على الدراسة إلا أن ما يوجد فيها لم يتأثر بمرور الزمن، ونحن اليوم نشاهد ما فعلته سياسات نظام الأسد في الدولة السورية ومؤسساتها من تدمير ممنهج لصالح ثراءها الشخصي مما أدى إلى انفجار الثورة السورية.

الدكتور عارف دليلة

لا يجوز الحكم على ظاهرة محكومة، تابعة، إلا من خلال معرفة مضمون بينها وبين حاكمها أو متبوعها والقطاع العام ليس ظاهرة اجتماعية اقتصادية مستقلة بل هو محكوم بالسلطة التنفيذية بصورة مباشرة من خلال الأشخاص الطبيعيين الذين تختارهم له، ومن خلال القوانين والأنظمة والقرارات والتوجيهات التي تصدرها لهم ومختلف الأتاوات التي تفرض عليه.

إن الملاحظة البارزة فيما يخص إدارة الاقتصاد والمجتمع التي تمارسها السلطة التنفيذية هي أننا شهدنا في العقود الماضية ثباتاً في الإدارة السياسية العليا، وعلى العكس، تنوعاً واختلافات واسعة في أساليب الإدارة العامة التنفيذية، وذلك بقدر الاختلاف في الخصائص الشخصية لرجالها، مما يشير إلى طغيان الطابع الشخصي في الإدارة على المحددات العلمية الموضوعية، وإلى اختلال توازن السلطات وضعف مؤسسة الدستور والقانون، وذلك إلى درجة يصح معها القول إننا بحاجة إلى باحثين في علم تحليل الشخصية والسلوك أكثر من حاجتنا إلى باحثين اقتصاديين اجتماعيين، إذا أردنا التنبؤ بما سيفعله رجال الإدارة العامة أو لتفسير ما فعلوه، هذا ما يدفع بعض الباحثين الأجانب في دراستهم للتطور الاقتصادي –الاجتماعي في سورية خلال العقود الماضية إلى التركيز على شخصية متخذي القرار وعلى كيفية اتخاذ القرار في الممارسة الواقعية إلى درجة تسمية هذه العملية بـ “الاقتصاد السياسي لسورية” كما فعل الباحث الألماني المستعرب “فولكر بيترس” في كتابه الذي صدر قبل عدة سنوات تحت نفس العنوان.

إن الاختلافات الواسعة في الأداء والنتائج، مثلاً، بين حكومتي النصف الأول من الثمانينيات والتسعينيات لا يمكن استقراؤها من مجرد متابعة الخطاب الرسمي، وهذه ملاحظة هامة أخرى لذلك فإن الباحثين لا يتوقفون عند الخطاب الحكومي الرسمي للحكومات السابقة، لأنهم يجدون فيه منسوخات خطاب واحد لا يستطيع المتتبع له التعرف من خلاله على خصائص الواقع الاقتصادي-الاجتماعي في اللحظة المعينة والذي يفترض أن الحكومة تنطلق منه لتعمل على تطويره وتحسينه.

فالخطاب الحكومي في مجال إدارة الاقتصاد والمجتمع كان هو نفسه في الأحوال الجيدة كما في الأحوال السيئة وفي ظروف الحرب كما في الظروف العادية، على مبدأ “مستورة والحمد لله!” لكن النتائج العملية كانت تختلف وتتناقض ما بين حكومة وأخرى أكثر بكثير مما لو كان تبادل الحكومة حزبان متعارضان. يمكن تمييز شيئين ثابتين فقط هما منهج الإدارة الاقتصادية، وسوء الأداء الاقتصادي، الذي جعل الحصائل الاقتصادية، على اختلافها الكبير في الشكل، متفقة في الجوهر، ويكفي برهاناً على ذلك أن نقول أن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على مدى عشرين عاماً وأن مستوى الأجر الحقيقي قد انخفض بدلاً من أن يتضاعفا مرتين على الأقل كما حصل في بلدان أخرى لا تتمتع بما تتمتع به سورية من إمكانات وميزات! وهذا يعني أن النمو الاقتصادي لم يواكب حتى نمو السكان، وكأن حكوماتنا قد استجابت لنداءات نادي روما الشهيرة التي أطلقها في السبعينيات إبان الأزمة الاقتصادية العالمية لضرورة وقف النمو (Zero Growth)  أو النمو صفر، محملة شعبنا مسؤولية حماية مستقبل البشرية من الفناء!

والمشكلة في الخطاب الاقتصادي لم يكن يخضع لأي مراجعة أو مساءلة، لا عند صياغته ولا عند متابعته هذا إذا كان يخضع لأي متابعة على الإطلاق، وإذا حصل وجاء الخطاب في المناسبات على الوقائع والأرقام فإنه كان شغوفاً بالتدليل على الإنجازات بالأرقام الإحصائية بالأسعار التضخمية الجارية ليبين بأن ما يفعلونه يقارب المعجزات والخوارق، والتي لا تستطيع أن تقلل منها الحقائق المعاكسة المعاشة على أرض الواقع، لقد أصبح المواطن يشتهي ويتشوق أن يسمع خطاباً بسيطاً يقول له: أشرقت الشمس، غربت الشمس، جاء الربيع، ذهب الشتاء، انخفض الإنتاج ارتفع الإنتاج، ازداد التهريب، اتسع الفساد، حوصر الفساد، ارتفعت المسروقات، استرجعنا المسروقات ميزانية الدولة وليس إلى جيوب البعض! إننا أصبحنا نعتبر حتى هذا الخطاب الفطري البدائي “تقدماً علمياً” يشار إليه بالبنان! هذه هي بعض ملامح بيئة عمل القطاع العام في المراحل المنصرفة من حياته، ولا يمكن تفهم أوضاعه والحكم على وقائع سير أعماله إلا من خلال الأخذ بالاعتبار لخصائص هذه البيئة التي تحكمه وتنعكس عليه.

ولكننا شئنا أم أبينا دخلنا في الألفية الثالثة للميلاد والتي ستؤرخ بتقويم جديد اسمه عصر العولمة والإنترنت ومع ميلاد التقويم الجديد لا يمكن الاستمرار بالحديث بلغة العصر السابق، كما أن الحديث بعد الهجرة بلغة الجاهلية وبعد المسيح بعقيدة اليهود لم يعد جائزاً، وبغض النظر عن رؤيتنا للعولمة والإنترنت فإن نمط الحياة، أو “نحلة المعاش” حسب تعبير ابن خلدون، بدأت نشهد انقلاباً نوعياً مقارنة بجميع نحل المعاش التي عرفتها البشرية في عمرها السابق، وإن أحداً لا يستطيع التنبؤ بما يحمله هذا الانقلاب من مفاجآت لجميع مناحي الحياة خلال السنوات القليلة القادمة، فكيف إن يوم عصرنا لعام من الزمن الذي مضى!

أمام هذه الحقيقة الجارفة لا بد من تصعيد التساؤلات الملحة حول الوقائع المحيطة بنا، وحول مستوى استعدادنا للتعامل مع العالم في وضعيته الراهنة والمستقبلية، والمكانة التي نتوقعها لأنفسنا في قطار هذا العالم بخلاف تلك المكانة التي انشغل البعض بحجزها لأنفسهم في المركبات الخلفية من قطار العولمة تاركين شعبهم يراوح في مكانه في خضم الفقر والتخلف الناجم عن سلوكياتهم وممارساتهم المستهترة بالمسؤوليات التي أوكلت إليهم على مدى سنوات طويلة لم يشعروا خلالها للحظة واحدة أنهم وشعبهم يركبون مركباً واحداً إما أن ينجو معاً أو يغرقوا معاً.

إن المهمة الأعظم التي تواجهنا في العصر الجديد هي إيجاد سبل الخروج من حالة غياب الوعي وموت الإحساس بالزمن وضرورات المواكبة، والتخلص من مرض التبلد الذهني تجاه كل ما ترتبه تساؤلات وتحديات هذا العصر من واجبات ومسؤوليات. وتعبئة للإمكانات المادية وللطاقات البشرية، ولكن كيف يمكن ذلك والناس مشحونون للعمل ضد أنفسهم، بوعي وبدون وعي، والأمر سيان لديهم بين الصواب والحق وبين الخطأ والباطل. وكيف يمكن ذلك والناس يرفضون أن ينظروا إلى غير وجوههم في المرآة. ويرفضون أن يصغوا إلى غير صوتهم، أو الاعتراف ببشر غير بشرهم، أو الاقتناع بأن لا تناقص إطلاقاً بين صالحهم الخاص والصالح العام حتى عندما يكون ثمن الصالح الخاص ليس الانتقاص من العام فحسب بل دمار العام كله.

  • Social Links:

Leave a Reply